محبرة الخليقة (61)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

قصيدة حبّ للأرض:

         العروس الحزينة

--------------------------------

(                     آهِ يا ايّتها الأرضُ التي قدْ

  جئتُ منها ، وبها من بعد موتي سوف أبقى ،

  إنّ ما قد قاله الغيبُ

                      إهانهْ ،

                    وخيانهْ . )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا القسم "قصيدة حبّ للأرض" ، تستمر دوّامة الأسئلة من جديد حتى أن الشاعر يفتتحه بقصيدة عنوانها "أسئلة" ، وهي قصيدة مزحومة بالتساؤلات المشككة في معنى وجود الشاعر والغاية من مجيئه . وأغلب هذه التساؤلات معروض في صيغة حقائق ووقائع سوف تطويها يد الفناء ، ولهذا فهي محض سؤال عابرفي دفتر الزمان . ولكن ما ينضاف هنا هو أن الشاعر يخبرنا بأن هذه الأسئلة قد حصلت على إجابات من الدين ، ومن العلم ، ومن الكل .. لكن .. يستدرك فقد تعطّل جواب الشعر :

(  وإنّيْ الشعرُ مُرٌّ ،

                       وحزينْ .

                        طُفنَ حوليْ ، حسرات الروحِ ، وانضحنَ

  بشمعٍ جسديْ ، علّقننيْ

                        فوق صليبيْ .

                              يا أنا ، يا أيها الصبحُ الذي

  قد ألبسته الريحُ

                        قمصانَ الغروبِ . – ص 1540) .

الشعر نفسه قد انثكل وصار مفزوعاً من شبح الموت الذي لا يُهادن . فما الذي يفعله الشعر وهو يعلم أنّ الفناء مقدرٌ بصورة مطلقة ؟ وما الذي يفعله الشاعر حين يعي الموت كإشكال وكمشكلة لا مفرّ منها ؟

إن واحداً من أهم أفعال الشعر المقاومة للفناء هي شحذ الذاكرة الطفلية عند حضور المثكل . وكأنّ الشعر بهذه الحركة التراجعية السريعة جداً نحو الطفولة ، يعيد الفرد المهدّد بقطار الذكريات إلى منابع البدء ، ومن عادة قطار الذكريات أنه يتحرّك عكس اتجاه قطار الموت السريع . في "كنتُ طفلاً" (1541 – 1543) تحسّ بلمسة من تساؤلات إيليا أبي ماضي الموجعة في قصيدته الشهيرة "لست ادري" . هنا يستذكر الشاعر أمّه الأرض ، وكيف كانت جميلة جدا في عيني الطفولة ، وساحرة . كانت حياته الصغيرة عبارة عن مفردات محدودة أنيسة وبريئة : طفل ، وعصفور ، ومرمى شجر ، وماء . ماء يجري برقة ونعومة .. ويتمنى أن عمره كان يجري مثل هذا الماء نقيّاً ومتجدّداً بلا نهاية .. يجري ..ويجري حسب . وعلى مفردة "الجريان" هذه ، وجذرها "يجري" ، يشيد الشاعر بنيان قصيدته التالية "ويجري" حيث يستهلها بنفس استهلال النصّ السابق : "كنتّ طفلاً" . طفل يدهشه جري الأشياء الذي لا يتوقف .. هذه الحركة الدؤوب في كل شيء هي عنوان الحياة . والحركة هي واحدة من سبل سيطرة الطفل على حركة الزمان . في تلك الأيام ، أيام الطفولة ، كان هذا الطفل ، وكل طفل ، يشعر بأنه مركز الكون ، وما حركة الاشياء والموجودات والعالم إلا انعكاساً وارتباطا بجسده وبحاجاته . ولا شيء حوله متوقف أو ثابت أصلاً . الكلُّ في حركة دائمة : العشب ، النهر ، الأشرعة ، الأرض ، الدمع ، النبع ، السنابل ، كلّ شيء .. كلّ شيء .. والوحيد الذي لم يكن يشعر بحركة جسمه هو الإنسان الطفل باعتباره المركز ، والمركز لا يتحرك لأنه ستهوي عندها كلّ الأشياء المرتبطة به . ولكن هذه المشاعر القويّة بمركزية الذات سوف تنتهي يوما ، لتذهب سكرة الجريان ، وتأتي فكرة الفناء :

(               كنتُ

                     طفلاً ،

                            وكبرتُ ،

                بين مجدافَيْ خريفٍ ، وشراعٍ

            فوق أيدي الريحِ

                    صرتُ .

