الضعف والبطولة في رواية برج اللقلق
صدرت رواية "برج اللقلق "للأديبة المقدسية ديمة جمعة السمان، هذا العام 2016 عن مكتبة كل شيء الحيفاوية، وتقع في 466 صفحة من الحخجم المتوسط.
برج اللقلق، عنوان عريق ينبع من قلب القدس العتيقة، يتعالى هناك، ليطلّ على ساحة الأقصى الشريف بقدسيّته وجلاله، ويرقب جبل الزيتون وجبل المكبّر. وتتداعى حوله حارات القدس القديمة؛ لتحكي قصّة المدينة، وقصة الإنسان الذي عاش فيها وتشبّثت جذوره بتربتها، كما شجرة البطمة القديمة في حوش بيت عبد الجبّار.
تحكي رواية برج اللقلق قصة المكان، وقصّة الإنسان العربيّ المسلم الذي يشغل هذا الحيّز. يتناغم المكان والزمان معا، لينتجا القدس التي ترفض بقوّة كلّ دخيل، وتفضح كلّ عميل. المكان هو برج اللقلق، وبيت عبد الجبّار القديم الذي قهر السنين، وبقي ثابتا راسخا يدلّ على أصالة المدينة، وشجرة البطمة التي تظلّل قبر الشيخ عليّ منذ مئات السنين. وكما المكان، يبقى الإنسان راسخا في هذه الأرض: يهلك عليّ ويخرج عليّ آخر، ويهلك عبد الجبّار ويخرج عبد جبّار آخر. أمّا نفيسة فهي حكاية المرأة القويّة التي تحمي عائلتها وزوجها وبيتها ومدينتها، وتهلك نفيسة لتخرج نفيسة أخرى، ولتنتهي رواية برج اللقلق عندما تفجّر العجوز نفيسة، حفيدة نفيسة الأولى، نفسها في حافلة للصهاينة، لتعلن ميلاد نفيسة أخرى وعبد الجبار وعليّ آخرين، وتعلن أنّ هذه الحلقة المباركة ستبقى، وأنّ المحتلّ سيذهب كما ذهب من سبقوه. أمّا قبر الشيخ عليّ فيبقى، ويبقى أحفاده يروون الأرض بدمائهم ويلفظون كلّ عميل.
هذه الرّواية تحكي قصص البطولة والضّعف على هذه الأرض، والصراع الدائم بينهما؛ فهذه المدينة الصامدة البطلة، تضعف أحيانا وتسقط بيد الأعداء، لكنّها تتعالى على الفناء وتنجب الأبطال الذين يحيلون ضعفها قوّة، وهزيمتها نصرا. فالبطولة تبرز دوما من أحشاء الضعف، لكنّ الأخير لا يتلاشى ولا يفسح المجال للبطولة أن تسود.
تبدأ الحكاية في مدينة القدس، أواخر العهد العثمانيّ. مدينة يعمّها الجهل ويسودها الخوف، حتّى أنّها تغلق بوّاباتها على أبنائها مساء؛ تخشى الأرواح الشرّيرة وقطّاع الطريق، وتستسلم لقدرها تحت حكم مَن يسرق خيراتها وهي تتلهّى بجهلها وجبنها. لكنّ البطولة تتجسّد في عبد الجبّار، حفيد الشيخ عليّ الذي جاء فاتحا مع صلاح الدين الأيوبيّ، فيكسر جدار الخوف، ويخرج خارج حدود المدينة ليلا هازما فكرة الشياطين والأرواح، ليزيح ببطولته غشاوة من جهل لازمت النّاس عقودا وأضعفتهم.
ثمّ يضعف النّاس أمام المجاعة التي اجتاحت المدينة. فينكسرون للجوع، ويصبحون أكثر شراسة من الوحوش والأرواح التي كانوا يخشونها من قبل. ويتصارع النّاس من أجل لقمة العيش، ويتحوّلون إلى وحوش كاسرة. ويبرز هنا نوع آخر من البطولة: تظهر نفيسة، زوجة عبد الجبّار، تدافع عن قوت عيالها وتنتشلهم من براثن الموت جوعا. أمّا عبد الجبار فيركب طوف البطولة مرّة أخرى، ويقود النّاس في ثورة ضد الأغنياء والمتسلّطين، ينتزع الأرزاق التي حجبوها عنهم.
