اغتصاب منصات الشعر
د. حسن مغازى، شيخ النحو، وموسيقار الشعر العربى فى كلية الآداب
تعلمنا فى(النقد الأدبى) قالة ناقد أوروبى؛ فحواها أن الفرنسية (لغة الحب)، والإنجليزية (لغة الحرب)، والعربية (لغة الشعر)، وإذا كان شعر الفرنسية متميزا فى كلماته، وشعر الإنجليزية متميزا فى تصويره فإن الميزة الكبرى لـ(ديوان العربية) عما سواه من آداب الأمم الأخرى تكمن فى(موسيقاه).
نشأنا منذ ميعة الصبا، ومنذ شرخ الشباب على أن (الشعر) هو تلك (القصائد)العصماء الخوالد، نذكر (صدر) أى (بيت) منها، فيردد الحاضرون (عجز) ذلك (البيت)، بعض أولئك الحاضرين يعتمد على (حفظه) ذلك (البيت)، أو تلك (القصيدة)، وبعضهم يعتمد على أن دلالة (الصدر)لا اكتمال لها إلا بذلك (العجز) بصفة خاصة، ولا غرو؛ فقد قالت حكمة العرب إن الكلام الحكيم (ما أراك صدره عجزه)، و(ما يشد أوله آخره)، وكان ذلك واحدا من أهم (معايير النقد)، وربما وجدنا (ثلة)من أولئك الحاضرين يستكملون البيت من طريق ثالثة، هى أن (نغم) ذلك (الصدر) لا اكتمال لها إلا بذلك (العجز).
فى ثلاثة الأحوال تلك تحدث(المتعة) لدى الجميع، سواء من(دهشة) نابعة من أى من تلك الوسائل الثلاث، وتنبع (المعرفة) من استكمال دلالة (البيت)، ومعانى(القصيدة)، وتلك هى ثلاث النتائج التى تتحقق لمتلقى (الشعر)، هن (الدهشة، المتعة، المعرفة)، أو قل هن (أبرز النتائج).
والأدب ـ بشتى أجناسه ـ لابد من أن يتميز عن(كلام الدهماء)، سواء أكان جنس الأدب قصة، أم مسرحية، أم (قصيدة)، أم حكمة، أم مثلا، أم خطبة، أم… إلخ؛ فأجناس الأدب لابد من أن يعتمد الأديب فى كل منها على(ست وسائل) على الأقل لابد من توافرها مجتمعة بدرجات، تتفاوت من أديب إلى آخر فى كل جنس أدبى.
ست الوسائل التى يعتمد عليها (الأديب) فى (نتاجه): أولاها (صحة اللغة) فى صياغة (الكلمة)، وفى (تكوين الجملة)، وثانيتها (استحقاق الفكرة) أن يبذل فى نتاجها أديب جهده، وثالثتها (درجة الإحساس) لدى ذلك الأديب بفكرته، ورابعتها (درجة الخيال) التى يستعملها ذلك الأديب فى التعبير عن فكرته، وخامستها (درجة التكثيف) فى لغته؛ بحيث لا يعمق لدرجة (الغموض)، ولا يضحل لدرجة (الترهل)، وسادستها (مستوى الرمز، والإيحاء)؛ بحيث يبرأ النتاج من(المباشرة).
مجرد (وجود) تلك(الوسائل) مجتمعة فى(النتاج) يسلكه فى (أجناس الأدب)، وباختلاف درجة كل من تلك الوسائل فى ذلك (النتاج) تختلف درجة منتجه، ذلك (الأديب) الذى أنتج ذلك (العمل)، أيا كان جنسه، وهذا يعنى أن (افتقاد) الكلام تلك (الوسائل) مجتمعة، أو منفردة يسلكه فى (كلام الدهماء)، ويفصله عن (الأدب).