                دهشتي زالتْ . وقد أدركتُ أنْ

            لا شيءَ يوماً

                كانَ

               يجريْ

               غيرُ

               عمريْ . – ص 1550) . 

أمّا ثاني الأشياء التي يقدّمها الشعر للشاعر ولنا في مواجهة الفناء فهو هذا الإحساس بالقدرة الكلّية التي تحدّثنا عنها كثيراً . هذه الحرّية اللامحدودة في الخلق وإعادة التشكيل التي لا تضاهيها إلّا حرّية الطفل . طفلك يقول لك سوف أصعد على القمر .. وشاعر فيروز يقول : "حبيبي بدّو القمر" ! وفي قصيدة "الحرّ" (ص 1551 – 1557) يعرض الشاعر هذا الهاجس الذي داعب مخيلتنا جميعاً أكثر من مرة في حياتنا ، وهو الإحساس بأن الكون قد خّلق بروح طفل مبدع . إنّ روح الطفولة – كما قلنا سابقاً – ضرورية لكل مبدع .. لكل خالق . إنّ أيّ عمليّة خلق تبدأ باشتراطات قِبلية ومحدّدات مسبقة لن تكون عمليّة خلق أبداً . عمليّة الخلق الحقيقية تبدأ بمبادرة الروح الطفلية البيضاء التي تبدأ الخلق من لحظة صفر الرغبة في الخلق . ومن عادتي أن أوجّه اسئلة مباغتة لأفراد عائلتي الموجودين بقربي مرتبطة بالنص الذي أحلّله . سألت زوجتي ما هو أول شيء تفكرين بخلقه لو صرت إلهاً قالت : الماء طبعاً . وسألت حفيدي ذا الثلاث سنوات . ما هو أهم شيء في الدنيا ؟ قال : ماما .. حليب . ويبدو أن الخلق مرتبط دائماً ببراءة الماء التي هي الطفولة عينها .. والماء هو المكوّن "الصفر" والكلّي في الطبيعة :

(                 كلُّ شيءٍ

                  هو ملكيْ .

                  إنّيَ الخالقُ . في الكونِ خلقتُ

  الأرضَ من رؤيا لطفلٍ . كلُّ طفلٍ خالقٌ . والأرضُ

  والأشياءُ طينٌ بين كفّيهِ وماءٌ . كلُّ خَلقٍ خلفهُ

                  من ريشةِ الطفلِ يدانْ . – ص 1553) .

ثمَ أن الطفل – والشاعر يستعيد هذه السمة في هذه القصيدة  - لا يعرف من الزمان لا الماضي ولا المستقبل ، واشتغال ثلاثي الزمان المرعب هذا : الماضي والحاضر والمستقبل هو الذي يحكم إطار صورة الفناء ، إن الطفل يمتلك الحاضر فقط ، ولذلك لا يعرف من الأفعال سوى صيغة "الأمر" : كن .. فيكون . والشاعر يتذكر أنه كان يقول للشيء " طرْ : فيطير ناي رعاة في النسيم ، واخضرّ :  فيخضرّ العريش . وما هو فرق فعل  الساحر عن هذا الفعل ، بل ما هو فرق عمل الآلهة :

(- شمسُ ، صيري ذهباً في الصبحِ

   تصبح ذهباً .

- ثمّ اغربيْ في لونِ رمّانٍ ،

  فتغدو

          أرجوانْ .

  ولقد مارستُ

  سحر السحرهْ

– أيّها الغيمُ امطرْ الآنَ هنا

   يُمطرْ

– وصرْ أخضرَ ، واذهب عالياً في الحقلِ

   يخضرُّ ،

   ويصعدْ ،

   ثمّ يصبحْ

               شجرهْ . – ص 1554) ,

كلّ شيءٍ كان ملكه وطوع يمينه . وأشعر – بسبب خبرتي بمنجز جوزف حرب – أنه قد أطال رحلة العودة إلى الطفولة ، واستعادة أيامها المجيدة . فمن عادته أن يجهض أي هناءة بإحضار شبح الفناء ، ويخرّب أي لحظة فرح بإقحام الحسّ الفاجع باقتراب وقع خطى المثكل . لقد أطال نشوتنا بالطفولة المنعّمة مسافة نصّين أو ثلاثة ، وها هو يعيدنا إلى حضرة الموت بقسوة ، ويثير في نفوسنا إحساس أليم بالفقدان الوشيك .. فتأمّلْ ما يتأمّل : 

(               أتأمّلْ

                هذه

                الأرضَ

                        بروحٍ ملؤها الكونُ ،

                        وأيامٍ قليلهْ

                بعدها يا

                        جسدي المتعبَ

                        أطويكَ وأرحلْ .

