النثر العربي في عصر الدول المتتابعة 4
ثانياً - القصة النثرية:
عرف أدبنا العربي في عصر الدول المتتابعة القصة الشعرية([1]) والنثرية، وقد تعددت ألوانها، فمنها:
1- ما جاء في صورة واقعية تعرض شريحة من شرائح الحياة التي يعيشها أبناء العصر لغاية ارتآها الأديب.
2- ومنها ما اتجه وجهة تأملية عرض فيها الكاتب أفكارا عقائدية ما .
3- ومنها ما اتخذ الرمز وسيلة للتعبير عن الحياة وناسها بطريق غير مباشر،أو لبث فكرة ما،ماكان ليستطيع التصريح بها لمخالفتها ما تعارف عليه أبناء المجتمع الإسلامي في ذلك الحين .
وسأدرس هذه الأنواع من قصص هذا العصر :
1- القصة الواقعية الاجتماعية:
ألف خليل بن أيبك الصفدي قصة " لوعة الشاكي ودمعة الباكي " في أربع وستين صفحة، تحدث فيها عن تجربة شعورية تخيلها، وراح يصف من خلالها ما تخلفه أمثال هذه في النفس من أشواق وحرق وعبر، عل الآخرين يتعظون فينأون عن الخوض في أمثالها .
استهل قصته ببيت من الشعر وهو:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ
يُواسيك أو يُسْلِيْك أو يتوجَّعُ
ثم قال: أما بعد. ثم حمد الله سبحانه الذي قضى بالمحبة والولوع ....ثم صلى على النبي r لرأيه السديد في قوله: "من عشق وكتم وعفّ فهو شهيد" ([2]) .
ثم تحدث في مقدمة القصة عن الحب وأحزانه، ثم بين سبب تأليف كتابه أو قصته فقال: "وإني أعرف إخواني وأصحابي وخلاني وأترابي سلمهم الله من سطوات العشق ونهباته، وما يكابده العاشق من تجرع كؤوس الهجر والصد، وهمول الدموع وتزايد الحسرات، فضلاً عن أنه مأسور بحبائل الفتن، ولا يقوى على ذلك من رُبِّيَ في النعيم والدلال " ، ثم بين أن خطر العشق يكمن في النظر،إذ العين تنظر والقلب يفتن، ثم تحدث عن تجربته التي خاضها فلم يجن منها إلا الندم فقال إنه خرج في بعض الأيام مع صديقه الحميم إلى روضة جميلة ذات مياه كثيرة، وجداول تنساب كالحيتان، وكان النسيم يداعبها بذيله البليل، والطيور تصدح فيها، والشحرور كان خطيبها وواعظها، وكان الأقحوان يتبسم، والنسيم يعتل غيرة منه، وقد سرّح الكاتب ببصره في هذه الرياض البهجة، والروابي العطرة، ولم يكن للكاتب هم الشغف والغرام، بل كان يعد ما نقل عن مجنون ليلى، وعروة بن خزام كذباً ومجوناً، وبينما كان يسرح النظر في هذا الروض البديع إذ رأى غلماناً من الترك صباح الوجوه مِلاحها، عليهم سيما الدلال، يأسرون الناظر بأعينهم وقدودهم ولطف شمائلهم، فقال:
لم تترك الأتراكُ بعدَ جمالها
حُسْناً لمخلوقٍ سواها يُخْلَقُ
فصار المؤلف الراوي يتطلع إليهم وقد نسي أن "العين للقلب عدو، وأنها تسلبه القرار، وتمنعه الهدوّ" وقد أعجبه فتى فاق الجميع حسناً ودلالاً، وأحس أنه عشقه حتى صار له ذليلاً، فشعر بثقل الهمّ، وعَذَر المحبين الذين كان يلومهم، ثم دنا منهم وقال: "أما ترثون لصب مستهام" وراح يعبر للفتى عن تعلقه به فدعا الفتى ربه ألا يسهر له جفناً من جفاء الحبائب، ولا يحرق قلبه بنار البعد والفراق، ثم ذهبا ليستترا عن الأعين ويتشاكيا الوجد في جلسة قصيرة، وقد ملك حبه شغاف قلبه، فقال له الفتى "كيف وقعت في أمر كنت تزجر الناس عنه، وكيف غررت بنفسٍ لم تبرح في صيانة، وأهَنْتَها، ولم تكن تعرف الإهانة، …كيف نسيت المواعظ التي كنت للناس توردها، فأجابه الراوي بأن هذا قدر الله ولا راد لقضائه"، وطلب منه أن يشفق عليه بضمة فنظر إليه نظرة فاتنة، وطلب منه أن يثبت له حبه، فقال:
وعندي شهودٌ للصبابة والأسى
يُزَكّون دَعْواي إذا جئْتُ أدّعي
سَقامي وتسهيدي وشوقي وأنني
ووجدي وأشجاني وحزني وأدمعي ([3])
فطلب المزيد من ذلك لأن تكثير البينة مما يطمئن النفس، فعبر عن ذلك بالشعر أيضاً، فطلب أن يقسم له على حبه، فأقسم بمن زين صبح الجبين بليل الشعر، وجمل سحر العيون بالكحل والحَوَر… وبين له أنه سيطيعه في كل أمر.... وأنه لن يحول عن حبه حياً أو ميتاً، وأنه عبد عبده إن وصله أو هجره، فقال الفتى عند ذاك (لقد صدقت في هذه الدعوى... أنا في خدمتك وبين يديك، ونافذ علي حكمك ولا ينفذ حكمي عليك، فمُرْني بالذي تختار و تريد، واحكم فديتك حكم المولى على العبيد، فبكى الراوي خوف الفراق وتمنى قبلة ... فكان يقبله وهو ينظر إلى الطريق خائفاً من الرقيب، ثم تركه الفتى ليلحق بصحبه بعد أن تواعدا على اللقاء ثانية، وخلَّف الراوي يعيش في ألم البعاد وهو يقول:
لبكاء هذا اليوم صُنْتُ مدامعي
وكذا العزيز لكل خطبٍ يذْخَرُ
يا ساكني وادي العقيقِ فَدَتْكُم
عينٌ مدامعُها عقيقٌ أحمر
ولكن الفتى جاءه فرآه يبكي، فسارا معاً إلى الدار حتى كان الليل فودعه، فراح يساهر النجوم حتى الصباح، وظل على هذه الحال حتى جاء يوم الميعاد فذهب الراوي مع صديقه إلى المكان الذي التقى به فما وجد الفتى بل رأى النواعير تبكي من الفراق، والحمائم تطارح الأحزان و الأشواق، فخاطبها بلسان حالها، فأحزنته بتصاعد زفراتها، فراح ينشد شعراً يعبر فيه عن أشواقه ومعاناته، ويقارن بينه وبينها، فقال له صاحبه سأتوسط بينك وبين الحبيب، فخط المحب للفتى رسالة أرسلها معه ، وراح ينتظر الجواب على أحر من الجمر، وعاد الرسول يعده على ألا يكون بينهما رقيب، فراح الراوي يهيئ الدار، فقدم الفتى بروائحه العبقة، وعبّا معاً كؤوس الخمر حتى سكرا، ولما انتصف الليل تركهما صاحبه، وأحس الراوي بفمه حلاوة من ذلك "الريق الشهي الطاهر([4]) " ثم ودعه بعدما طلع الصباح، ووعده بزيارة أخرى، وهنا يتألم الراوي وينشد أبياتا من قصيدة ابن زيدون التي مطلعها :
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
ونابَ عن طِيْبِ لُقيانا تجافينا
وتمنى (عودة الوصال وبلوغ المنى والآمال) ،وأنهى الكتاب بالحوقلة والصلاة على الرسول r وبـ "آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين".
دراسة القصة :
أ - دراسة المضمون:
تعد هذه القصة من القصص الواقعي الاجتماعي التي ألفها الكاتب ليحذر من مغبة النظر وخطره فيقول: "أضر ما على الإنسان في كل زمان أن يجري طرفه مرخى العنان، فيمرح في ميدان الملاحة والجمال، ... فينظر ما لا يقدر على الصبر عنه مع النظر إليه، ولا يستطيع الفرار منه عند الزحف عليه، فيرجع بعد النعمة والوقار إلى موقف المذلة والانكسار("([5]
ثم يبين أن المحب يكون خالي البال، فيغدو دامع العين حزيناً لا تثنيه الملامة ولا الرقيب، ويكون مخدوماً فيصير خادماً، ويكون مسروراً فيصير واجماً، ويبوح بسره، ويذوق كأس الهوان، ولهذا أُمِر المرءُ بغض البصر.
وقد كرر هذه الفكرة بأساليب شتى، ثم صور معاناة المحب، وما يلقاه من تأنيب وذل وهوان وما يحس به من خوف الرقباء.
ب- بناء القصة:
استهلت هذه القصة ببيت من الشعر يشير إلى حاجة المرء إلى من يشكو له، ثم تحدث عن الحب ومتاعبه ثم بين أنه عذب منه كثيراً حينما وقع في فخه، وراح يسرد القصة التي آلت به إلى هذه المعاناة.
وكانت القصة - لولا تكلف أسلوبها - أشبه بقصص الغزل الحديث، فالكاتب كان في نزهة فرأى الفتى المليح الجميل فأسره بنظراته وقدِّه، فتعلق قلبه به، فحادثه وسارا معاً ليستترا عن الأعين وعجب الفتى من شدة تعلق صاحبه به، ولكن الراوي أخبر أن هذا قَدَرُهُ، فطلب الفتى منه أن يثبت له حبه، فأقسم له على ذلك، وبالغ في تصوير وجده، مما جعل الفتى يحس بأن صاحبه صار عبداً ذليلاً له، وتعاطيا كأس الهوى ثم راح الفتى وصار هذا دأبهما في كل يوم، ثم غاب الفتى فأحزن فراقه قلب الراوي وأرسل إليه رسالة مع صاحبه، وعاد الرسول ليخبره بمكان اللقاء، وهيأ الدار له فلما قدم الفتى شربا الخمر حتى الصباح، ثم ودعه ووعده بزيارة أخرى.
وبذلك تنتهي القصة ويحمد المؤلف الله ويصلي على نبيه r بعد ذلك …
هذه الحوادث مترابطة محكمة، وكانت مصادرها مما كتب عن الحب والغزل من نثر وشعر ، كما في حديثه عن ابن زيدون وولادة، وقد اتبع في عرضها أسلوب الترجمة الذاتية إذ سردها بلغة المتكلم، ومزج السرد بالنجوى الداخلية حيث كان يعبر عن قلقه لبعد الفتى عنه وترقبه له، وكان زمن الترقب وسيلة تشويق تدعو إلى متابعة القراءة ...
