رواية "زمن وضحة" لجميل السلحوت: حفر اسمه في كتاب الثقافة الفلسطينيّة
جميل السلحوت اسم معروف في الثقافة الفلسطينيّة، وعلى مدار ما يقاربُ خمسين عاما كان فعّالا ومؤثّرا ومبدعا وعَلَما يُشار إليه .
تعرفتُ على جميل السلحوت بُعَيْد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في حزيران 1967. قدّمه إليّ الأصدقاءُ قائلين إنّه الشيخ جميل السلحوت. وكان الجميع يتعاملون معه باحترام وتقدير، وقبل لفظ اسمه يقول الواحد: الشيخ جميل. وقد أدركتُ مع مرور السنين أنه الشيخُ الشاب صاحب المواقفِ الواضحة الثورية الملتزمة، وصاحبُ الصوت القويّ المُحَدِّد للهدف دون تردد. فكان محلَّ احترام الجميع وموضعَ الثقة الكبير. وقد اشتركتُ وإياه في ندوات أدبية أقيمت في رام الله وبيت لحم وغزة وخان يونس والقدس مع العديد من الإخوة والأخوات من مبدعي الضفة الغربية وقطاع غزة. صدرت له العديد من الروايات التي تناول فيها مختلف القضايا التي يخوضها شعبنا في الأراضي المحتلة ضدّ المحتل الإسرائيلي.
روايته الأخيرة التي صدرت عن دار النشر "كل شيء" لصاحبها صالح عباسي في حيفا هي رواية "زمن وضحة" التي تعيد إلينا واقع المجتمع في الريف الفلسطيني أواسط القرن العشرين. وهي تنضاف إلى العديد من الروايات التي صدرت وهدفت إلى تسجيل حياة الشعب الفلسطيني في فترات مختلفة ومهمة، منها روايات جاءت على شكل سير ذاتية كما رأينا في "ظل الغيمة" لحنا أبي حنا و "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي. و"إنها مجرد منفضة" لسميح القاسم و"أصل وفصل" و"حبّي الأول" لسحر خليفة و"ترانيم الغواية" لليلى الأطرش و"ظل آخر للمدينة" و"فرس العائلة" و"مديح لنساء القبيلة" لمحمود شقير و"أورفوار عكا" لعلاء حليحل و"بين مدينتين" لفتحي فوراني وغيرها الكثير.
ووضحة كما يدلّ الاسم على الإشراق والإبداع والتوثب والانطلاق والتغيير والتجديد، وجعلَ من بطلة القصة "وضحة" شعارَ التّغيير والتّبديل والبحث عن الجديد بعد رفض القديم والموجود، والتّطلع نحو واقع متجدّد جميلٍ وراقٍ.
لكنّ وضحة تعيش في مجتمع تتحكمُ به العاداتُ والتقاليدُ والمفاهيمُ الرجعيةُ الرّافضة لكل تغيير وتَجديد . وضحية هذا المجتمع في الدرجة الأولى هي المرأة التي يُحْكَمُ عليها من يوم مولدها أنْ تكون المرفوضةَ المهانةَ المستَغَلّة المقموعة التي لا يؤخَذ رأيها في أيّ أمر حتى ولو كان يخصّها.
وهذا المجتمع الذكوري الذي تُسَيّره العادات والتقاليد والمفاهيم الجامدة كانت المرأةُ الممثلةُ بالأم والحماة والعمّة وحتى الأخت تُساهم في اضطهاد الفتاة وقَمعها، ومساعدة الرجل في كلّ ما يقوم به ضدّ المرأة.
الكاتب اهتم في روايته هذه أن يسجلَ واقع فترة تاريخية عاشها شعبُنا في الريف الفلسطيني في النصف الأول من القرن الماضي. فترة عُزل فيها الريفُ عن العالم الخارجي وانشغلَ سكانُه في همومهم الصغيرة الخاصّة، يحلّون مشاكلهم بأنفسهم وبما يَراه كبيرُ القوم بينهم، حتى أمراضهم كانت تُعالج بالوصفات والأعشاب والأُدْعيات والكَيّ بالنار، وببعض الوسائل الخطيرة التي كانت تودي بحياة البعض أو إعاقتهم طوالَ حياتهم.
الشخصيات العديدة التي تعرّفنا عليها في الرواية هي شخصيات واقعية عرفتها البيئةُ الريفية التي يتحكم بها الجهل والفقر، شخصيات تعايَشت مع بعضها بتفاهم وقبول وتعاون إلى حدّ ما. لكن وسط هذه الشخصيات، ومن قلب واقع الجهل والخرافة، ظهر مَنْ يحملُ الرغبة في التغيير ورفض الواقع مثل وضحة. ومن هذا المجتمع أيضا خرج الدكتور ممدوح وزوجته. الدكتور ممدوح الذي تحدّى العادات والتقاليد والمواقف المتحجرة، وعمل بجدّ على مداواة المحتاج بالطرق العلمية وفي المستشفى. وعمل جهده، وجنّد أفراد أسرته لإقامة مدرسة يتعلّم فيها ينات وفتيان القرية، واهتمّبتفعيل المواصلات في القرية والقيام بمشاريع عديدة عملت على تغيير حياة الناس وقلب مفاهيمهم وأفكارهم.