                أعجبتني هذه الأرضُ كما شاهدتها ،

                فهي جميلهْ .

                لا جميلٌ عندما تعشقهُ إلّا تلاقيهِ

         وقد أصبحَ

                أجملْ . – ص 1558 و1559) (نصّ "ذوبان") .

ثم يبدأ يندب خراب هذه الأرض الجميلة التي عاث بمقدراتها اللصوص ، ويحذّرها من الكهّان الذين يستخفون بقيمة الأرض ، ويعجلون تركها من قبل الإنسان الذي ينبغي أن يتعفّف عنها . ولكن الإستجابة لوصايا الكهّان في نظره .. ليست إهانة للأمومة الأصل التي جئنا منها حسب .. بل خيانة :

(                     آهِ يا ايّتها الأرضُ التي قدْ

  جئتُ منها ، وبها من بعد موتي سوف أبقى ،

  إنّ ما قد قاله الغيبُ

                      إهانهْ ،

                    وخيانهْ . – ص 1564) .

ثمّ يحضر الموت بنفسه في القصيدة الأخيرة الطويلة من هذا القسم : "المزامير" (ص 1575 – 1616) وهي مزامير الموت الذي يعلن خوفه منه في الإستهلال مباشرة :

(  خائفٌ قلبي من الموتِ ،

   ومِنْ

          ما بعدهُ .

                      إنْ جنةً كانَ ،

                  وإنْ كان جحيماً ،

                          أو تراباً . (...)

                                    لستُ أيا موتُ

   بمحتاجٍ لأن تأتي لقتليْ . إننيء ميْتٌ من الفكرةِ

   من أني سأمضي .

                         وسامضيْ

                         بعدَ أن أنهيْ سنينيْ ، حاملاً

   ذاكرةَ الماضيْ ، ورؤيا الزمنِ الآتي ،

                         وأجراسيْ ، وفيضيْ .

                         مثلما يحملُ بشرى المطرِ المقبلِ

          في مركبِ غيمٍ ،

                            ريحهُ ،

                            مجذافهُ ،

                            ملّاحُ ومضِ . ص 1575 و1580) .

وهنا تتجلى واحدة من محاسن الشعر الباذخة والمؤثرة في إعداد النفس البشرية لمواجهة الموت ، وتتمثل في توفير "تعدد" الميتات . فالرعب المؤسس في النفس البشرية من المثكل يقوم على عدّة حقائق صخريّة من أوّلها أننا نموت مرة واحدة وإلى الأبد . وفي "المزامير" ، وفي كل نصوص "المحبرة" نشعر بفوّة بأننا نموت مع الشاعر ميتاتٍ متعدّدة ومتنوّعة ، وبين ميتة وميتة هناك فسحة لاستعادة الذكريات ومباهج الأرض الأم وعطاياها من جديد ، وكأن الشعر "محبرة" هائلة لا تنفد نغمس فيها ريشة تصوير لحظة الختام . ولعلّ أروع الميتات هي تلك الميتة الأسطورية التي حقق سبقها الإله الإبن القتيل الذي اعتقد المثكل بأنه قد أفناه ، في حين صار ممتداً ولا نهائياً ومتجدداً في أحشاء الأرض :

(                      وسأمضي

                       ضاحكاً منكَ طويلاً . إنّني في

  الزرعِ كلّي ، فإذا نقّيتُ كلّي بعدَ أيّامِ حصاديْ

  بقيَ القمحُ ، فخذ بعضيْ ، ولكنْ ،

                       أيّها الموتُ

                                     لأرضيْ

                                     خلِّ

                                     بعضيْ . – ص 1581)