وبدا أثر البيئة واضحاً في هذه الحوادث، فهناك البيئة الطبيعية الفتانة التي يأوي إليها الناس ليستروحوا عناء متاعبهم،وتلك التي التقى في أجوائها بالفتى ، والبيئة الاجتماعية، كحديثه عن الرقباء الذين كانا يخافانهم .
وليس في هذه القصة شخصيات كثيرة، فالراوي هو البطل، وهو المؤلف نفسه، وهناك الفتى وجماعته، وصاحبه الرسول بينه وبين فتاه، وقد عرضت شخصياته بطريقة تمثيلية غالباً كثر فيها الحوار كما في قوله :
" فقلت: نعم قضى الله وما شاء فعل، ومن الذي يرد القضاء إذا نزل، وما بقي لي غير تدبيرك الحسن، وبذل المجهود، والإجراء في صنيعك المحمود على ما هو المعهود، فقد قامت قيامتي إن لم أشاهد وجه المليح، وقد زالت سلامتي إن لم أعاين قده الرجيح .... فقف معي مغيثاً أو معيناً، أو ضاحكاً أو حزيناً، أو عاذلاً أو عاذراً، أو فاضحاً أو ساتراً.
فقال : لأجعلَنَّ وجهي في خدمتك أبيضا([6]) ، ولأبذلنّ جهدي لتنال الرضا وفوق الرضا، لكن اكتمْ ما بك، واصبر على الغرام، ولا تظهر شأنك لأحد من الأنام، فلستَ من السوقة الأراذل، وظهور هذا منك ليس بطائل.
فقلت: صدقتَ، ولكن ليس لي دمع يمتنع، ونصحتَ، ولكن ليس لي قلب يرتدع، فما أقابل حلاوة محبوبي بالصبر، ولا أسلو هواه ولو وسدت في القبر وقد شكا الناس قبلي ألم البعد والفراق، وقاسوا عظيم الوجد والاحتراق ولكن لمثل حبي ما مشيت، وبمثل وجدي لا سمعت ولا رأيت.
فقال: قم أيها المغرور المقهور، المأسور المغدور ،
فسرت معه" ([7])
فالكاتب عبر عن شخصيته ووصف تعلقه بمن يحب من خلال الحوار الذي جرى بينه وبين صاحبه، وأشعرنا من خلاله بعدم قدرته على التصبر وألم الفراق.
ولكن بعض الحديث جاء عن طريق النجوى الداخلية على نحو قوله لقلبه :
" قلت فيها لقلبي: أتعرف يا قلب من سمح لك بعد العناء بالعناق ؟."
وهناك سرد أيضاً كقوله:
فوصلنا إلى ذلك المنتزه الأنيق والمحل الذي هو باللطافة والمحسن خليق، فما وقفنا على عين ولا أثر ولا ظفرنا بحسٍّ ولا خبر بل الماء يجري ويتوجع بخريره، والنواعير تئن لنواح بلابله وشحاريره ([8]) .
فالكاتب يعبر عما كان يلقاه من عذاب القلق وهو يترقب عودة فتاه، وقد جعل الطبيعة تشاركه أحزانه وآلامه، فالنواعير تتوجع وتئن ، والبلابل والشحارير كذلك .
وشخصيات القصة بمفهوم النقد الحديث تتنوع بين مسطحة ونامية.
فشخصية الراوي نامية، إذ كان يحذر من سطوة الحب وعذابه ثم لما وقع فيه وانغمر في مفسداته تعلق به ولم يعد يبرحه. أما شخصية الغلام فكانت مسطحة لأنها لازمت حالة واحدة إذ كانت تستجيب لرغائب المحب دائماً، وكذلك الحال في شخصية الصاحب، فهو أبداً يلبي مطالب صاحبه.
ج - نسيج القصة :
وأعني به لغتها، ووصفها، وحوارها.
غلب السجع والتصوير على أسلوب القصة، فوفرالأول للنص إيقاعا موسيقياً جميلاً ، وكان للثاني أثره في التعبير والتأثير ، والشواهد على ذلك كثيرة ، منها قوله :
" وكأن النجوم عيون طرقها الأرق والسهاد، وجفا أجفانها لذيذ الكرى والرقاد" ([9])
فالكاتب هنا أنهى عباراته بالدال المردوفة، وقد أكسبها هذا السجع والتوازن الجميل وقعا موسيقيا عذبا، فضلاً عن احتواء العبارتين على خيال مصور، فالنجوم عيون أرقت وأجفانها شخص ينأى عنه النوم .
وفي قوله: "إلى أن كاد الظلام يشف لونه الحالك، ويتبسم ثغر صبحه الضاحك، وبدت أعلام الصباح منشورة الرايات، وسطعت أنوار النهار منصورة الآيات، وأقبل الفجر مؤيداً منصوراً، وولى الليل مهزوماً مكسوراً وبدا حاجب الغزالة مشرق الأنوار، وفرق من شعاعها سبائك الذهب على سائر الأشجار" ([10])
نرى الأديب ينهي فواصل عباراته بالكاف ثم بالتاء، ثم جاءت الراء وقد حقق بهذه العبارات توازناً أدى إلى إيقاع منغم طرب، إضافة إلى ما في النص من تصوير جميل ، فالظلام حينما ولى يشبه الثياب السوداء الشافة ، والصبح إنسان يبتسم، وهو جيش ينشر راياته وينتصر على عدوه الليل الذي يولي أدباره، والشمس تشرق أنوارها وتوزع ذهبها على الأشجار...
وفي القصة اقتباس كقوله " قال لي صاحبي وهو يحاورني" مقتبس من سورة الكهف من قوله تعالى )قال له صاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً(
وهناك اقتباس للأمثال مثل "قد اتخذْتُه جهينة أخباري" مأخوذ من المثل المشهور: عند جهينة الخبر اليقين .
ولكن تضمين الشعر، أو مزج شعره بنثره كان كثيراً حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحات القصة، وقد أورد ضمن قصيدة ابن زيدون النونية، وكان بعضه مناسباً للفكرة، إلا أن قسماً منه جاء متكلفاً كقوله وقد استخدم فيه مصطلحات الحديث الشريف في الغزل مما لا يناسب مقام حديث المصطفى r :
كرر حديثكَ قد تضوَّع ريحُه
مِسْكاً وطابَ على السماعِ صحيحُه
وحديثُك المرفوعُ صِلْهُ بمَسْمَعي
فعساه من ألم الفراقِ يُريحُه
لو كنت تروي مرسَلاً من لوعتي
لروَيْتَ منه ما يطول شروحُه ([11])
فذكره الحديث الصحيح، والمرفوع، والمرسَل، والشروح لا يناسب هذا المجال.
وقد يأتي تضمين معاني الشعر في ثنايا النثر على نحو قوله: (وقد أزعجني بهذا الكلام، وزاد عن جفني لذيذ المنام) والعبارة الأخيرة مقتبسة من قول ابن الرومي في ثورة الزنج :
ذادَ عن مقلتي لذيذَ المنام
شُغْلُها عنه بالدموعِ السجام ([12])
وهذه مقابلة أجاد بها الكاتب أيضاً : "وأنا في حالة تسر الحواسد والأعداء، وتسوء الأصدقاء والأوداء" ([13]) .
وما أجمل هذا الازدواج في قوله "عهدتك ذا جنان ثابت، ونفس أبية، وعقل مصيب، وآراء مضيّة، فما الذي جشمك على هذا الموقف العجيب ..." ([14]) وقد حقق نغمة طربة ولا سيما أنه جاء بعد كل جملتين بسجعة تنتهي بالهاء المسبوقة بالياء المشددة .
وكن هناك جناسا وطباقا لم يخلوا من تكلف وذلك في قوله : "كان كليماً فصار كليماً، وكان صحيحاً بمعنى الجريح، وفيهما جناس تام، وأما الصحيح والعليل، والعزيز والذليل، ففيهما طباق، وقد أكد ذله بعد عز مرتين.
كما ورد في أسلوبه مبالغة غير مستحبة كقوله: (وأصبحت بعد ذلك الخلو ملآنا، وبعد الرقاد مُسَهَّداً سهراناً) فالسجعة هنا غير مناسبة.
وفي القصة تصوير بديع يحوي صوراً جزئية، تشابيه واستعارات جميلة نحو: "تنساب جداول جوانبه كالأراقم، ويصفق النهر لرقص الغصون على غناء الحمائم، فأجلسنا النرجس على عينيه وأحداقه، وظلَّلنا الغصن بسائر أوراقه، وحيا منثوره الأبيض والأزرق بالأصابع وجرى النهر بين أيدينا متواضعاً بسجوده"([15]) .
فالجداول في انسيابها تشبه الثعابين في حركاتها (تشبيه)، والنهر يصفق (استعارة مكنية تشخيصية)، والغصون في تمايلها تبدو كراقصة طربة من سماع غناء الحمائم (استعارة مكنية تشخيصية أيضا)، والنرجس يكرم القادم (استعارة مكنية) فيجلسه على عينيه وأحداقه (استعارة مكنية تجسيمية)، والغصن يظلل من تحته (استعارة مكنية) والمنثور يحيي بيده (استعارة مكنية) والنهر يتواضع ويسجد بين يدي ناظريه (استعارة).
وما أجمل هذا التشخيص للطبيعة، إنه النسيم يصاب بالمرض من شدة غيرته، ويولي أدباره وهو في ضيق شديد، فيتعثر في خطواته، ويقبل على الأغصان فيقبلها وهو غضبان، يقول في ذلك : "واعتل النسيم غيره وتغير، فتولى، وهو بذيله يتعثر، وجعل يجر من الحياء ذيولاً على الأغصان فتعتنق اعتناق المواصل الغضبان".
وهذه الاستعارة العنادية "فما لي سمير غير الهموم والفكر ولا أنيس سوى الحزان والسهر، تشير إلى حال الكاتب في حبه، فالسمير والأنيس يفترض أن يكونا ممن يحبهم المرء، لكنهما كانا عند صاحبنا هم وفكر وحزن وسهر.
