علي الوردي : (57) السخرية كسمة اسلوبية
ومن السمات الأسلوبية الأخرى لدى الوردي هو حس الفكاهة والروح الساخرة . قبل الوردي لم يكتب متخصص في العلوم الإنسانية بطريقة تشيع فيها روح الفكاهة والتعليقات الساخرة . قبل الوردي كان أسلوب " العالم " المتخصّص صارما وتعبيراته جدّية وحازمة . كان من غير الممكن أن يتوافر الباحث العلمي على سمة أسلوبية فكهة وثابتة . وأؤكد على صفة " الثابتة " . فلكي يكون تصرف أو انفعال أو طريقة كلام مثلا سمة ينبغي أن يتوفر فيها الثبات . والوردي منذ أول كتيب له ( شخصية الفرد العراقي ) وحتى آخر مؤلف ضخم وهو الجزء السابع من موسوعته ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ) كان يزاوج بين الجد والفكاهة في وقفات محسوبة لا تأتي عفو الخاطر بل بصورة مخطط لها ، الأمر الذي يثبت من جديد " قصدية " الوردي التثويرية . وناهيك عن الوقفات المحسوبة فإن إسلوب الخطاب الورديّ بأكمله هو أسلوب فيه لمسة عملية صارخة . ومن نماذج التعبيرات الساخرة للوردي :
# ( أقدّم بين يدي القاريء العربي بحثا صريحا لا نفاق فيه حول طبيعة الإنسان . وهو بحث كنت قد أعددت بعض فصوله ، منذ فترة غير قصيرة ، لإلقائه من دار الإذاعة العراقية ، فرفضته جلاوزة الإذاعة (1) ، لسبب لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم – وعاظ ص 5 " ثم يضع هامشا أسفل الصفحة يقول فيه :
(1)حق على المذيع آنذاك أن ينادي : ( هنا بلد الجلاوزة ... هنا بغداد ) .
# ( قد يلقي الأستاذ محاضرة على طلّابه فيجد بعضهم لا يفهمون ما يقول . إنهم منغمسون في أحلامهم اللذيذة ، حيث يلتقون فيها بالحبيبة الحسناء يقبّلونها ، وبالعدو يصفعونه ويشتمونه . وحين يسألهم الأستاذ عمّا فهموا من محاضرته ، يجيبونه بأنهم فهموا شيئا كثيرا وهم كاذبون . وربما كانوا أثناء المحاضرة يحلمون بضرب الأستاذ بدلا من الإصغاء إليه) (401) .
# ( لنفرض أن الدكتور يملك دارا للإيجار ، ثم جاءه رجلان يستأجران داره ، أحدهما غنيّ مُترف يدفع أجرا عاليا ، والآخر فقير لا يملك غير الدعاء . فهل يؤجر الدكتور داره للفقير ويطرد عنه الغني الكريم ؟ ويمكن أن نقول مثل هذا عن الشاعر القديم ، فهو لا يستطيع أن يرفض الجائزة المغرية التي يقدمها السلطان ، ويذهب إلى مهرجان شعبي ليس فيه سوى عبارة " أحسنت وأجدت " . نعم ، إنه قد يفعل ذلك حين يجد باب السلطان مسدودا في وجهه ، وعند ذلك يرفع عقيرته قائلا بإن الله يحب المساكين ! ولو أن السلطان كان قد فتح بابه له وأغدق عليه الجائزة ، لنسي الله ونسي المساكين معه وانثال على النعمة الجديدة ينهل منها نهلا) (402) .
# ( يحاول بعض المتحذلقين من رجال الدين إدعاء التجديد فيما يكتبون ويخطبون ، وتراهم يحفظون بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة يتلقفونها من المجلات والجرائد المحلية ، ثم يكرّرونها في كلامهم إذ يحسبون أنهم بهذا قد صاروا " مجدّدين " . ويحلوا لبعضهم أن يُقال عنه إنه جمع بين القديم والحديث ، ثم يرفع أنفه مغرورا بهذا العلم العجيب الذي وعاه في صدره . ومثله في هذا كمثل ذلك القروي الساذج الذي أراد أن " يتمدن " ، في كلامه ، فضيّع المشيتين مع الأسف الشديد" (403) .