يتميز جنس (الشعر) عن سائر(أجناس الأدب) بوسيلة سابعة وحيدة، لا ثانى لها؛ هى ذلك (النغم) السارى فى أوصال (البيت)؛ بحيث يجعل أذن المتلقى قادرة على (توقع) القادم من ذلك (القول)، ولو بصفة مجملة؛ دعنى أجرب معك ـ قارئى العزيز ـ هذى التجربة من نتاج شاعر رائع، لكنى أقصد اختيار بيت، ربما لم تستمتع بسماعه من قبل؛ حتى تصح تجربة التوقع تلك، اسمع معى قول ذلك الشاعر المتميز:
يموت الخائفون بلا رصاص / ويعلى هامة الثوار …
تنقص من(البيت)كلمة واحدة فى نهاية (عجزه)، يمكنك الاعتماد على(النغم)فى استكمالها من عندك:
تتن تن تن/تتن ت ت تن/ تتن تن///تتن تن تن/تتن تن تن/ ت(..)
ليس أمام (الشاعر) فى هذا الموضع سوى هذا اللفظ، يجد (الشاعر) نفسه (منساقا) إليه، لا يجد لنفسه فكاكا عنه، كأن (كائنا غريبا) يدفعه دفعا إلي اللفظ المطلوب دون غيره، ولعل هذى الحال هى التى دفعت (الشاعر الناقد القديم) إلى (اعتقاد) أن وراء كل (شاعر) مجيد (جنيا)، يدفعه، دعنى أفسر لك ـ قارئى العزيز ـ هنا أن ذلك (الكائن الغريب) هو ذلك (النغم)، لكن لأن اكتشاف (النغم) جاء متأخرا بعد منتصف القرن الهجرى الأول لم يجد (القديم) تسمية فى سوى (الجن) لدفع (الشاعر) إلى (القول)، واعلم ـ قارئى العزيز ـ أن هذا التفسير لن تجده عند سوانا، توصلنا إليه هنا الآن ببركة تسطيرى مقالتى هذى إليك.
هذا يعنى أن خلو (الأدب) من ذلك (النغم) يفقده (حتما) شاعريته، مهما توافر فيه من درجات تلك (الوسائل الست)، لا يصح لذلك (الأديب) مزاحمة (الشاعر) فى عرشه، إنما يقال له:
إذا الورود خلت من طيب نفحتها / فلا تزاحم بها فى الأرض بستانا
وإذا خلا المرء من فهم ومعرفة / ظلمت نفسك إذ تدعوه إنسانا
وهذا (التوقع) يعتمد فيه ذلك المتلقى على أن لهذا (النغم) أصولا مرعية متفقا عليها، وإذا خرج (المنتج) عليها يكون قد أخلف لدى (المتلقى) توقعه، وذلك (الإخلاف) هو الذى يسوغ لكل (ناقد حصيف) أن يحكم على ذلك (النتاج) بأنه (ليس شعرا).
والأصول المرعية فى (النغم) تكفل بها (علم) مستقل؛ هو الذى نسميه أكاديميا (علم العروض) بفتح العين؛ أسسه بعد منتصف القرن الهجرى الأول الخليل بن أحمد الفراهيدى المتوفى عام واحد وتسعين من الهجرة الشريفة بصاحبها النبى الخاتم؛ اللهم صل لى عليه، وسلم لى عليه، استنبط أصول (النغم) من ذلك المقدار الضخم من الأشعار التى قرضها شعراء الجاهلية وصدر الإسلام حتى أيامه رحمه الله؛ دافعه إلى ذلك الاستنباط أن يرد (المتشاعرين) فى عصره إلى (جادة الطريق)؛ فمن (استطاع) منهم القرض على (النغم) فهو (الشاعر)، ومن لم يستطع كان يدع ذلك الميدان لأهله؛ كفعل الأصمعى، وهو من هو لغة، وأدبا، وشعرا، عندما شكا للخليل (عدم قدرته) على القرض حسب النغم؛ حيث رد الخليل عليه؛ ليصرفه بحكمة بالغة؛ إذ طلب منه أن يزن البيت الشهير:
إذا لم تستطع أمرا فدعه / وجاوزه إلى ما تستطيع
وليس بين الطريقين طريق ثالث؛ فإما أن تتبع أسس (النغم) فتكون (شاعرا)، وتختلف درجة شاعريتك حسب درجتك فى ست الوسائل التى سبق ذكرها، وإما أن تكون (غير شاعر)، لكنك (أديب) لافتقادك (النغم)، لكن ست الوسائل متوفرة فى نتاجك، إلا أن تكون (من الدهماء) لافتقادك كلا من (النغم)، و(ست الوسائل).