والطبيعة تشارك الكاتب فرحته، وقد وظف وصفها لخدمة فكرته، وكنا رأينا النواعير تبكي لبكاه، وها هو (الروض قد أشرق بالأنوار، وتمايلت عجباً أغصان الأشجار، وغنت صوادح الأطيار)، لأن الفتى قدم إلى الراوي فأحسّ بالفرحة وجعل الطبيعة تحس إحساسه .
وهذا الأسلوب الجميل والتصوير البديع يدعواني إلى تكرار القول بضرورة الاهتمام بالنثر العربي القديم لترشف الناشئة من عِذاب ألفاظه، فتتعلق به في وقت كثرت فيه الهجمات على الفصحى والدعوة إلى إقصائها .
2- القصة التأملية:
كثرت القصص التأملية في عصر الدول المتتابعة إذ كان الكتاب يتخذونها وسيلة للتعبير عن فكرهم وفلسفتهم وآرائهم العقائدية ، وذلك للتأثير في القلوب والعقول، وللتخلص من لوم الائمين، لأن ما يقال فيها يرد على ألسن الشخصيات، وقد ألف ابن غانم المقدسي([16]) قصة (القول النفيس في تفليس إبليس) في هذا المجال .
وهي قصة وهمية تجري في مخيلة صاحبها، وتنم عن فكرة وعظية أرتآها الأديب، وسيّر مجريات الحوادث لأدائها ولتحقيق غايته منه، وقد ألفها للرد على ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس)، وتحدث من خلالها عن فكرة القضاء والقدر، ويبدو الكاتب فيها وكأنه يبرر لإبليس مخالفته لربه ، وإن جعله في ختام القصة الخاسر الخائب، إذ يجري بينه وبين مولاه رب العالمين حواراً يبدو من خلاله تطرفه في فهم القضاء والقدر، وتفسيره لحوادثه تفسيراً لا يقبله الشرع.
فهويطالعنا في مستهل قصته بنظرته التأملية في دائرة الشقاء والسعادة، ثم يذكر أن إبليس كان أول من يئس من رحمة الله، ولذلك راح يدنس الطريق إلى الله بالمعاصي، وها هو المقدسي يوقِفه موقف الجدل ويقول له "يا لعين اسلك سبيل العدل في الجدل، والإنصاف في السؤال"، فيجيبه إبليس طالباً منه أن يورد ما عنده من أقوال، فيذكرها المؤلف له، ويقص عليه قصته مع آدم، وقد ندد به لعصيانه لربه، وإغرائه للبشرية، فيتميز إبليس غيظاً تَمَيُّزَ الذئب ويرد على المقدسي رداً قوياً يقارعه فيه الحجة بالحجة، ثم يقول له "أنا صفوة الملائكة المقربين يا هذا، أتظن أني أخطأت التدبير، أو رددت التقدير ...؟ ولقد لقيت موسى على عقبة الطور، وهو بما أوتي مسرور، فقال لي ما منعك من السجود؟ فقلت منعني من السجود الوارد، نوديت الدعوة لمعبود واحد، ولو سجدت لآدم لكنت مثلك، لأنك نوديت مرة واحدة: )اُنظر إلى الجبل( فنظرت، وأنا نوديت مرة اسجد لآدم فما سجدت لدعواي بمعناي .. فقال لي موسى، هل تذكره الآن بعد طردك؟ فقلت: يا موسى لا أعرف غيره، ولا أذكر غيره أبداً، ولو عذبني بنار الأبد. يا موسى! أنا في الخدمة أقدم، وفي الفضل أعظم، وفي العلم أعلم، أنا أعلمهم بالسجود، وأقربهم إلى الوجود، وأوفاهم بالعهود،
وأدناهم إلى المعبود، ولكن سيدي قال: لي الاختيار، ولا لك، فقلت: سيدي لك الاختيارات كلها، فاختياري إليك، فإن أهبطتني فأنت الرفيع، وإن أخطأتُ في المقال فأنت السميع، وإن أردتَ أن أسجد فأنا المطيع"
هذه القصة التأملية تظهر كما قال د.عمر موسى باشا الخيال الخصب الذي وهبه الله سبحانه وتعالى للمؤلف، والمقدرة الفائقة على إجراء الحوار، وهذان من أهم مقومات العمل القصصي .
ولكني أرى أن في معاني القصة تطرفاً كبيراً فابن غانم يجعل إبليس يعترف بوحدانية الله سبحانه ولكنه بعد ذلك يخالف النص القرني قي أمرين :
أولهما أن إبليس عند المقدسي يقول لموسى عليه السلام أنا في الخدمة أقدم، وفي الفضل أعظم، ولا يعقل أن يكون إبليس اللعين أفضل من عالم فكيف بنبي رسول .
وثانيهما: أن إبليس قال في مناجاته لربه: "وإن أخطأْتُ في المقال فأنت السميع، وإن أردْتَ أن أسجد فأنا المطيع" وكأنه بذلك جعل اللعين تقياً عابداً يخطئ، ولكنه يريد التوبة، ويتذلل أمام خالقه، مع أن الله سبحانه أورد عنه ما يشير إلى عجرفته وكبريائه وتجبره، قال تعالى حاكياً حاله: )فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقْتُ بيديّ أستكبرت أم كنت من العالين. قال أنا خير منه خلقتني من نار، وخلقته من طين، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم. قال فبعزتك لأغوينَّهُم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين. قال: فالحقُّ، والحقَّ أقول: لأملأَنَّ جهنم منك وممن تبعك أجمعين( ([17]) .
وفي موطن آخر يقول المولى جل جلاله حاكياً عن إبليس وعنجهيته وغطرسته: )وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً. لعنه الله وقال لأتخذَنَّ من عبادك نصيباً مفروضاً. ولأضِلَّنَّهم ولأُمنينهم ولَآمُرَنَّهُمْ فلَيُبتِكُنَّ آذان الأنعامِ، ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خلق الله، ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً ( [النساء/117-119]
فإبليس هنا يتصرف تصرف من أساء الأدب كثيراً أمام خالقه ومولاه، وقد بينت كتب التفاسير أيضاً موقف إبليس اللعين من آدم ونفسيته المتغطرسة قبل أن يحيا آدم عليه السلام:
ففي تفسير القرآن العظيم لابن كثير: أن الله سبحانه عرف من إبليس، وكان اسمه "عزازيل"، كبرياءه واعتزازه، وكان يبدو من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فأراد جلّ وعلا أن يعرّفه حقيقته، فلما خلق آدم من طين لازب، من حمأ مسنون منتن، وأبقاه أربعين ليلة جسداً ملقى، كان إبليس يمر به فيضربه برجله فيخرج صوت الصلصال، فهو قوله تعالى )من صلصال كالفخار( ثم يَدْخُل في فيه ويخرج من دبره، ويقول لسْتَ شيئاً للصلصلة، ولشيءٍ ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنّك، ولئن سلطْتَ عليَّ لأعصينَّك، فلما نفخ الله سبحانه فيه الروح عطس، فقال بإلهام من الله سبحانه: الحمد لله رب العالمين، فقال الله تعالى: يرحمك الله يا آدم، ثم طلب الله عز وجل من الملائكة، ومن إبليس السجود له([18])، فاعترض إبليس وقال: )أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين( فأبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته([19]) .
فإبليس الرجيم إذاً يعترض ولا يتذلل، ويتعنت ولا يطيع، فكيف جعله المقدسي يعترف بخطئه ثم يقول للمولى تعالى "إن أردتَ أن أسجد فأنا المطيع"، ومن أين للمقدسي بهذا التفسير؟
ولو قارنا بين نظرة ابن المقدسي إلى إبليس ووجهة الشاعر " ملا جرجيس بن درويش"([20]) له لرأينا البون شاسعاً في الفكرة والغاية، فابن درويش لا يخالف صريح القرآن الكريم فيما حكاه عن إبليس اللعين في قصته الشعرية التأملية بل جعله يحاول إغواء ابن آدم، إذ يأتيه في حلمه ليعرض عليه الذهاب إلى مجلس شرب وغناء، فيتظاهر الشاعر أمامه بموافقته على ما يريد، فينتفش إبليس ويرميه بالفسق، ولكن الشاعر يرد عليه، ويعلمه أنه كان يسخر منه، وأن دينه يمنعه من المنكرات، ثم يستغفر الله سبحانه مما بدر منه، فيُخْزَى اللعين ويرتد خاسراً خائباً، يقول ابن درويش في ذلك:
وليلةٍ بِتُّ على غُرَّةٍ
إذ جاءَ إبليسُ فحَيّاني
وقال : ما رأيُك في روضةٍ
قد جَمَّعَتْ من كل رَيْحان ؟
فقلت : يا شيخُ أيا حبَّذا
إن صحَّ هذا كيف تلقاني ؟
قال : وفي صافيةٍ عُتِّقَتْ ؟
قلْتُ : بها قضَّيْتُ أزماني
قال : وفي شادنٍ حلا صوتُه ؟
قلت: إذاً تُظْهِر أشجاني
فقال لي: يا أفسقَ الناس نمْ
فأنت من أنصحِ أعواني
فقلت : اخْسَأْ يا أشرَّ الورى
فحُسْنُ ديني عنه ينهاني
وكلُّ قولي بك هُزْءٌ فقُمْ
خُزِيْتَ من أقبحِ شيطان
فرُدَّ منكوباً على عَقْبِه
يَعْجَبُ من طَوْعي وعِصياني
وإني أستغفرُ الله من
ما قلتُه في سرّي وإعلاني ([21])
1- القصة الرمزية :
الرمز بمفهوم النقد الحديث يكون على ثلاثة أنواع:
1- ألفاظ موحية ترد خلال أسلوب بيّن وصريح، كأن يرمز للظالم بفرعون، وللشجاع بعنترة.
2- أو يكون حديثاً غير مباشر على ألسنة الحيوانات أو الجمادات، ويدور حول قضية تفهم من السياق لدلالة القرائن عليها، دون أن يصرح بها كما في كليلة ودمنة وما جاء على منوالها.
3- وقد يكون نصاً يشير إلى فكرة أو قضية باستخدام صور وعبارات خاصة في نظام دقيق وذلك لنقل المعنى بشكل خفي أو غامض، ويستخلص بواسطة حل رموزه المتتابعة أو طلاسمه المتواردة، كما في كثير من القصص المعاصرة .