# ( فالإنسان ، قبل كل شيء ، يريد أن يعيش حتى لو مات الناس كلهم دونه . إنه يقول في سرّه : (إذا متّ عطشانا فلا نزل القطر) . ولكنه يتظاهر أحيانا بعكس هذا تفاخرا ورياء . وطالما وجدنا المترفين والمغرورين يدّعون التضحية في سبيل المصلحة العامة . وهذا كذب منهم واختلاق . فهم لو كانوا فقراء كادحين قد أحاط بهم أطفالهم يتباكون من الجوع لأدركوا عند ذلك مبلغ بعدهم عن الحقيقة . تروي الأساطير الدينية أن امرأة كانت تحمل طفلها عندما جاءها الطوفان في أيام نوح عليه السلام . وقد حاولت هي أول الأمر أن تحمي طفلها من الغرق فرفعته فوق رأسها ، حتى إذا وصل الماء إلى أنفها ، وضعت طفلها تحت قدميها وارتفعت عليه ، هذه هي طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان) (404) .
# (( كان في العهد البائد شخص يعد من الأساتذة الكبار . وكانت الدولة كلها مُعجبة بعبقريته ، توكل إليه المهام الجسام . فمحطة الإذاعة تكاد تذوب هياما به وتقديرا لأحاديثه الرائعة ، ووزارة المعارف الجليلة " تموت " عليه . أما جو الكليات والمعاهد العالية فقد ساده الهدوء إصغاء لما يخرج من بطن الأستاذ من أفكار جديدة . وقد أتيح لي أن أدرس هذا الرجل الجبّار فلم أجد فيه من مزية سوى أنه اعتاد أن يخرج الكلام من أنفه ، وقد كان له لحسن الحظ أنف كبير) (405) .
لقد اخترت هذه النماذج وفق لعبة افتح فيها أي كتاب من كتب الوردي بطريقة عشوائية ، لأن المسحة الطاغية على مؤلفات الوردي كلّها هي السخرية التي تصل – وبفعل مرارات الواقع العراقي الماحقة – إلى حدود السخرية السوداء الجارحة :
( قال النبي محمد : " كاد الفقر أن يكون كفرا " . ومن الواضح أن مفهوم الكفر في حديث النبي لا يختلف اختلافا جوهريا عن مفهوم الجريمة في عُرف علم الاجتماع الحديث . فكلاهما خروج عن المألوف على وجه من الوجوه ، فالفقير الذي يموت جوعا لا نتوقع منه أن يترنّم بقصائد أبي العتاهية في مدح الزهد ، أو ينشد نشيد الوطن الذي يقول :
( إلى الحرب إلى الحرب هلمّوا يا بني العرب ) .
حدّثني أبي عن صديق له ، وكان نجّارا، أن يوما من أيام الكساد مرّ عليه فتركه لا يملك ما يشتري به خبزا لزوجته وأطفاله . فهو قد ظلّ جالسا في حانوته حتى وقت متأخر منتظرا أن يأتيه شيء من الرزق حينذاك . فطال انتظاره إلى أن ملّ . وهو كان يكره أن يذهب إلى البيت إذ كانت له طفلة صغيرة اعتادت أن تنتظره في رأس الزقاق قبيل موعد الأكل من كل يوم لتستبشر بما يأتي به من طعام . يقول الراوي : فذهب النجار إلى بيته على كل حال وهو لا يحمل لأهله شيئا من الطعام ، فاجتمع حوله أطفاله يسألونه ويعولون ، فالتفت عند ذلك نحو السماء صارخا : ربّي .. حتى " حرملة " لم يفعل مثل فعلتك – والمقصود بحرملة ، الشمر الذي قتل رضيع الحسين الذي كان يتلظى عطشاً ) (406) .
وسوم: العدد 667