حصر الكاتب شخصيّات روايته في الهموم الذاتيّة والاجتماعيّة بعيدا عن الهم الكبير في مواجهة المحتل الإنكليزي للبلاد، والثورة ضدّه والعمل على طرده، وذلك لاعتباره أن الجهل من أكبر الآفات المعوّقة للمجتمع وتطوّره وتقدّمه وانفتاحه على العالم الواسع، فحيثما يسود الجهلُ لا مكان للعلم ولا للتقدّم، وينحصر اهتمام الفرد بمشاكله الخاصة وهمومه الصغيرة. وينقاد الفرد للمجموع، ويتحكّم القوي بالضعيف، وتفقد المرأة مكانتها وتصبح مستعبَدة من قبل الرجل.
مشاهد عديدة لا يستسيغها عقلنا اليوم كانت عاديّة ومقبولة في مجتمع ذلك الزمن، مثل محاولة النساء إجبار رمّانة شرب الماء من حذاء زوجها حمدان لتسهيل ولادتها المتعسّرة، ومثل عمليات الكيّ التي كانت تؤدي إلى العاهات المستديمة وقطع أحد أعضاء الجسد،. لكن مشاهد أخرى عاشها الناس يومها لا نزال نعاني منها ونعيشها اليوم في قرانا حيث تؤدي الخلافات العائلية والطائفيّة لكثير من المشاكل، وتُقتَل النساء بحجّة صَون شرف العائلة. مثل هذه المشاهد التي لا بدّ لنا من معالجتها والقضاء عليها.
رغم كثرة الشخصيّات التي استحضرها الكاتب: منها المركزية ومنها الهامشيّة إلّا أنها كانت مقبولة ولا تثقل على القارئ، بل كانت تساعد على زيادة واقعية المشاهد وصدق التصوير وأمانة الكاتب في روايته للحَدَث. الشخصيات كانت مقنعة في حديثها وسلوكها وعلاقاتها، الحوار استحوذ على الكثير من المشاهد، واللغة المحكيّة، لغة الناس اليومية المطعّمة بالأمثال الشعبيّة هي المتداولة،وحتى في السرد ظلت لغة الكاتب قريبة من لغة الناس العادية. واستطاعت الشخصيّات أن تمتلك مشاعر القارئ إذا ما انزوت مع نفسها لتشكو همومها، وتبكي حظها من الحياة البائسة والناس الظالمين. ورغم اهمال الكاتب لوصف شخصياته وصفا خارجيّا، إلّا أنّه اهتم بالوصف الداخلي لأحاسيسهم وسلوكهم وأفكارهم وعلاقاتهم بالآخرين حتى علاقتهم بأنفسهم.
قد تكون التفصيلات في بعض المشاهد غير مستساغة لدى القارئ، ولكن بعد مراجعة للمشهد يجد أن هذه التفصيلات لازمة ومهمة لنقل الصورة الحقيقيّة لواقع الناس العاديين.
الكاتب كان واعيا لحتمية الزمن وتطوّره وتأثيره على الإنسان والمكان، فرغم تحكّم الجهل وقيود العادات والتقاليد والرضى والتسليم بما هو عليه حال الناس لأنه، في اعتقادهم، ما قدّره عليهم الرب وما اختاره لهم، إلّا أنّ الحياة في دورتها الأبديّة تعمل عملها، تغيّر وتجدّد، وتدفع للتمرّد على الموجود، وخلق واقع جديد بمفاهيمه واهتماماته وتطلّعاته.
أنهى الكاتب روايته بموت المختار الذي كان يفرض هيبته ورغباته على السكان. وبزواج وضحة من الأستاذ سعيد والانتقال لحياة أكثر رقيّا وثقافة وعلما. وبذلك أراد أن يؤكد انتهاء فترة وبداية فترة زمنيّة اجتماعية وثقافية جديدة فيها تغيير وتجديد وطموحات ورغبات تشدُّ الجميعَ نحو العمل والتعاون والتغيير.
"زمن وضحة" رواية أضافت إلى روايتنا العربية، والفلسطينيّة خاصّة، وثيقة تأريخيّة لشعبنا الفلسطيني في فترة من فترات تحكّم الغريب بنا، وانهاك العادات والتقاليد والجهل لأجيال عانت وقاست، لكنها ظلّت واثقة بقدرتها على الصمود والاستمرار والتطلّع نحو غد أفضل.
وسوم: العدد 670