ومن محاسن الشعر في الإلتفاف على حقيقة المثكل هو الإختيار" ؛ اختيار زمان ومكان الموت . فسرّ رعبنا من الموت هو عامل اللاتوقع فيه . فما تدري نفس في أي أرض تموت . والشعر كما في نصّ "المزامير" وأغلب نصوص "المحبرة" يتيح لنا فرصة "الإختيار" الحرّ والواسع في تحديد موعد موتنا ومكانه . كما أننا نرهب الموت أيضاً لأننا نعرف تماماً بأننا نموت "وحدنا" ، ولا أحد سيموت معنا . والشاعر وفّر لنا إمكانية أن نموت "سويّة" ، مثلما خلّصنا من شعور داهم يكتسحنا احياناً وهو الشعور وكأننا سوف نُدفن أحياء . (وحينما أفكّر في أنني لا محالة "مائت" ، وأنني لا بدّ من أن أموت ، "وحدي" ، فإن الجزع سرعان ما سيأخذ بمجامع قلبي ، حتى لأكاد أتصوّر نفسي ميتاً حيّاً في أعماق قبر ساكن مظلم . وليس أقسى على الإنسان من أن يشعر بأنه سيموت وحده ، وأن العالم سيستمر من بعده ، دون أن يحفل بإيابه إن في كثير أو في قليل . ولكننا لا نخشى الموت لمجرّد أنه واقعة فرديّة أليمة تزيد الوحدة من قسوتها ، بل إننا نخشاه أيضاً لأننا لا نستطيع أن نتصوّر أن كل ما في الموت موت . ومعنى هذا أن خوفنا من الموت – كما لاحظ "إدغار ألن بو" – إنما يعبّر عن فزعنا من أن نُدفن أحياء ، وكأننا نخشى أن لا يكون موتنا موتاً كاملاً ، أو كأنما نحن نتصوّر أننا سنبقى أحياء حتى في موتنا نفسه . وإذن فإن خوفنا من الموت قد يرجع في جانب منه إلى أننا نتصوّر أنفسنا أمواتاً أحياء ، وكأن الموت ليس موتاً محضاً ، بل شعوراً حيّاً بالفناء ) (112).

وهذا ما يتجسد كلّه في مشهد الختام الإحتفائي الرائع حيث الميتة "الجديدة" و"المُضافة" إلى الميتات الأخرى التي حفل بها النص ، وحيث التوقيت الحرّ – في الزمان والمكان - لانطلاق رحلة المغادرة الأخيرة ، وحيث يصبح الموت مجرد "عودة" واستراحة في أعظم فردوس في الوجود ؛ الرحم الأمومي : رحم الأرض ، وأنامل الأم الرشيقة الحانية والمجرّبة تعدّ ابنها لولادته الثانية بالعودة المباركة الخلاصية إلى رحمها ، وحيث الطريقة التي تليق بإله سيغيب ويكمن في روح العشب ، وحيث – وهذا الأهم – انتهاء لعنة الخوف ومجيء نعمة القبول والتصالح والهدوء النفسي العميق . وهذا ما لا يحققه الغيب ولا العلم ولا الفلسفة ، بل يحققه الشعر على يدي الشاعر الذي أنضج قلق الموت أدواته فرسم لنا أبدع مشاهد الرحيل في الختام : 

(                   ليْ سماءٌ فيكِ . قاتلتُ ، ولكنْ ،

         سوفَ أمضيْ قبلَ أن أدخلها .

                                            أجملُ ما جئتُ

         لهُ ، أنّيَ قدْ متُّ على بابِ

                                سمائكْ .

                    جمّلينيْ ،

                    واغمريني بالينابيعِ . اجعليْ نوميْ كحبّاتِ

         الحصى في الماءِ . ولينهلَّ فوقي ناعماً

                    شمعُ

                    بكائكْ .

                    واجعلي قبريَ تحتَ السروِ مسقوفاً

         بمنديلينِ في

                    حقلِ

                    مسائكْ . – ص 1615 و1616)

وأعتقد أن الأرض مدينة للشاعر بأن توفّر له أعظم أشكال العودة ، فهو الوريث الأمين والإبن المخلص الوفي لها الذي ثبّت مهابتها كعروس خالدة على عرش الكون . تُرى هل تحتفظ ذاكرتنا من العلماء والفلاسفة بلمسة وفاء واحدة مثل هذه التي يقدّمها الشاعر لأمّه الأرض :

(                إنّما ذا الأفقُ بابُ البعدِ

                 يا أرضُ انفتحْ

                 فانهضيْ ،

                 سجّادةَ الأزرقِ قدْ مُدّتْ . عليكِ

   انسدلَ الأبيضُ . فتّحتُ لكِ شمسيّةً

                           قوسَ قزحْ . – ص 1613) . 

وسوم: العدد 658