ويقول أصحاب الرمز إن اللغة العادية لا تقوى بدلالاتها الوضعية على أداء الأحوال النفسية المستترة، والتجارب الشعورية التي تحكي اللاشعور، ولذلك يعمد الكتاب أحياناً إلى الرمز كوسيلة تعبيرية غير مباشرة تترجم عن أحاسيس الكاتب، وتكون رمزاً للخاطرة التي يريدون . وتجتاز اللغة بهذا الرمز عالم الوعي إلى عالم اللاوعي، ويتناثر وميضها في معان تنثال على الذهن كحبات القطر ([22]) .
وترجع الرمزية في أصولها الفلسفية إلى فكرة (المُثُل) عند أفلاطون، إذ قال إن الأشياء التي يقع عليها الحس إنما هي ظلال وأوهام ترمز إلى حقائق مثالية، وإن الروح كانت تعيش في يوم ما في ذلك العالم المثالي، ثم هبطت إلى الأرض، واستقرت داخل المادة، فكان الجسد عائقاً يحول دون اتصالها بجوهر الأشياء أو المثل.
وكان التصوف في القرن السابع الهجري، وهو القرن الذي عاش فيه ابن غانم المقدسي قد انتشر في الأصقاع الإسلامية انتشاراً كبيراً ([23])، ومازجه تطرف كبير ترك بصماته على الأدب شعره ونثره ، واتخذ بعض الأدباء الرمز وسيلة للتعبير عما لايستطيعون الإفصاح عنه خوفا من السلطة أو المجتمع ، ومن هنا وجدت قصص اجتماعية وسياسية رمزية ، كما وجدت قصص رمزية وعظية تعبر عن فكر مؤلفيها، ولاسيما المتصوفة منهم .
وسأدرس هذين النوعين دراسة موضوعية وفنية:
أ - القصة الرمزية الاجتماعية :
وهي قصص تحكي أوضاعاً اجتماعية، ولكن الحديث فيها لم يأت مباشرة على لسان مؤلفها، وإنما كان على لسان الجماد أو الحيوان كما في "قلعة الكرك" لمحمد النحاس ([24]) إذ ترمز هذه القصة إلى وضع اجتماعي ضاق منه أبناء العصر، وبدا أثره في الشعر ([25]) والنثر، ألا وهو إسناد وظائف في الدولة إلى غير المسلمين، وقد أورد الكاتب هذه الشكوى بأسلوب رمزي على لسان قلعة الكرك، إذ جعلها تقدم شكواها إلى سلطان مصر من الموقع فيها، وتطلب منه أن يجعل هذا المنصب لمسلم لا لنصراني ورمز إلى الثاني بكلمة "الأقلف" ([26]) وذلك لأن مصر على حسب قولها: "من أعز الممالك، وأصعب المسالك، قلعتها منيعة، وهضبتها رفيعة، وبقعتها وسيعة ...هي دار السلطنة الشريفة ، ومحل الأمن من الخيفة ، قد جمعت بين قرب الأرض المقدسـة والشام،
ومجاورة الأنبياء والبلد الحرام، ومع ذلك كله لسان إنشائها أقلف، وقلم توقيعها من الحجارة أجلف، ووليه نصراني الدين، وفي ذلك إجحاف بالإسلام والمسلمين، وكانت صابرة على البلوى... إلى أن أعزها الله بعز الدين، ومنحها منه بالرأي الصائب والفتح المبين" ([27]) .
ثم ذكر النحاس أنه غذي بالإسلام، ونسب إلى أنصار الرسول r، لذلك فهو أحق بها وأولى، ثم جاء بشعر يؤيد به رأيه ثم قال: "وقد أرسلت المملوكة هذه القصة والسيل بالغ الزبا، وخفيف بلله قد عمّ أعالي الربا، فإن أجيبت فاللوم عداكم، وإلا أنشدت فعلى عُلاكم".
دراسة القصة
كثرت شكاوى المسلمين في عصر الدول المتتابعة من استخدام الحكام لأهل الكتاب في مناصب هامة، ولاسيما ما يتعلق منها بالأمور السياسية والاقتصادية ولذلك نرى أدباء العصر يترجمون عن أحاسيسهم تجاه هذه القضية، فيثبتون أنهم لم يكونوا بمعزل عن مجتمعاتهم، وإنما سخروا أقلامهم لخدمتها، وكان محمد النحاس واحداً من هؤلاء،إذ رأى نفسه أحق بمنصب الموقع من النصراني، ورمز له بكلمة الأقلف، ولم يكن يستطع التفوه بذلك حتى انكشفت الغمة بمجيء سلطان جديد فعرض عليه أسباب رغبته بهذا المنصب الرفيع، وتكمن في :
1- لا يجوز تولي غير المسلمين للمناصب الهامة في الدولة الإسلامية، لما في توليهم من خطر عليها، ولا سيما إن كانت المنطقة التي يعملون فيها ذات خطر، كقلعة الكرك التي وصفها بأنها محل الأمن، وهي تقع في موقع حساس يتوسط بين الشام والقدس وأراضي الأنبياء والبلد الحرام.
2- النحاس مسلم ينتسب إلى الرسول r ، وهو لذلك أحق بهذا المنصب من غيره .
3- مقدرته البلاغية التي تؤهله لمنصب التوقيع. وقد أظهر هذه المقدرة حين كتب شكواه بأسلوب رمزي على لسان القلعة، وأبدى فيه مقدرته على التعليل والتشخيص، وكان أسلوبه متينا ويناسب ذوق العصر وذلك باستخدام السجع والاقتباس وتضمين الشعر، وغيره من المحسنات البديعية.
4- أنهى القصة بأن طلب من السلطان أن يرأف بحاله، ودمج الشعر بالنثر وقال: (فإن أجيبت فاللوم عداكم، وإلا أنشدتْ فعلى علاكم) أي السلام، وهذا يعني أن الدولة سيزول مجدها بهؤلاء الموظفين في المراكز الحساسة ، وقد استخدم الاقتضاب([28]) للإيحاء بهذا المعنى .
وبهذا نجح الكاتب في عرض قصته بطريقة منطقية محكمة وبأسلوب رمزي جميل يجذب إليه الانتباه، و يدعو إلى إكبار قائله أديباً بليغاً يماشي عصره ويبدع في تصوير قضاياه.
ب- القصة الرمزية الوعظية:
وفيها تبدو مقدرة الكُتّاب على الإتيان بقصص وعظية تذكر بالمولى تعالى وبرسوله r وتدعو إلى التفكر في ملكوته بأسلوب رمزي أيضاً، وقد جاءت على لسان المخلوقات الحية والجامدة، ودارت حول قضية من القضايا الفلسفية والعقائدية التي تهم مؤلفها، ولاسيما إن كان من أصحاب الاتجاه الصوفي، إذ اتخذ هؤلاء القصة مطية للدلالة على فكرهم وأحاسيسهم، ومن هؤلاء ابن غانم المقدسي في قصته "كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار"،التي سأدرسها دراسة مضمونية وفنية .
كشف الأسرار عن حكم الطيور و الأزهار للمقدسي :
وهي جولة فكرية في تسع وأربعين صفحة ، مع سبعة وثلاثين مخلوقاً من مخلوقات الله سبحانه في عالمي السماء والأرض، بين السحاب والزهور والحيوانات، استمَع الراوي ،وهو الكاتب،من خلالها إلى كلامها بل إشاراتها،وأدرك بلسان الحال لاالمقال ما تسديه هذه الكائنات من حكم ومواعظ، لأنه رأى، كما ذكر في المقدمة، أن "لسان الحال أفصح من لسان القال، وأصدق من كل مقال، لأن لسان الخبر يحتمل التصديق والتكذيب، ولسان العبر لا ينطق إلا بالتصديق والتحقيق، والناطق بلسان الحال مخاطب لذوي الأحوال([29])، والناطق بلسان القال مقابل لأهل الصحة والاعتدال" ([30]) .
وهذه الجولات تترابط مع بعضها بعضاً من خلال حديث الراوي كأن يقول "ثم التفتُّ فرأيْتُ طاووساً" ثم يبدأ بإشارة الطاووس أو قصته، وفي كل حكاية أو قصة موعظة أو أكثر، ومجموع هذه المواعظ تكون فكرة ابن المقدسي الإيمانية الصوفية، وقد بين أن من فهم حِكَمَه فهو مثله، أما من أعجم عليه أمره فليس من المتصوفة ([31]) .
وتبدأ هذه الجولات الفكرية ، أو قصة المقدسي الرمزية الوعظية حين يذكر أن فكره أخرجه يوماً لينظر ما أحدثته أيدي القدم من أمور لم تخلق عبثاً، وإنما أوجدها بارئها لحكمة بالغة يستفيد منها أولو الأبصار، فأوصله تأمله إلى روضة رق أديمها وراق نسيمها، فتمنى أن يكون معه صاحب أو نديم يسليه، ولكنه فوجئ بلسان حال يقول له "أتريد نديماً أحسن مني ؟ أو مجيباً أفصح مني، وليس في حضرتك شيءٌ إلا وهو ناطق بلسان حاله، مناد على نفسه بدنو ارتحاله، فاسمع إن كنت من رجاله :
ألم ترَ أن نسيمَ الصَّبا
له نفَسٌ نَشرُه صاعدُ
فطوراً ينوحُ وطوراً يفوح
كما يفعلُ الفاقد الواجد
ونورُ الصباح، ونَوْرُ الأقاح
وقد هزَّه البارقُ الراعد
وكلٌّ لآلائِه ذاكرٌ
مُقِرٌّ له شاكرٌ حامد
وفي كل شيءٍ له آية
تدلُّ على أنه الواحد ([32])
وبذلك بدأ بإشارة النسيم، فتحدث على سبيل الرمز عما سمعه من همهمته بصوته الرخيم، بلسان حاله مفصحاً عن سقمه، وبين أنه رسول المحبين. واستخلص من حركاته حكماً ومواعظ، ثم انتقل إلى إشارة الورد فالمرسين فالنرجس، ثم إلى شجر البان والبنفسج، وغيرها من النباتات، ثم عرج إلى السماء فأخذ من السحاب رموزه وإشاراته، وعاد إلى عالم الأرض ليتحدث على لسان حيواناتها كالهزار والباز والديك والبط، والفهد والنمل والطاووس والهدهد وغيرها من حيوانات البر والبحر، الأليفة والمفترسة والطائرة، وكان يعرض في تنقلاته بينها أخلاق الزاهد أو الصوفي، كالفقر والعزلة والمجاهدة إلى أن انتهى إلى العنقاء، رمز الذات الإلهية والعياذ بالله، التي وصل إليها جماعة الطيور، وهم عنده رمز المتصوفة المهاجرين إلى الله سبحانه.
