القصيدة الحداثِيّة

عبد الرحيم الماسخ

أصبح اعتماد قالب القصيدة مدلولا حقيقيا لتصنيفها حداثية أو تقليدية مَدعاة للسخرية , وقديما أبو العلاء المعري : وإن كان في لبس الفتى شرفٌ له ........ فما السيفُ إلا غمدهُ والحمائل . فللقصيدة الحداثية شروط تكتمل بالقالب أو لا تكتمل , منها استشراف المعانٍ الجديدة التي تصل الحاضر بالمستقبل مستندة على الماضي بقوة , فإذا ارتفعت الفكرة عن أصولها فمن أين تتغذى وماذا تثمر ؟ إنها كالشجرة التي تعتمد لحياتها على عناصر منها التربة والماء والهواء ..... إلخ , وإن اجتمعت فيها كل صفات القوة , لذلك نقرأ كثيرا من التهويمات المُعلَّقة كالغبار في الهواء ولا نستطيع الاستغناء بها عن الدفقات الشعورية المُكَهربة التي تملأ الشعر العربي , فعندما يقول شاعر حداثي : صحا النيل , أشعل غليونًا بحجم القاهرة , وإن اختزلت تلك الصورة بعض معاني سريان النيل وحضوره إلا أنها تعتبر ناقصة لعدم ليونتها لحد الذوبان العاطفي , فقد أصبح النيل رجلا يشعل غليونا والسلام, ولنقرأ مقطعا من قصيدة النيل الخالد : سمعتُ في شطك الجميل ..... ما قالت الريح للنخيل . يسبِّح الطيرُ أم يغنِّي ........ ويشرحُ الحُبَّ للخميل . وأغصُنٌ تلك أم صبايا ...... شربن من خمرة الأصيل . ففي هذه الصورة المركبة عناصر جمالية تتكامل لتمنح  الخيال فكرا وعاطفة جديدين يلتقيان على حب ذلك النهر الذي لم يقل عن نفسه شيئا , وإنما تحكي عنه الريح للنخيل وفي هذا براعة كافية لرسم الصورة المتخيلة , إذ هناك فرق بين أن نتحدّث عن أنفسنا وأن يتحدث عنا الآخرون , والريح والطير والخمائل والغصون كل ذلك من نتاج النيل فهي التي تتحدث عنه بما أنطق فيها من آياته , لقد رأى البعض في كسر عمود القصيدة علامة حداثية دالة على النص فحاولوا تحويل القصيدة إلى لغة الحياة اليومية كخبز لا يُستغنَى عنه متناسين أن هذا هو دور القصيدة المحوري منذ القِدم , فقد كان الشعر في أحسن أحواله أداة إعلامية تحكي المآثر والبطولات وتشجِّع المحاربين ............. إلخ , فأين دور القصيدة الحرة والنثرية التي خرجت من عباءتها ؟ إنه دور يتآخى مع نفس الدور المستقر للشعر العربي في كل زمان ومكان ولا يحل محله , ويتخذ بكل جيده ورديئه نفس الطريق الهادي إلى جماليات اللغة , فلا يقال أنه يُبَسِّط الصورة الشعرية , فهناك من الشعر القديم ما هو أبسط منه , لكنه بتحلُّلِه من القافية والوزن أحيانا يُسهِّل على الناظمين , ولذلك سلبيات منها الاستسهال الذي أصبح بابا واسعا لدخول أنصاف المواهب واستيطانهم ارض الشعر , ومع ذلك فهناك من الإيجابيات له إذا توفرت الموهبة الحقيقية التي يعطيها التحرر فرصة الانطلاق من خلال صورة غير مقيدة كما يقول محمود درويش : أمرُّ على ساحل الحبِّ كالغيم في خاتم الشجرهْ . ولا سقفَ لي, لا مطر ْ. أمرُّ كما يعبرُ الظلُّ وجهَ الحجَرْ . وأسحبُ نفسيَ من جسدٍ لم أرهْ . وأحملُ قلبي قميصا على كتفي , قضية الشعر الأساسية دخوله حلقة مبارزة مع ما استجد من الفنون و منها كل فنون الكلام و الرسم و الموسيقى  , فالرواية مثلا تمنح النثر أرضا واسعة لمزيد من الغرس و هي بذلك و إن كانت رداً للفعل عكس الشعر الذي هو استحضار و استنفار للحدث فهي تعبير كامل عن الحدث بعد استيفائه كل مقوِّماته خيالا أو واقعا حداثيا أو تاريخيا , و مع إمكانية نسج الشعر في ثوبها كنقوش فائضة التعبير عن مكنونها فقد أصبحت الآن ديوانا آخر للعرب , الموسيقى في إبداع نسجها مع الشعر خيطاً بخيط حققت من الانتشار المُعبّر عن كل شغل عاطفي للناس  ما لم يعبّر عنه غيرها من الفنون المستقلة بنفاذ فاعل آني ٍمتراكب مع كل الأحوال , و عموما للذوق العام و للظروف المحيطة و لانتشار التعليم أدوار في انتشار فن و استحوازه على غالبية مساحة الضوء , و لا ننسى الدور البارز للشعر قديمه و حديثه إبّان الثورات العربية بإيجابها و سلبها , ليظل الدور المهم و الضروري للثقافة الأدبية ككل تحت كل الظروف مما يدعونا لمزيد من الاهتمام بالمواهب جميعا لخلق مزيد من الرفعة التي و إن كانت مستقرّة في نفوسنا منذ آلاف السنين إلا أنها تقبل بل و تحتاج إلى مزيد من التنمية و الحضور و النقد و تقديم الأفضل دائما .   

وسوم: العدد 659