ينتج عن هذا أن الذين (يتشاكون) من صعوبة القول على (النغم) مظهرين ذلك، أو مخبئينه فى ادعائهم أن فى (النغم) ما يسمونه (رتابة)، أو (قيودا)، ثم ينطلقون بما يقترفونه، ثم يجرمون بتسميته (شعرا) (حرا) إنما يفسدون علينا (ديوان العربية)، ويفسدون (الذوق العام)، ومع ذلك نراهم (يغتصبون) جميع (منصات) ذلك (الديوان)فى بلادنا، رسمية كانت، أم غير رسمية.
يعتمد أولئك (المتشاكون) فى (انتشارهم) على وسائل، تتسم (جميعها) بأنها وسائل غير فنية، وغير أدبية، وغير عقلية، وغير صواب، وغير قانونية، وكثيرا غير مهذبة.
وقد (رصدت) اثنتى عشرة وسيلة (يتسلق) على كل منها مجتمعة أصحاب( … الحر)، وأصحاب( … النثرية) فى وصولهم إلى اغتصاب منصات (الشعر) لدرجة أن صار(الشاعر) غريبا فى مجتمعاتنا ثقافية، وأدبية، وأكاديمية، وقد اعتمدت فى هذا (الرصد) على (معايشة) يومية مقصودة على مدار العامين الأخيرين لتلك البيئات، إضافة إلى (مشاهداتى) غير المقصودة على مدار ربع القرن الأخير، وتتكفل السطور الآتية ببيان ذلك (الرصد).
الوسيلة الأولى حسن تربية (الشاعر)، ورهافة حسه، وسمو ذوقه؛ فهو يبحث دوما عن الخير، ويحسن التعبير عنه لنفسه، ولمن حوله فى دوائر تتسع؛ لتشمل الكون كله، هو كذلك، وجمهوره أيضا كذلك، لا يحسن التعامل مع (البذاءة)، و(السوقية)، و(الانحطاط).
الوسيلة الثانية سوء تربية ذلك (المتسلق)، وغلاظة حسه، وانحطاط ذوقه؛ فهو يبحث دوما عن (الانتشار)، ولو فقد فى سبيل ذلك كل صواب، ويوظف تلك (الخصائص)فى تحقيق (مأربه)، ومن حوله دوما (جوقة)، يختارهم بعناية، يساعدونه بـ(الخصائص) ذاتها ضد (الشاعر)، (يتجشأ) هو، فيصفقون، و(يغرد) ذلك (الشاعر)؛ فيسلقونه بألسنة حداد، أشحة على (الفن)، أولئك لم (يبدعوا)، فأحبط (الشعر) (أقياءهم)، وكان ذلك على (النقد) يسيرا، لكن (جوقتهم) يتصارخون فى وجه (الشاعر) بما اتفقوا من قبل على (قيئه)، وأحرص ـ معتذرا ـ على (نقل) أقوالهم، ومن ذلك تبجحهم، وسوقيتهم بقولهم له (إنت مباشر جدا)، (شوية طرب وخلاص)، (مين ح يسمع ده ؟)، (إنت لسة فى أبو ضلفتين يا عم) … إلخ.