الدراسة الفنية:
1ً- دراسة المضمون :
كتب ابن غانم المقدسي قصته للتعبير عن أخلاق المتصوفة بشكل رمزي لا مباشر، وبدا هذا واضحا منذ الإشارة الأولى "النسيم" إذ جعله يتحدث على سبيل الرمز عن إحساسه بقدرة الله سبحانه الذي أوجده، ثم ذكر على لسان النسيم فضائله فهو يهب في الصيف فينمي الثمار، وفي الخريف لتأخذ كل ثمرة طيبها، وفي الشتاء ليخف عن كل شجرة حملها .... ثم انتقل بعد ذلك إلى فكرة الحب الإلهي فعرض فكرة الصوفي بأسلوب رمزي دمج فيه الشعر بالنثر، ورمز بـ (ليلى) إلى الذات الإلهية محبوبة المتصوفة، ذات (المحل الأرفع) التي تكشفت له (ولم تتبرقع)، كما ذكر حانة الخمرة الصوفية، ورمز بها إلى مكان العبادة واللذة فيها، وأعجب بالنسيم الذي هب من عندها فأسكره عبيرها، كما أعجب بجمال منظرها في حانها ،وكأن النسيم الأول رمز للنسيم الذي أنهى الإشارة به يقول :
يا طيبَ ما نقل النسيم لمَسْمعي
عن طيبِ ذاك المحل الأرفع ([33])
هبَّ الصَّبا سحَراً لتبردَ غُلَّتي
فأثارَ نارَ تحرُّقي وتوجُّعي
ما ذاك إلا أنها لما سَرَتْ
مرَّتْ على تلك الرُّبا والأربعِ
وتحمّلَتْ عَرْفَ الشذا من طيبِها
فسكِرْتُ حتى لا أفيقَ ولا أعي
وافَتْ تُبَشِّرُني بليلى أنها
في حسنِها سفَرَتْ ولم تتبَرْقَع
وجَلَتْ على عُشّاقِها في حانِها
وجهاً تَمَنَّع في حِمىً مُتَمَنِّع ([34])
فعبارات المحل الأرفع والسكر والسفور، وعدم التبرقع، والعشاق وليلى والحانة ألفاظ صوفية رمزية، أراد بها الكاتب الذات الإلهية ونشوة العبادة، والكشف الذي حصل له بسفورها وعدم احتجابها وهو ما توصل إليه في إشارة العنقاء في آخر المطاف .
ولم يكن الشاعر ليستطيع التصريح بهذه المعاني لمخالفتها للشرع الحكيم، ولذلك لجأ إلى الرمز فذكر ليلى ومحلها الأرفع، وسفورها وخمرتها وما سوى ذلك من ألفاظ ومعان ترد عند كثير من المتصوفة السابقين له ، وهو بهذا يتبع ما تعارف عليه متصوفة العصر .
فابن الفارض([35]) يتحدث عن الحانة والخمرة الصوفية الرمز بقوله:
شربْنا على ذكرِ الحبيبِ مُدامةً
سكرْنا بها من قبلِ أن يُخْلَقَ الكَرْمُ
ولولا شذاها ما اهتديْتُ لحانِها
ولولا سَناها ما تَصَوَّرَها الوهم ([36])
ويتحدث عن ليلى الرمز فيقول :
هل نارُ ليلى بدَتْ ليلاً بذي سلمٍ
أم بارقٌ لاح في الزوراءِ فالعلم
فمِن فؤادي لهيبٌ نابَ عن قبسٍ
ومن جفونيَ دمعٌ فاض كالدِّيَم ([37])
وابن سينا ([38]) صاحب النظرية الاستشراقية الإلحادية يذكر المحل الأرفع للروح، كما يذكر سفور الذات وعدم تبرقعها فيقول:
هبطت إليك من المحل الأرفع
هيفاءُ ذاتُ تدلُّلٍ وتَمَنُّعِ
محجوبةً عن كل مُقْلةِ ناظِرِ
وهي التي سَفَرَتْ فلم تَتَبَرْقَع ([39])
ومن المعروف أن ابن سينا في كتابه "حي بن يقظان" يتحدث عن "وحدة الوجود" وعن الوصول إلى "الذات الإلهية" ويرمز لها بالملك، وعن وصول قوم بررة من أهل الأرض إليها وتمتعهم بالنظر إليه ([40]) .
والمؤلف المقدسي ينتقل بعد ذلك إلى إشارة الورد ليحدثنا بطريقة تمثيلية عن ضرورة اغتنام الوقت لأنه كالطيف أو كالسيف، كأن يقول على لسانه "أنا الضيف الوارد، بين الشتاء والصيف، أزور زيارة الطيف فاغتنموا وقتي، فالوقت طيف". كما يحدثهم عن الصبر، وعن الدنيا الفانية ذات الهموم([41]).
وفي إشارة النرجس يبين في رموزه وعلى لسان هذا الزهر أن سيد القوم خادمهم، ولهذا فهو لا يرفع رأسه تكبراً، ولا ينسى من يصله، وأنه يقف أمام سيده ذليلاً وجلاً مهما قدم من عمل وبذل من جهد لأنه يخاف يوم الحساب، إذ لا ينفع المرء علم لا يقترن بعمل صالح ([42]) .
ولم يكتف الكاتب بعرض الأخلاق الإسلامية الرفيعة بل تخطى ذلك إلى العبادة فجعل "إشارة اللينوفر" ترمز إلى التهجد في جوف الليل، ومناجاة الباري تعالى الذي رمز له بالماء، ذلك لأن النبات كما تحدث عنه كان يغط في الماء ليلاً وكان الماء يغار عليه إن تفتحت عينه في النهار، لئلا يشغل عنه بالآخرين، فيغطه في الليل ليعود إلى خلوة فكره، ومناجاة حبيبه، ثم يبين أن العذاب حلو إذا كان به هناءة الإنسان، فأهل الهوى يذوبون شوقاً، فينالون بذلك مُناهم. يقول على لسان اللينوفر: "أفتح عيني بالنهار فيغار علي (أي الماء) من الأغيار، فإذا جنَّ ليلي أنزلني عن رُتْبتي وحطَّني، وأخذني وغطَّني فأغوص إلى وكري وأعود إلى خلوة فكري ... ثم يقول:
يقول لي الحِبُّ لا تألفَنْ
سوانا إذا رمْتَ مني الغنى
فلا تجزعَنَّ لحرِّ النبالِ
ومُرِّ النَّكال ففيه الهَنا
ومُتْ مثلما ماتَ أهلُ الهوى
وذابوا اشتياقاً فنالوا المُنى
وما ضرَّهُمْ حين ناداهُمُ
على طُورِ سينا " إني أنا" ([43])
وقوله "ناداهم على طور سينا إني أنا": إشارة إلى قصة موسى حين تجلى ربه للجبل، وقال له: )إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى( . وفي هذا رمز لمحبة الله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول من مات حباً لله وشوقاً إليه، وتحمل مرارة العيش في سبيله، وغاب عن دنياه كما يغيب اللينوفر تحت الماء، سعد في حياته.
وفي إشارة البان نرى الأشجار تلومه لتمايله دونهم، وتعنفه على إعجابه بشمائله، ولكنه يرد عليه مبيناً لها أن طربه هذا يكون عند تسبيح خالقه، لنستمع إليه وهو يقول : "فإذا رأيْتُ الأرض قد اهتزتْ وربَتْ ... فأنظر إلى الزهر وقد اتقد ... وإلى الغصن اليابس وقد كُسِي بعد ما انجرد ... فأعلم أن صانعها واحد أحد، وموجدها بالقدرة قد انفرد،.. فهنالك تمايلَتْ قدودي طرباً بطيب عهودي ([44]) " ثم يتفق مع الورد على أن يُفنيا نفسيهما في طاعة خالقهما، لأن في فناء الجسد إحياء للروح، يقول:" فإذا فنينا على صور أشباحنا بقينا بمعاني أرواحنا، وقوله: "صور الأشباح" إشارة إلى الجسد الفاني في حب الله سبحانه، أما "معاني الأرواح" فرمـز للوصول إلى العبـادة الحقيقية لا صورتها الظاهرة .
ويتدرج الكاتب الصوفي في معانيه حتى يصل إلى خلوة الزاهد في إشارة الخزام ويصفه بأنه صاحب الذوق الذي يشمر بصدق لطاعة مولاه، يقول رامزاً إلى ذلك على لسان الخزام: "أسكن البراري والقفار، أحب الخلوات وأستوطن الفلوات ... تعبق بنشري الريح فتحملني إلى ذوي التقديس والتسبيح، لا ينشِقُني إلا من له ذوق صحيح([45]) وشوق صريح …. ولا ينظرني إلا من شمر عن ساق وركب جواد العزيمة وساق"([46]) .
ولم يكتف الكاتب بعرض الجوانب الإيجابية في حياة العابد، وإنما أورد له في إشاراته قضايا أخلاقية سلبية يجب التخلص منها، ففي إشارة الشقيق رمز للمنافق الذي اسود قلبه وحسن ظاهره، ولكنه على ما يبدو قد أحس بذنبه فقال: "فلما رأيت باطني محشواً بالذنوب، وقلبي مسوداً بالعيوب علمت أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور، ولكن ينظر إلى القلوب .... ولو صلح قلبي لصلح أمري ... وعلامات القبول لا تلوح إلا على من رضي عنه الحبيب"([47]) ، ثم يروح يبكي على ذنبه ويقول :
لا تلُمْني إذا شققْتُ ردائي
فمَلامي يُزيد في الحب دائي
أنا قلبي قد سوَّدَتْه ذنوبي
وقضى لي معذِّبي بشقائي
من رآني يظنُّ خيراً ولكنْ
خالقي عالِمٌ بأني مُرائي
قد تحسنْتُ منظراً ولباساً
ورزايا محشوةٌ بحشائي
واحيائي إذا سُئلت ومالي
من جوابٍ ، وا خجلتي واحيائي
لو كشفْتُ المستورَ عن سوءِ حالي
لرأيتَ السرورَ للأعداء ([48])
ثم تكلم عن السحاب، وقد ارتبط حديثه بحديث الشقيق بقوله: " فلما حسن العتاب وطاب فصل الخطاب، دمع السحاب، فانبسط وساح في فسيح رحاب، وقال: سبحان الله أينكر فضلي عليكم، وأنا الباعث ظلي ووبلي إليكم ؟…. "([49]) ثم يبين أنه يجود عليهم بمائه، وقد جُعل من الماء كل شيء حي.