لكنّ عبد الجبّار القويّ، الذي تحدّى عصابة اللصوص وأبطل الخرافة، ما يلبث أن يضعف أمام الجهل والخرافة مرّة أخرى، ويقع فريسة لهما. فنراه يخشى جدّه الميت وتلتبسه كوابيس جدّه الذي يحضر ليلا ليجلده، وينصاع لهذا الكابوس حتّى أنّه يطلّق زوجته نفيسة. أمّا نفيسة فتتحدّى هذه الخرافة، وتنطلق ليلا لتطفئ السراج الذي يضيء قبر الشيخ عليّ؛ فهذا السراج عنوان للجهل، يعود النّاس ليضيئونه عند كل هزيمة.
ويضعف النّاس أمام الجهل. يظهر بعض المتعلّمين الذي يدركون حقيقة الأمور، أمثال الأستاذ حيدر والأستاذ عبد العظيم فيما بعد، لكن هؤلاء أيضا يقعون ضحيّة جهل من نوع آخر، جهل يجعلهم لا يدركون ما يدور حولهم من مؤامرات، ويقفون في صفّ العدو دون أن يشعروا، فتتحول بطولتهم إلى هزيمة وعلمهم وبالا عليهم.
يرضخ الناس للاستعمار الإنجليزيّ برهة من الزمان، خاصة بعد أن تتحسّن أحوالهم المعيشيّة مع قدوم الإنجليز وتنتعش تجارتهم، لكنّ هذا الضعف لا يدوم طويلا حين يهبّ الناس في ثورة ضدّ الانجليز، يكون عبد الجبّار بطلا فيها، يتشرّد في الكهوف والجبال؛ لينكّل بالعدوّ ويقضّ مضاجعه.
يدب الرعب في قلب أهل المدينة بعد مجزرة دير ياسين واستهداف القنّاصة اليهود لعابري السبيل في أزقة المدينة وطرقاتها، لكن عليّ ابن عبد الجبّار يحمل راية الجهاد بعد أبيه، ويدافع عن القدس، ويصمد أمام الصهاينة الذين حاولوا احتلالها في عام 1948، ويخسر ذراعه بعد أن ينكّل بالعدوّ ويحمي المدينة.
ويعود الجهل والضعف عندما يركن النّاس إلى الجيوش العربية التي دخلت فلسطين وتسلّمت زمام الأمور، لتسلّم البلاد لقمة سائغة للعدوّ، وتثبّت له دولة وحدودا. ويمضي النّاس في جهلهم، فتخدعهم الخطابات الرنّانة والوعود الكاذبة التي دأب الزعماء العرب على ترديدها، حتّى كانت الكارثة وسقطت القدس في أيدي الأعداء عام 1967. وهنا يهبّ عبد الجبّار وحفيده عليّ، رغم عجزهم وضعفهم، ويُقتلون على ثرى مدينتهم التي قضوا حياتهم منافحين عنها.
وكأنّ الهزيمة تجلب الجهل والضعف في أحضانها، فنرى رجال عائلة عبد الجبّار يريدون أن يقتلوا نساءهم بأيديهم أثناء الحرب خوفا على عرضهم، ثمّ يعودون بعد الهزيمة؛ ليقدّسوا قبر الشيخ عليّ ويؤمنوا ببركاته وقدراته الخارقة.
وبعد الهزيمة والضعف، يعود عبد الجبار الحفيد، ليصبح مناضلا ينقل السلاح للفدائيّين ويقضي سنوات عمره، ويستشهد في سجون الاحتلال. وتبرز البطولة والضعف على أشدها في نهاية الرّواية: فالأحفاد عليّ وشروق وجهاد مناضلون أشدّاء يقفون في وجه العدوّ بشراسة وقوّة، بينما يسقط ليث في براثن العمالة. وتتصدى له أمّه نفيسة، فتقتل ولدها بيديها لتمنعه من بيع البيت الكبير في برج اللقلق للأعداء، ثمّ تضحّي بدمها، لترسم مسيرة المدينة ومسيرة عائلتها من جديد.
برج اللقلق رواية رائعة، تحكي تاريخ مدينة القدس، في لحظات قوّتها ولحظات ضعفها، على مدى قرن من الزمان،. تتقلّب المدينة وتنتقل من احتلال إلى احتلال، ويضعف أهلها تحت سياط العدو وسياط الجهل، لكنّهم دوما يعودون إلى أصالتهم، ويبرز من بينهم الأبطال الأقوياء. وتبقى شجرة البطمة العتيقة تخبّئ في عبّها السلاح، ويبقى قبر الشيخ عليّ في ظلها، يبعث العزّة والاعتزاز بالماضي التليد من جانب، ويرمز للجهل والضعف من جانب آخر.
وسوم: العدد 665