الوسيلة الثالثة جهل الجمهور؛ فغالبية أفراد الجمهور غير دارسين فى المسألة هذى، وليس عندهم الوعى الكافى للتفرقة بين الجيد والردىء، والسمة الغالبة فيهم الانسياق وراء أى تصفيق، أيا كان مصدره، ذلك سلوك عام، يفت فى عضد (الشاعر) المهذب، وينفخ فى (عضلات) ذلك (المتسلق).
الوسيلة الرابعة جهل أجهزة الدولة؛ فالمسئول وزيرا كان، أم رئيس هيئة، أم مدير مؤسسة، هو ليس شاعرا، وليس دارسا فى هذى الناحية، بل إنه فى غالبية الأحوال قضى معظم عمره فى نقيض (الخيال، والإحساس، والرمز، والتكثيف، واللغة)؛ قضاه فى سلك الجندية غالبا، ولذلك يأتى قراره، واختياراته دوما على نقيض المتوقع منه، ومنه يستفيد ذلك (المتسلق) المنتظر أية لحظة، يقتنص فيها منه مأربه، ينتج عن ذلك أن جميع مؤسساتنا الرسمية المنوط بها ميدان (الشعر) يغتصبها أولئك (المتسلقون)، وبقرار رسمى من ذلك المسئول الجاهل بـ(الشعر).
الوسيلة الخامسة (الشللية)، نعم، أقصد الدلالة المتداولة لهذا اللفظ، إنها تعبر بدقة عما يحدث فى إدارة مؤسسات (الشعر) فى بلادنا؛ فالمسئول (الجاهل) بـ(الشعر) يصدر قراره باختياره ذلك (المتسلق )المنتظر اقتناص اللحظة، ثم يستقطب ذلك (المتسلق) جوقته؛ ليكونوا حوله، يرتكن إلى (تصويتهم)، سواء حول منصة الإلقاء، أم فى قرارات مجلس الإدارة، فإن وجدنا (شاعرا) فى تلك المؤسسة فإنه حينئذ يتيم، لا حول له، ولا قوة فى اتخاذ القرار.
الوسيلة السادسة المصالح الخاصة؛ نعم أقصد هذا؛ فالذى يعتلى مقعد (الهيئة العامة لـ …)، أو مقعد (المجلس الأعلى لـ …)، أو (بيت ثقافة …)، أو (نادى أدب …)، وهو الذى وصل إلى مقعده بقرار رسمى، عرفنا خصائصه ـ هو فى النهاية شخص، ترمقه الأنظار، وترنو إليه عيون (المسئولين )فى جهات أخرى؛ أكاديمية، كانت أم ثقافية، وكل مسئول من أولئك (يتطلع) إلى أن يكون عضوا فى (المجلس الأعلى للـ …)، وهنا يظهر جليا (تبادل المصالح، خذنى عضوا فى ذلك (المجلس)آخذك عضوا خارجيا فى (مجلس كلية كذا)، أو فى (مجلس أمناء جامعة كذا)، ويصدر القراران متبادلين (المصالح الخاصة)، رغم أن الشخصين لا علاقة لأى منهما أصلا بأى من(المؤسستين الرسميتين).
الوسيلة السابعة انزلاق (الشيوخ) من الشعراء، ذلك بأننا صرنا نرى (شعراء)كبارا فى الساحة (يقترفون) كبائر ( … الحر)، أو ( … النثرية)، ربما من باب التجربة، وربما من باب الإدلال بالتمكن من ذلك، وربما من باب المجاملة، وربما من باب تبادل المصالح، وربما من باب إثبات الحداثة، وربما …، وهم يعلمون أن ذلك يسىء إلى تاريخهم، ويلوث الفن الراقى لديهم.
الوسيلة الثامنة انزلاق (نقاد) كبار إلى الاعتراف بأن ( … الحر)، و ( … النثرية) معدود فى (الشعر)، وكذلك لمعان أسماء (نقدة) مزيفين، يعترفون بالأمر ذاته؛ فذلك ينفح هؤلاء روحا، تجعلهم يظنون أنفسهم وحدهم من دون سواهم (الشعراء)، لاسيما أن (الجمهور الجاهل) ينبهر بلمعان تلك الأسماء.