ثم جاء دور الحيوانات لتتكلم إشاراتها، ولتفصح عن رأي المقدسي وذلك بقوله: "فبينما أنا مصغ لمنادمة أزهارها على حافات أنهارها، إذ صاحت أطيارها من أوكارها، وكان أول ما صوت الهزار وقد تحدث عن معاناته، فهو يعلم أن كل من على الأرض فان، ولذلك فهو ينوح على حال يحول وعيش يزول([50]) .
فرد عليه الباز، متابعاً به الحديث عن أخلاق المسلم الزاهد، مبينا أن تغريد الباز لا يفضي إلى خير لأن في الصمت السلامة، ولا فائدة من الشكوى، وأنه لما أصلح ما بينه وبين خالقه خدمته الملوك، وعثرات اللسان تهلك، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان ([51])، وقد كثر الفساد، ولذلك فهو يحتاج إلى ترك الدنيا وترك البطر، يقول في ذلك : "فلما رأى مؤدبي تخليط الوقت خاف علي من المقت، فكمّ بصري بكُمَّةِ )لا تمُدَّنَّ عينيك( ([52]) وعقَد لساني بعقدة )لا تحرك لسانك( ([53])، وقيدني بقيد )ولاتمشِ في الأرض مرحاً( ([54]) …. فلما كُمِّمْتُ، وأُدِّبْتُ، وجَرَّبْتُ، وهُذِّبْتُ استصلحني مؤدبي… حتى أصلحت ما بينه وبيني، فوجدت الملوك خدامي وأكفهم تحت أقدامي"([55]).
فهو يرى أن هذه الأخلاق أهلته لأن يسود حتى فاق الملوك في منزلته فتذللوا له.
ويتابع المقدسي في إشاراته أو رموزه نعته للصوفي العابد فيرمز في إشارة الحمام إلى الإخلاص في العمل لله سبحانه وإلى ضرورة حمل الأمانة بصدق وذلك حيث سئلت الحمامة المطوقة عن سبب تطويقها بطوق، فذكرت أنها المطوقة بطوق الأمانة، ولهذا فإنها تحمل الرسائل، وذكرت أنها سوف تخبر بقصتها الكاملة لأن الدين النصيحة، وأخبرت أنه ليس كل طائر أميناً، ولا كل حالف صادقاً، ولا كل سالك من أصحاب اليمين، " إنما المخصوص بحمل الأمانة جنسي وما أبرئ نفسي…" ([56])
ثم بين على لسان الحمام أن خير الحمائم لحمل هذه الأمانة الأبلق والأخضر، أما الأسود والأبيض ففيهما عيوب ذكرها تسبب قصر الهمة عن بلوغ الآمال، ثم ذكر شعراً:
أ أحبائي وصلتم أو هجرتم
فعَبْدُكم على حفظ الأمانة
مقيمٌ لا يزحزحه عَذول
ولا يُثني معنِّفُه عِنانَه
حملت لأجلكم ما ليس تقوى
جبالُ الشمّ تحملُه رزانة
وحفظ العهد ما وافاهُ حُرٌّ
وطوَّقَهُ فتًى إلا وزانه
فدعه وحُبَّ من يهوى وإلا
فشانُك يا معنِّفَه وشانه([57])
وفي إشارة الخطّاف يبين أنه يعاشر الناس ليكتسب من خلالهم لا من أرزاقهم، "لأنه راغب في حُبّهم لا في حَبّهم، مقتدياً في ذلك بإشارة الرسول r: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما بين أيدي الناس يحبك الناس" ([58]) .
كما أنه يرمز بإشارة البوم إلى من علم أن الدنيا فانية، ولذلك فهو يزهد فيها، ويرضى باليسير، يقول على لسانه: "من علم أن العمر وإن طال قصير، وأن كلاً إلى الفناء يصير، بات على خشن الحصير، وأفطر على قرص الشعير، ورضي من الدنيا باليسير" ([59]) .
وفي إشارة الطاووس يرمز إلى المتكبر الذي يغتر بزينة الحياة الدنيا، ويهتم بالزينة الخلابة، وينسى المعاني الإيمانية يقول الراوي للطاووس: "ويحك كم بينك وبين البوم في الحظ المقسوم، أنت أيها العاني نظرت في الصور، وهو نظر في المعاني، واغتررت بالأماني، وفرحت بالفاني"، وذكر أنه كان مع إبليس في الجنة، وكان شرابه التسبيح، وطعامه التقديس، حتى جاءه إبليس فعوضه الخسيس عن النفيس، وأخرج مع إبليس، يقول في ذلك: "ولقد كان إبليس يرفل في حلل قربه فما تركه شؤم رأيه حتى تاه على آدم بعجبه، وكانت لي معه في تلك القضية قصة غير مرضية، فأوقعني في الخطية، وما أطلعني على ما له من خبث الطوية، غير أني كنت له دلاّلَهُ، وكانت الحية في دخوله الجنة محتالة، فأُخرِجت معها من ديار العز إلى ديار الإذلال ،....ثم أُبْقِيَتْ علي زينة ريشي لأتذكر بها ما كان من صفو عيشي، فيزيدني ذلك تحرقاً وتشوقاً، وإلى الجنة تلهفاً وتتوّقاً " ([60]) .
فهنا نرى المقدسي يتحدث في موعظته الرمزية عن إبليس والطاووس والحية المحتالة، وهو حديث أوردته كتب التفاسير نقلاً عن الإسرائيليات، إذ ذكرت أن إبليس كان قد تفوق على الملائكة بعبادته، فصار طاووساً بينها ، فلما عصى ربه وفسق منـع من دخول الجنة على جهة التكرمة لا على جهة الوسوسة لأنه دخلها ثانية، لابتلاء آدم وحواء ([61]) .
وقيل إنه دخل في فم الحية فدخلت به ([62]) ، ويقول النصارى: إنه دخل في فم الحية وتوسل بها إلى إغواء حواء ، وورد في الإسرائيليات أن الحية كانت أحيل حيوان البرية، إذ قالت لحواء أنها هي وزوجها لا يموتان إذا أكلا من الشجرة، بل يصيران كآلهة يعرفان الخير والشر، فلعن الله الحية وجعلها تمشي على بطنها بعد أن كانت تمشي على أربع، ونحن لا نعتد بما يخالف القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، وقد قال r عن أهل الكتاب: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم" لأنهم حرفوا رواياتهم ([63]).
ولكن المقدسي كما رأينا تأثر بأقوالهم، بل زاد فشطح في بعض آرائه على عادة بعض المتصوفة، ففي إشارة الخفاش تحدث بلسان هذا الطائر عن قيام العابد في الليل، ومناجاته لربه، لكنه بعد ذلك ذكر أنه رفع الحجاب بينه وبينه فرآه، يقول في ذلك: "فإذا جنّ ليلي جردت ذيلي وجعلت الليل معاشي، وفيه انتعاشي لأن فيه يفتح الباب ويرفع الحجاب، ويخلو المحب بالأحباب، وتغفل عين الرقباء ....فإذا انقضت خلوة الليل غمضت عيني بالنهار لئلا أنظر إلى الأغيار، ويحق لمن سهر الليل أن ينام النهار وقبيح على عين تمتعت برؤياه أن تنظر إلى سواه" ([64]) .
فالعبارة الأخيرة يصرح فيها برؤيا المولى تعالى، وهو أمر لا يجوز لنا أن نتفوه به، فبنو إسرائيل قالوا: )أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم( [النساء/153].
ويكرر هذا المعنى في"إشارة البط " ويرمز بها إلى ما يسمى بكرامات المتصوفة، كالمشي على الماء، والطيران في الهواء، وإلى ما يسمى بالجذب، وتعني أن الله جذبه إليه بعدما طهر نفسه، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل صرح برؤيا الذات الإلهية ليؤكد الفكرة بتكرارها، يقول على لسان البط "ألم ترني كيف ملكت هواي فملكت عالمي الماء والهواء... فالسعيد من ركب قارب قُرُباته ..ثم قطع كثائف ظلماته فوصل إلى مجمع بحرُيْ ذاته وصفاته، فهناك يقع على عين حياته، فيرد من عذبه وفراته" ([65]) .
لقد استخدم الكاتب في عباراته الأخيرة الرمز للدلالة على معان إيمانية لم يكن يستطيع التصريح بها لولاه، فعالم ما وراء الطبيعة عالم خاص، ولكن الأديب برمزه تحدث عما يعتلج في ذهنه مما لا يستطيع المرء إدراكه مادياً، ولذلك نراه يصرح في "إشارة النحل" بأن الرمز مكنه من الوصول إلى هذه المعاني، يقول: "فإن كنت للرموز تعاني فقد رمزت لك فيّ معاني، أنك لا تصل إلى وصالي حتى تصبر على حر نصالي" ([66])
وفي"إشارتي الشمع والفراش" يرمز بالنار إلى نور الإيمان تارة، و إلى الذات الإلهية أخرى، ويشير بالفراش إلى من يحب هذه الذات، وإن ظُنَّ للوهلة الأولى أنه يحاول إطفاء نور الإيمان، لأنه حينئذ ينال عقابه، كما يرمز بالشمع إلى العابد الذي يتحمل الضنك والمشقة في سبيل محبوبه. ولولا الرمز لقلنا إن في الحديث مجوسية ممقوتة، فالنار تحب عابدها وتذيبه شوقاً إليها، وتطلب قربه، وتعده على لسان الشمع. يقول هذا: "وإنما العجب من حبيب يُحرق، هذه النار تحبني، وهي بأنفاسها تحرقني وتذيبني وتطلب قربي، وهي تذيب قلبي، تدّعي هواي، وتستدعي لقاي ، فإذا نزلت بفنِاي فلا بقاء لها بفَناي، وهذا لعمري من أعجب الأشياء: أن حبيباً يفنى ومحباً يبقى، وعاشقاً يسعد ومعشوقاً يشقى، فنادت النار: أيها المعذَّب بإحراقي، الداهش في أنوار إشراقي، إن كان دخان احتراقي إلي راقي، فها أنا نازل في السجن إليك راقي([67])، فتشكو ما تلاقي، وتفوز بساعة التلاقي، فيا فوز من شرب وأنا الساقي، ويا سعادة من فني فيّ وأنا الباقي" ([68]) .
