نِداَءُ الخَلِيلي للإنسان: "سيقررون احترامك"..

 قد تظنه عنوانًا لمجموعة قصصية ثم تتفاجيء بأنه أحدث دواوين الشاعر الجنوبي أحمد الخليلي الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وجاء عنوانه اشتقاقًا من قصيدة فيه بعنوان "لماذا لا يرون ضرورة لاحترامي"، والذي تفضل مشكورًا فأهداني إياه بالبريد.

  ضم الديوان غير المفتتح سبعة وثلاثين قصيدة تغلب عليها الإنسانية المشبعة بالكونية، والتي تضم في حناياها ليس الإنسان فحسب بل والحيوان الذي تضمه لوحات أكثر من قصيدة كجزء أصيل من الحدث، فيبدأ قصيدة "في الربيع" بذكر الخراف والماعز، وينهيها بها، كما يذكر مرابط الأبقار والجاموس في قصيدته "يا زهرة الحنين .. يا غربة"، ولا ينسى الطير في منظومته الحميمية؛ ولئن أعجبه طير العصافير، يجمع بين الإوزة واليمامة في عنوان قصيدته"ماذا في انزعاج الإوز صدح اليمامة؟!"

 إن تعجب من الخليلي ليس فقط في اختيار موضوعات قصائده التي تسكنه "شخصية" ثم يسكبها على الورق "موضوعية" يختفي خلفها ببراعة ثم ينجح في تصدير أوجاعه حتى تصرخ كأنها أو أنها أوجاعنا، يمضي مبحرًا بقارب المواجع والعذابات فينا حتى نركبه معًا كضحايا أو أسرى أو مضطهدين، ثم سرعان ما يجوب بذات القارب الكرة الأرضية بجهاتها التي تعاني ويضم إليه كل الذين يطاردهم سوط الجلاد أيًا كان الجلاد وأيًا كانت قضاياهم، فالكونية غالبة، والجرح تسكنه العمومية، والأنين لحنه واحد، ولغاته متعددة، ولكن العجب في اختيار اسماء قصائده التي يصوغها ببراعة وغرابة وهي ضربته الأولى التي يربح بها نصف الانتصار لقصيدته، ويسرق بها عين وقلب وعقل قارئه، وهو ذكاء يحسب لإبداعه، ومن تلك الاسماء: "حقنة اللوم الجميل"، "العيد الذي بكى"، "على شفا حال مستعارة"، "سبورة السماء"، "زركشة حلمها تجاعيد".

  بات من العسير الإلمام الكثير بهذه الصور المتدفقة التي سكبها أمام عيوننا "الخليلي" ومضى، أزال عن اللثام الإماطة فأفقنا على قصائد توغل في العشق إلى حد الوله، وحد الإدانة، ولعنات تصب فوق الرؤوس التي مرغتها الاستكانة، وأبيات تدخلنا دروب قريته، وأبيات تجوز بنا قارته. إذًا فليس أمامي إلا التجوال اليسير، والايماءة لا الإحاطة.

  من قصائد الخليلي التي أجاد عنونتها وأنسنتها بشمول وشموخ، قصيدته التي يحمل عنوانها تساؤلًا، بل نصب نفسه وهو المقهور قاضيًا يحاكم الضمير العالمي "ألسنا أطفالًا.. يا أمهات العالم؟"، يقول في نهايتها الدرامية كبطل في مسرحية يقف وحيدًا وكل ما حوله مظلم إلا من بقعة من نور تحيطهن وصوته يهدر بالأسئلة التي تهيب التراب على تمدين العالم الزائف:

متخلفون! قساة قلوب!

ـ هكذا صنفونا ـ

هكذا أحكموا قبضتهم على حناجرنا

مزقونا ـ هدموا البيوت ـ جرفوا الأرض

هتكوا العرض .. قطعوا القلوب

وحرَّقوا أشجار التفاح والزيتون

هذا الشيخ حين قبَّل الثرى

بحرارة ثقل المجنزرة

أكان متخلفًا قاسي القلب؟

هذه النفساء حائرة القلببين وليدها الجائع

وبين سقف حجرتها هدف الجرافات

أكانت متخلفة قاسية القلب؟

الدُّرة وابنه

أكانا متخلفين؟

المسجد الأقصى وكنيسة المهد

نقطتان على الجلد الجيري الأبيض

والأبيض أنياب

تريد أن تبدو ناصعة!

  يرتدي الخليلي زي القومي العربي "النذير العريان" في قصيدة "لماذا لا يرون ضرورة لاحترامي؟!"، ذلك النذير الذي يصرخ مستنهضًا أخوته بطول الوطن المحاصر والمهدد بالتفتيت لا التقسيم، الذي يعيش أكثر ناسه على الشظف والأقل ينعمون في بلهنية العيش، ولا يجيدون سوى الشجب والرفض والتنديد والإدانة:

يا حماة الأمانة

لا تكتفوا بالملامة

فعدونا جبان لا صحبته السلامة

كحكيمٍ عربي لفحته شمس الخبرة، وأنضجته التجارب، يبث عبر قصيدته "قصائد قصيرة" شطرات من الحكمة يرسلها لتدوي انفجارًا، أو تدور في الرأس تأملًا، أو تصنع دوامات من العواصف والمياه في العقول الراكدة،  وفي الشعر يتعلق الأمر بتوضيح بعض خلجات النفس بطريقة جلية، بإعادة بناء معدل لها يمكن تلقيه من خلال جسد الكلمات، كما يقول جورج مونان، وكذلك يقول: (المهمة الخالصة للشعر هي أن يقدم مكانًا تلتقي فيه أوضح الكلمات بأغمض المواقف)، وفي هذه القصيدة تأتي مواقف الخليلي غامضة بأوضح الكلمات مخلفةً وراءها مساحاتٍ من الرؤى والتفسير لكل قاريء وثقافته، فالرجل قال كلمته ومضى وليس عليه تفسيرها أو انتظار التفسير وتقديم التصحيح، فالشاعر لا ينبغي أن يعني برسم الأشياء بالقدر الذي يعنى فيه برسم تأثيراتها وتفاعلاتها، كما يقول مالارميه. سأختار بعض فقرات أو مواقف للتدليل على ما سقته آنفا:

في صمت

ما أصدق اختلاس عابرين للحظة

حب

......................

أن تجف الحياة

أهون من أن تجف

قطرة في ماء الحياء

..........................

ولأننا فقراء

فإن الله يكرهنا جميعًا

حين نتكبر

وسوم: العدد 667