الوسيلة التاسعة الإلغاز والتعمية؛ فوراء ذلك الحاجز اللغوى يختبئ ذلك الشخص (القمىء)؛ ليشغل المتلقى عن النظر فى (الفن) بالبحث فى (فهم اللغة)، ذلك مقصود، وحين تسأله يجيبك بأنه لابد من (الرمز)، وهو لا يدرى، وربما يدرى أن (الرمز) وسيلة من (ست الوسائل) فى إنتاج (الأدب) بشتى أجناسه، وهى وسيلة ينبغى فى استخدامها الحرص على السير بين النقيضين؛ بين (المباشرة)، و(الإلغاز)، فإن (الانحراف) إلى أى من ذينكم (النقيضين) لا يصح.
الوسيلة العاشرة الألفاظ الاشتراكية؛ أقصد ذلك المعجم الكلامى الذى استخدمه مثقفونا فى ستينات القرن الماضى، أيام انتشار الفكر الماركسى فى بلادنا، يختبئ وراء ستار من تلك الألفاظ أصحاب ( … الحر)، و( … النثرية) لشغل المتلقى عن النظر فى مدى جودة ذلك (النتاج) الأدبى.
الوسيلة الحادية عشرة رغبة (الكثيرات) فى القول من دون سلاح المعرفة، هى فقط تريد أن يسمع (الجمهور) تنهداتها أثناء (الإلقاء)، مع الحصول على الثناء، والإعجاب، والتصفيق، وذلك (الصنف) من (الجمهور) يسعده أن يمنحها ذلك فى مقابل أن (يتلذذ) بسماع (تنهداتها) على (المنصة)، والذى لحظته فى أولئك أن معظمهن (خرج بيت) بشكل، أو بآخر، حقيقة، أو حكما، وربما هى بما تفعله لا تقصد (الشعر) بقدر ما تقصد (إذلال) ذلك (الرجل) الذى (أخرجها) من بيته فى عيون ذلك (الجمهور) المتعطش للتلذذ بآهاتها على تلك (المنصة)، وربما من خلال ذلك تصل إلى (مراتب) متعددة، ومتنوعة.
الوسيلة الثانية عشرة سوء استغلالهم (احتياج النظام السياسى) إلى من يحسن صورته لدى الجمهور، خصوصا بعد (طرد الملك)، ولاسيما بعد (هزيمة يونيو 1967)، لقد كانت ساحة الأدب مفعمة بأرقى هاماتها؛ بالعمالقة؛ من شوقى إلى حافظ، إلى العقاد، إلى المازنى، إلى شكرى، إلى الرافعى، إلى المنفلوطى، إلى …، لكن أيا من تلك القامات السامقة لن ينزلق فى (تحسين خطايا النظام)، لقد كانوا يواجهون الملك، ويهاجمونه على صفحات الجرائد، فكان لابد من تخطيهم، وتلميع جيل آخر، يوافق النظام الجديد فى كوارثه؛ فجيل الكبار لن ينافق، فلم يبق أمام النظام سوى (استئجار) من يمكنه اقتراف ذلك من (مجاهيل) آنذاك فى (صفقة فساد ضخمة)؛ يحسنون شكله فى مقابل أن (يصنع) إعلامه منهم (تضخيما) فجا، (ينطلى) على (جمهور جاهل).