وفي إشارة الهدهد([69]) يتعمق الكاتب في الفكر الصوفي أكثر، ويخالف النص القرآني في طريقة عرضه، وفي غايته التي توصل إليها، فهو يدعي على لسان الراوي أنه "لو انشرحت الصدور لظهر ذلك النور، ولو ارتفعت الستور لانكشف المستور، ولو طهّرت القلوب لظهرت سرائر الغيوب، وشوهد المحبوب (الله سبحانه)، ولو أعرضْتَ عن الأسباب لفتح لك الباب، ولو خلعت ثياب الإعجاب لرفع لك الحجاب، ولو غبت عن عالم العَيْب لشاهدت عالم الغيب، ولو قطعت العلائق لانكشفت لك الحقائق، ولو تجردت عن الإرادة لوصلت إلى رتبة السيادة، ولكنك مسجون في سجن طبعك، متعلق بحبال خيال حسك"([70])
فهو هنا يرمز إلى أمور توصله إلى رؤيا الله سبحانه وتعالى، منها ترك الأسباب والتوكل على الله سبحانه، وترك التكبر والانعتاق عن الدنيا عالم العيب، ليرى الله سبحانه وسائر العالم الغيبي، ويضرب الراوي مثلاً لأثر هذه التصفية والتنقية من حياة الهدهد مع النبي سليمان عليه السلام، إذ آتاه الله سبحانه_بزعمه_ما لم يؤت سليمان النبي لأن سريرته صفت لله سبحانه،ويقول:"ألا ترى إلى الهدهد حين حسنت سيرته وصفت سريرته كيف نفذت بصيرته فتراه يشاهد بالنظر ما تحجبه الأرض عن سائر البشر فيرى في بطنها الماء الثجاج … ويقول أنا الذي أوتيت مع صغر الجثمان ما لم يؤته سليمان ".ذلك أن الهدهد كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده، وأن النبي سليمان عليه السلام كان إذا خرج أخذ الهدهد معه ليدله على الماء تحت الثرى، فإذا قال هَهنا شَقَّت الشياطين، وفُجِّرت العيون ([71])، فلما غاب الهدهد واحتاج سليمان عليه السلام إلى الماء، ولم يجده توعده بالتعذيب أوبا لذبح، إلا إن قدّم سبباً مقنعاً لغيابه . ويذكر المقدسي على لسان الهدهد أنه عاد من مملكة سبأ، وقال للنبي: ) أحطت بما لم تحط به( فزاد ذلك في غضب سليمان، وقال: يا صغير الجرم، يا كبير الجُرْم، ما كفى غيبتك عني حتى تدعي أنك أعلم مني، فطلب الهدهد الأمان منه، ثم قال له:"أنت سألت ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، وما سألت علماً لا يعلمه أحد من بعدك، قد جئتك من سبأ بنبأ عظيم ، وفوق كل ذي علم عليم، فقال أيها الهدهد، من صح له السلوك أؤتمن على أسرار الملوك".([72])
ولو قارنا بين هذا النص وما ورد في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لرأينا خلافاً بيّناً في السرد والغاية معاً.
فالنص القرآني يقول: )وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنّه عذاباً شديداً، أو لأذبحنَّه، أو ليأتيني بسلطان مبين. فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم … ، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا….( [النمل /20-23 و 27-28] .
فالله سبحانه يشير إلى سطوة النبي سليمان عليه السلام في دولة قوية منظمة، جنودها من المخلوقات كلها، ورئيسها يتفقد أحوالها ورعيتها، حتى الطيور فيها، وهذا مثل أعلى في يقظة الحاكم المسؤول عن رعيته، يقدمه الله سبحانه ليكون أسوة حسنة، وهو يعاقب من يتخلف عن مهمته، وقد يصل العقاب إلى الإعدام إن لم يدلِ المذنب ببينة واضحة، إذ إن لكل جندي في الدولة صغير أو كبير دوره ومهمته، فإن غاب اختل النظام، ولهذا يحاسبه المسؤول عنه.
وسليمان عليه السلام ملك عظيم وعليم قال عنه تعالى: )ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين( [ النمل /15 ]، وكانت ثمرة علمه تسخير قوانين الطبيعة لمنفعة الدولة والدعوة إلى الله سبحانه، وهذه المنفعة لا ظلم فيها ولا طغيان، إنما هي لتنفيذ أوامر الله وشرعه في الأرض، ولذلك فإن النبي سليمان يضع قضية الهدهد موضع التحقيق والاختبار، ويقول له بكل قوة واستعلاء: )سننظر أصدقت أم كنت من الغائبين، اذهب بكتابي هذا فألقه عليهم ...( ذلك لأن المدعى عليه، الهدهد قد يفتري، وعقوبة الكذب على السلطة ليست باليسيرة، فكيف يمكن لهذا الجندي الصغير أن يتطاول على نبي واسع السلطة ويقول: "هو أعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأنا أوتيت علماً لا يعلمه هو ولا أحد من جنده، كنت … أدله على الماء من تحت الثرى، فغبت عنه ساعة، فعدم الاستطاعة، … والعجب أنه افتقدني في حال اقتداره علي" . أو يقول له : ""أنت سألت ربك ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، وما سألته علماً لا يعلمه أحداً من بعدك، قد جئتك من سبأ بنبأ عظيم، وفوق كل ذي علم عليم" لأن في هذا تطاولاً على نبي عظيم عليم، والنص القرآني يشير إلى عظمة النبي سليمان وسيادته بقوله جواباً له: )ارجع إليهم فلنأتينَّهم بجنود لا قِبَلَ لهم بها، ولنخرجنَّهم منها أذلةً وهم صاغرون( .
والمقدسي أيضاً يجعل النبي سليمان يعترف للهدهد بأفضليته عليه ليحقق فكرة المتصوفة في ادعائهم أنه ولياً قد يكون خيراً من نبي، إذ يقول للهدهد في نهاية أمرهما: "أيها الهدهد من صح له السلوك أؤتمن على أسرار الملوك ". وهذه الإضافة هي الغاية التي أراد المقدسي أن يتوصل إليها، وهي غير موجودة في القرآن الكريم . ولو دققنا في الآيات الكريمة لرأينا الآيات تشير إلى قوة الدولة ونظامها، وحسن تصرف رئيسها، وإشرافه على رعيته، والى غايته من السلطة التي يمسك بزمامها، أما غاية المؤلف فكانت لإثبات أن الهدهد "رمز الولي" خير من سليمان "النبي" ولهذا فقد ائتمنه الله على أسرار الملوك الذين هم في القصة رمز للذات الإلهية، ولم يأتمن عليها النبي سليمان عليه السلام!! …
وقد أخذ المتصوفة هذا الرأي بزعمهم من قصة النبي موسى عليه السلام مع فتاه الذي قيل أنه الخضر عليه السلام ، "والله سبحانه يقول عنه )فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علماً( [ الكهف/ 65 ] فهو إذاً قد آتاه الله علماً فلم يتصرف من تلقاء نفسه، ويصرح بهذا أيضاً في قوله: )وما فعلته عن أمري(، ويقول لموسى )وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً(، ويفسر ذلك البغوي: "يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علَّمَكَهُ الله لا أعلمه، فقال له موسى )ستجدني إن شاء الله صابراً ( ([73]) .
ولهذا قال بعض المفسرين: إن الخضر عليه السلام كان نبياً، يقول البيضاوي: "والجمهور على أنه الخضر عليه السلام، واسمه بليا بن ملكان، وقيل اليسع، وقيل إلياس. آتيناه رحمة من عندنا: هي الوحي والنبوة، ثم قال عن موسى عليه السلام: ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره([74])، أي بأمر الله سبحانه.
ويقول سيد قطب: "ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب، القريب النتائج، إنما هو جانب من العلم اللدني، أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده للحكمة التي أرادها، ومن ثمّ فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ... لأن هذه التصرفات قد تصطدم بالمنطق العقلي وبالأحكام الشرعية الظاهرة ([75]) .
إذاً ، قد يكون الخضر عليه السلام نبياً، وتحديد اسمه باليسع أو بإلياس ولو على سبيل الظن يقوي الفكرة، وهو على أي حال إنسان التزم بما علمه الله سبحانه، وقد أورد خبره في قرآنه، وقد انقطع الوحي ولا يقبل ما يدعيه المتصوفة مما يخالف شرع الله، أو مما لم ينزل به سلطان مهما ادعوا أن نفوسهم الصافية أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه بالمجاهدة والزهد .
وتبدو قضية المجاهدة ولاسيما بالعزلة والجوع في إشارات متعددة كإشارة الفرس، والفهد، ودودة القز، ففي حديث الفهد يرمز إلى ذلك بقوله على لسانه: " وأختفي في خلوتي لإصلاح نفسي… وأذيب قلبي بالجوع الذي هو مخ العبادة فإذا علت الهمة، وصحت الحمية، وصفا جسدي من العفونة، ونفسي من الرعونة خرجت من عشي، فحيث شئت نصبت عرشي، وإن كنتَ من رجالي فجُلْ في مجالي، واعتصم بحبالي، واطمس رسمك البالي، ولا تبالي"([76]) .
وهذه المجاهدة يكررها المتصوفة كثيراً، فابن الفارض يذكر أنه دأب على الصيام والتهجد والأذكار والاعتكاف والعزلة، ودقق في الحلال والحرام تورعاً، ولم يتناول من الطعام إلا ما يساعده على العبادة، فانكشفت له الحجب، ولم يكن هذا الأمر بالهين اليسير فقد عجز عنه الكثيرون، يقول في ذلك :
وصمْتُ نهاري رغبةً في مثوبةٍ
وأحيَيْت ليلي رهبةً من عقوبة
وعمَّرْت أوقاتي بورد لواردٍ
وصمْتُ لسَمْتٍ واعتكافٍ لحرمة
وبِنْتُ عن الأوطان هجرانَ قاطع
مواصلةَ الإخوانِ واخترت عزلتي
ودققت فكري في الحلال تورعاً
وراعيْتُ في إصلاح قُوْتِيَ قوّتي
وأنفقت من يسر القناعةِ راضياً
من العيش في الدنيا بأيسر بُلْغَة
وهذبت نفسي بالرياضة ذاهباً
إلى كشف ما حُجْبُ العوائد غطت
وجردت في التجريد عزمي تزهداً
وآثرت في نسكي استجابة دعوتي
ودونَك بحراً خضتُهُ وقَفَ الأُلى
بساحله صَوْناً لموضع حرمتي ([77])
ويقول ابن طفيل الأندلسي في قصته "حي بن يقظان" إن الله سبحانه يتم الاتصال به عن طريق رياضة جسدية ونفسية، وذلك بألا يزيد المرء عن حاجة جسده، وأن يتشبه بالأجرام السماوية عند دورانها حتى يرى إطلاع نور الحق في هيئة بروق تومض ثم تخمد، فإذا استمر في رياضته غشيه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء، وحينئذ تدر عليه الذات العلية، ويكون له في هذه الرتبة نظر إلى الحق، ونظر إلى نفسه، فإن غاب عن نفسه لحظ جناب القدس، وهذا هو الذوق"([78]).