ينتج عن (اجتماع) تلك (الوسائل) سيطرة أولئك على منصات (الشعر) اغتصابا، ثم إنهم حتى يفسحوا لأنفسهم الساحة يلجأون إلى (حيل) أخرى؛ منها أنك تجدهم يقصدون قصدا تصنيفا غريبا حين يقولون (شعر الفصحى)، ذلك اسم لجنة فى (اتحاد كتاب مصر) على سبيل المثال، وقد أعلنت مرارا من فوق منصة تلك المؤسسة مدى (الخطل) فى تسمية تلك اللجنة؛ فمن ناحية لا (شعر) بسوى الفصحى؛ حيث إن (العامى الموزون) ليس شعرا، ومنتجه ليس شاعرا، إنما هو (الزجل)، ومنتجه هو (الزجال)، هذا ما تعلمناه من شيوخنا فى النقد الأدبى، وفى أجناس الأدب، ومن ناحية أخرى يتخذ ذلك أصحاب( … الحر)، و( … النثرية) تكأة لاعتبار (نتاجهم) من جنس (الشعر)؛ بحكم أنه (فصيح)، لا عامى، قلت على تلك (المنصة) إن التسمية الصحيحة لتلك (اللجنة) إنها (لجنة الشعر) من دون احتياج إلى إضافة (شعر) إلى (الفصحى) غلقا لتينكم (السوأتين).
قال محمود شاكر (وإن امرأ يقتل لغته، وبيانها، وآخر يقتل نفسه لمثلان، والثانى أعقل الرجلين، ذلك أن (بيان العربية) كامن فى(شعرها)؛ كما ورثناه.
وينتج أيضا من وسائلهم تلك (تبجح) أصحاب( … الحر)، و( … النثرية)، يعتمدون على ذلك فى تحقيق ذواتهم؛ أرصد لك ـ قارئى العزيز ـ بضعة نماذج من(تعامل) رؤوس أصحاب ذلك (التجديد) مع (قامات الشعر العربى).
النموذج الأول (نازك الملائكة) فتاة بغداد المولودة 1923، حاصلة على دبلوم المعلمات 1944، انظر (تبجحها) على جميع أدباء العربية على مدار تاريخها فى قولها (إن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء؛ لأن كتابها، وشعراءها لم يعتادوا استغلال القوى الكامنة وراء الألفاظ استغلالا تاما إلا حديثا؛ فقد بقيت الألفاظ طيلة قرون الفترة الراكدة المظلمة، تستعمل بمعانيها الشائعة وحدها).
النموذج الثانى (محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى) خريج قسم اللغة العربية، وتقديره (مقبول) سنة 1951، ومع ذلك أخرج (عمله) الأول (الناس فى بلادى) 1957، رغم صعوبات النشر آنذاك على كبار القامات السامقة فى سماء الأدب من أمثال (طه حسين)، و(العقاد)، وأضرابهما، ترى من ساعده؟ ولماذا ساعد (عبد الصبور) فى ذلك؟.
النموذج الثالث (أحمد عبد المعطى حجازى) الحاصل على دبلوم المعلمين سنة 1955، ثم قدمه للساحة (رجاء النقاش)، ونشر (عمله) الأول (مدينة بلا قلب)1959 ، وفى (السنة) نفسها صدر له (عمله) الثانى (أوراس)، وهو يعلن أنه بدأ من سنة 1955 فى إنتاج هذين العملين، وقد قررت آنذاك (لجنة الشعر) فى (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب) النظر فى نتاج المبدعين عن العدوان الثلاثى، وقد رشح كل من (كامل الشناوى)، و(على أحمد باكثير) بعض (أعمال) لـ(حجازى) فى تلك المسابقة، لكن (العقاد)، وقد كان (رئيس لجنة الشعر)آنذاك رفض تلك (الأعمال)، ووقع عليها بعبارته الشهيرة:
(تحال إلى لجنة النثر لعدم الاختصاص).
وقد استقبل الملف فى (لجنة النثر) رئيسها (عبد القادر المازنى)، فاستقوى الشاب (حجازى) على الشيخ (العقاد)، وسلقه بلسان حاد (على نغم البسيط) قائلا:
من أى بحـــــــــــر عصى الريــــح تطلبه إن كنت تبكى عليه نحــــــــــــن نكتبـــــه
يا من يحـــــــــــدث فى كل الأمـــــور ولا يكاد يحــــــــــــــسـن أمــــرا أو يقـربــــــــــه
أقول فيك هجـــــــــــائى وهــــــــــــــــو أوله وأنت آخــــــر مهجـــــــــــــــو وأنســــــــــبه
تعيـــــش فى عصرنا ضيـــــفا وتشــتمنا أنـــــا بإيقـــــاعه نشــــــدو ونطــــــــــــربه
وأنـــنا نمنـــــــح الأيــــــــــــــــام مـــــا طلبت وفيك ضاع مــــــــــــــــــن التاريخ مطلبه
وفيــــــــــك لا أمســــــــــنا زاه ولا غـــــــدنا وفيك أبــــهـــــــت مــــــا فيــــــــــنا وأكذبه
وتدعى الرأى فيــــــــــــــــــــــــما أنت متهم فيــــــــــه وتســــــــــألنا عمــــــــــــا تخربه
وإنه الحـــــــــــــــــــــــــــمق لا رأى ولا خلق يعطيك رب الورى رأســـــــــــــــــا فتركبه
النموذج الرابع (محمد عفيفى مطر)، المولود سنة 1935، وقد تخرج فى قسم الفلسفة، وتقديره جيد، أول نشر له كان فى 1957؛ أى أنه نشر، وعمره اثنتان وعشرون سنة فى عدد من الصحف، ولما انتقده شيوخ (الشعر) سلق كبيرهم (شوقى) بلسان حاد، وكان من ذلك قوله:
دعوا التشطير والتخميـس هذا الشعر أجداث
وأوهام مخرقة وأضغاث
دعوا الخيام يشرب كأسه وحده
ويلعن ظلمة الحفرة
ويشكو قسوة الأقدار للندمان
دعوا شوقى يسبح ربه السلطان
ويلبس تاج مملكة مزيفة بلا تيجان
دعوا الموتى
ويا أسفا مضوا تركوا
حروفا طرزت بالوشى والصنعة
وليس بها عبير تراب
النموذج الخامس (كمال نشأت)خريج قسم اللغة العربية من كلية الآداب فى جامعة فؤاد الأول سنة 1948، وتقديره (مقبول)، وتبجحه ضد الشاعر العقادى (العوضى الوكيل) نربأ عن ذكره هنا.
إن (استحسان الرداءة) هو النقطة الثامنة من عشر نقاط، يتكون منها (برنامج) نعوم تشومسكى اليهودى الأمريكى لإسقاط الأمم، عرض برنامجه هذا على الكونجريس فى ثمانينات القرن الماضى، وحصل على الموافقة على برنامجه هذا، واستخدموه بمهارة فائقة فى إسقاط امبراطورية (الاتحاد السوفيتى)، ونشرها فى كتابه الذائع (أسلحة صامتة فى حروب هادئة)، وعشر النقاط تلك (إلهاء الشعوب، تسبيب المشاكل مع التلويح بالحلول، التدرج، التأجيل، استطفال الشعوب، إثارة العاطفة بديلا عن الفكر، استبقاء الجهل، استحسان الرداءة، تقوية الإحساس بالذنب، ادعاء المعرفة بالشعوب أكثر من معرفتها بذاتها).
وأنت ـ قارئى العزيز ـ يمكنك أن تطلب من كل رأس من رؤوس( … الحر)، و( … النثرية) أن يختار لك أجود ما جادت به قريحته، ثم ضعه فى كفة الميزان، ثم ضع فى الكفة الأخرى أى بيت، تختاره عشوائيا من المتنبى، أو البحترى، أو أبى تمام … حينئذ لابد أن ترجح فى عينك كفة (الشاعر)، وأن تشيل فى عينك كفة (الآخر)، بل إنك مكتشف حينئذ مدى (حمق) ذلك الآخر حين يصنف نفسه بين (الشعراء)؛ فمهما حاول تجويد (عمله) يظل فى (منتهى الضعف) أمام أى (شاعر)، بل حتى أمام (الناثرين)؛ كالرافعى، والمنفلوطى، وأضرابهما.
إنه فى تلك الحال كشأن طفل، تربيه مفتول العضلات، ربما يبز أقرانه جميعا، لكنه فى النهاية لا قيمة له أمام مصارع عالمى كمحمد على كلاى مثلا، إنه فى منتهى الضعف أمامه؛ ومن ثم وجب على أفراد تلك الحركة أن يرحموا أنفسهم من تلك الموازنة الحتمية بأن يمتنعوا نهائيا عن تصنيف أنفسهم (شعراء)، عليهم أن يجدوا لأنفسهم تصنيفا خارج أسوار (الشعراء).
عندما ظهرت (المسرحية) جنسا أدبيا لم يصنف مبدعها نفسه (شاعرا)؛ إنما قال إنه (مسرحى)، وكذلك مبدع (الرواية) قال إنه (روائى)، ومن ثم نال كل منهما استحسانا باقيا دائما، فإن لم يجرؤ صاحب ( … الحر)، و( … النثرية) على إيجاد تصنيف، يخصه فإنه يترك ذلك حتما لنا نحن النقاد؛ لنضعه فى تصنيف، يليق به، من جنس عمله، وعمله الذى يعلنه دائما هو (الخروج) على الأصول المرعية، و(الشكوى) مما يسميه (رتابة)، و(مللا)، و(تحطيم) ما يسميه (قيود الخليل)، ونحن لن نبخل عليه، ولن نبعد فى تصنيفنا إياه عما يعلنه هو عن نفسه من (نقاط)، كلها تنبئ عن (ضعفه)، و(عدم قدرته)، و(كثرة تطلعه)، (م الآخر كدة ما بيقدرش، وما بيعرفش، وعايز).
لقد قرأت لأخ من (اتحاد كتاب مصر) منشورا فى صفحته على (فيس بوك)، نشر فيه أسماء مائة شخص، يلقى كل منهم نتاجه فى منصات (معرض القاهرة الدولى للكتاب يناير 1916)، على أن كلا منهم يرى نتاجه (شعرا)، وعند (الفحص) خرجت بأن (ثلاثة) فقط هم الذين يستحقون ذلك (التصنيف)، ومع ذلك فإن الأموال المنفقة على هؤلاء تفوق كل ما حصل عليه المتنبى من كافور، انطبق المثل:
(الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون العنب)
انطباق الحافر على الحافر؛ فقد أخبرنى أحدهم أن (فلانا) يدير اللقاء ساعة ونصف الساعة فى تلك المنتديات بألف وخمسمائة جنيه؛ لأنه (شاعر عالمى)، وعندما سئل (على بن أبى طالب) ما الذى يفسد القوم رد بقالته الشهيرة (أن تضع الصغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، والتابع مكان القائد).
لقد طرد أفلاطون فى المدينة الفاضلة أهل (الموسيقا الرخيصة)، لكنه أبقى (شعراء الملاحم)؛ لأنهم عنده حراس المستقبل، وليس فى (الموسيقا) أرخص من ذلك (الحمق) الذى (نقله) أصحاب( … الحر) ، و( … النثرية) من لغات مغايرة إلى لغتنا، ثم إن أى مستعمر خطوته الأولى بعد تسريح الجيش الوطنى (عضلات الدولة) دوما هى تحويل دفة الثقافة، والإعلام (لسان الدولة، وعقلها)، ثم التأثير على إحساس الدولة وشعورها وعصبها متمثلا فى (الشعراء)؛ فهل يمكننا الخلوص إلى أن هؤلاء هم (الطابور الخامس) ضد فكرنا، وثقافتنا فيما نخوضه من حروب.
وسوم: العدد 655