وكما يرمز الصوفي بالرسم إلى كل ما يشغله من أمور الدنيا من هم أو علم، يقول البهاء العاملي ([79]) في ذلك :
هاتِها صهباءَ من خمرِ الجنان
دعْ كؤوساً واسقِنيها بالدِّنانْ
قم أزِلْ عني بها رَسْم الهموم
إن عُمري ضاعَ في علم الرسوم ([80])
ولهذا ندد ابن الجوزي بتصرفات هؤلاء المتصوفة، وبين أن إبليس لبّس عليهم حينما دعاهم إلى الجوع والاعتزال، ووسوس لهم بأنهم من الزهاد والعباد، ولم تكن هذه سيرة المصطفى r، إذ كان لا يجوّع نفسه، فإن أحسّ بذلك سعى إلى سد رمقه، ولم يكن يعتزل الناس في البراري والقفار لأن في ذلك ترك للأمر بالمعروف، والجُمعَ والجماعات، وهذا في حد ذاته نقص في الدين([81]) .
ويؤكد المقدسي فكرة ضرورة المجاهدة في إشارة العنكبوت([82]) ، ثم يمهد لفكرة سترد في إشارة العنقاء، وهي أن الصالح من نفع غيره، ولو على حساب نفسه، وذلك في إشارتي دودة القز والنملة، ثم يتحدث عن العنقاء وهي آخر رموزه أو إشاراته، والعنقاء عنده للخالق جل سبحانه، وقد صرّح بأن حديثه هنا حديث رمزي يشير إلى معنى قصده يقول: "لكم البشارة يا أهل الإشارة إن فهمتم رمز هذه العبارة، فأنصتوا لضرب هذه الأمثال المستعارة، والمعاني لمن أعنيت، ولكن لك الحديث فاسمعي يا جارة".
وفي هذه الإشارة يحكي لنا قصة طيور أرادوا أن يكون لهم ملك يُعرفون به، فانطلقوا لتحقيق مأربهم حتى وصلوا إلى ملك في جزيرة في بحر يقال له عنقا مغرب([83])، قد نفذ حكمه في المشرق والمغرب، وكان الوصول إليه عسيراً، فالطريق وعرة وفيها جبال ووهاد، وكان الملك غنيا عنهم، ولكنهم أصروا على ذلك لأن الله تعالى قال )ففروا إلى الله( وهنا أوضح أن الملك المرموز إليه هو الله سبحانه الذي يصعب الوصول إليه.
ثم يتابع حديثه عن هذه الطيور المهاجرة، وتفكرها في خلق السموات والأرض، وصبرها على حر الهواجر، ورمز بذلك، كما صرح، بإشارة )ومن يخرج من بيته مهاجراً( أي "إلى الله ورسوله" وما وصلوا إلى جزيرة الملك إلا بعد جهد جهيد، وبعد ما ذبل جسدهم، وسقط ريشهم، ولكنهم وجدوا عنده ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين [إشارة إلى الجنة] فمن كانت رغبته في الملبوس والنفائس لبس من سندس وإستبرق، ومن أراد الحور العين أعطي منها، وأما أهل الحقيقة فقالوا سبحان الله، إذا كان اشتغالنا بمأكول ومشروب فمتى يتفرغ المحب للمحبوب؟ ومتى ينال الطالب شرف المطلوب؟ فالدون كل الدون من رضي لنفسه بصفقة المغبون. نحن لا نريد إلا الملك الذي خرجنا من أجله"([84]) ، وسألهم الملك عن سبب مجيئهم فقالوا "أتيناك بذلة العبيد وإنك لتعلم ما نريد، فقال ارجعوا من حيث أتيتم. فقالوا سيدي أنت الغني ونحن الفقراء، وأنت العزيز ونحن الأذلة فبأي قوة نرجع ؟ وقد ذهبت قوتنا ونحل جسدنا، فقال وعزتي وجلالي إذا صح افتقاركم، وثبت انكساركم فعلي انجباركم، انطلقوا فداووا العليل في ظلي الظليل وقِيلوا في خير مقيل، فمن غلبت عليه برودة الرجاء، فليشرب من كأس كان مزاجها زنجبيلا، ومن استولت عليه حرارة الشوق فليتناول من كأس كان مزاجها كافورا، وقولوا للعاشق الذي سلك سبيلا، اشرب من عين تسمى سلسبيلاً، فإذا صحت الحمية، وتمت الفنْية فقدموا العليل إلى طبيبه وقربوا المحب إلى حبيبه، فلقاهم نضرة وسرورا، وسقاهم ربهم شراباً طهوراً، … فسقطوا ليلتقطوا حب المحبة نقياً من الكدر )في مقعد صدق عند مليك مقتدر( وشاهدوا "ما لاعين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم أنشد:
فعش هنيئاً بوصلٍ غير منفصلٍ
مَعْ مَنْ تحبُّ، وحُجْبُ الهَجْرِ قد رُفِعَتْ
وانظرْ جمالَ الذي مِنْ أجلِ رؤيتِه
قلوبُ عُشّاقِه في حُبِّه انصدعَتْ ([85])
العنقاء في هذه القصة رمز للذات الإلهية التي يصل إليها المتصوف بسلوكياته وأخلاقه ومجاهداته التي سردت على سبيل الرمز أيضاً، وأشير إليها بقطع الوديان والبحار، وشدة التعب والمشقة التي كان عليها الطيور، أو المتصوفة المهاجرة إلى الله، ولكن هؤلاء يسعدون بجوار العنقاء وترفع الحجب بينهما، وهذه أسمى غاية يحققها المريد .
ولعل المقدسي تأثر في إشارة العنقاء بالسهروردي الذي صور في قصته حي بن يقظان الله سبحانه شيخاً كبيراً والعياذ بالله، وسماه "أبانا" كما يصور النصارى رئيسهم، وجعل مكانه فوق جبل الطور، كما جعل المقدسي مكانه في الجزيرة، وذكر السهروردي أن السموات والأرض تكادان تنشقان من تجلي نوره، وأنه مشى إليه وسلم عليه وسجد له وبكى، فطلب منه أن يعود إلى سجنه "الأرض" فبكى السهروردي حتى أشرف على الهلاك ([86])، وذكر السهروردي أن الروح تحن دائماً إلى الذات الإلهية، وتتمنى الوصال إليها، وتبكي شوقاً حتى تجد راحتها عندها، يقول في ذلك:
أبداً تحنُّ إليكمُ الأرواحُ
ووصالكُم رَيْحانُها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
حضَروا وقد غابَتْ شواهدُ ذاتِهم
فتَهَتَّكُوا لما رأَوْه وصاحوا
أفناهُم عنهم وقد كُشِفَتْ لهم
حُجُبُ البقا فتلاشَتِ الأرواح ([87])
والمقدسي يصور الطيور قد وصلت إلى جزيرة العنقاء بعد جهد جهيد وسعدت بمرآها، ثم طلب منها أن تعود إلى السجن الأرضي لا لتعذب، وإنما لتنفع غيرها وتدعو إلى المبادئ التي أوصلتها إلى هذه السعادة.
2ً- بناء القصة :
تنطلق رموز القصة من جو روحي صوفي مشحون بعاطفة الأديب الذي كان يتألم من بعد الناس عن حقيقة الدين ، ولهذا راح يسعى لإنقاذ الإنسان من الفساد بما يقدمه له من نظرات وأخلاق سامية يغسل بها أوضاره ، وقد رأى أن حب الذات الإلهية والوصول إليها –برأيه- منقذا وحيدا لهم ، فجعل من الرحلة إليها رمزا ينقله إلى الجو الجديد حيث الطمأنينة والسلام والنعم العظام، وقد فتحت له هذه الرحلة المجال ليتمتع بجو من القداسة وهذا أسمى ما يتمناه المتصوف .
ومن هنا فإننا نرى في هذه القصة الرمزية الوعظية تأملات عقائدية فهي تنظر إلى الإنسان والكون والحياة من خلال رؤيا مؤلفها المقدسي، وفلسفته الصوفية الممتزجة بالثقافة الإسلامية ، وقد عمد مؤلفها إلى الرمز ليستر مخالفاته الشرعية، ولعله أراد منه تقريب الفكرة إلى الأذهان حيم مثل له بأمر مادي ملموس .
وليست هذه القصة الوعظية الرمزية جديدة في أدبنا العربي، فهناك قصص سبقتها في العصر العباسي، مثل كليلة ودمنة ومنامات الوهراني، حتى المقامات اتخذ بعضها أسلوب الرمز على لسان النباتات والجماد على نحو ما رأينا ([88])
وقد استهلها المؤلف على غرار الرسائل الأدبية بالحمد لله سبحانه الذي وهب الإنسان عقله ليميز به الخير من الشر، ثم راح يستنطق لسان حال المخلوقات، ويهديه تأمله في أوضاعها إلى فِكَر فلسفية وصوفية أبدى من خلالها ثقافته وثقافة عصره، وذلك من خلال الإشارات التي تعَرض كل واحدة منها على لسان مخلوق فكرة ما وتنتهي بالشعر غالباً، وقد يرد الشعر خلال الإشارة لا في آخرها فحسب. وكأن هذه الإشارات قصص متعددة ارتبطت مع بعضها بعضاً بخيط خيالي بسيط عن طريق الراوي غالباً وكانت حوادثها تأتي من خلال المحاورات والمنافرات، إلى أن كانت هجرة الطيور إلى جزيرة العنقاء بعد تحمل عناء شديد، والإطلاع فيها على مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم العودة منها إلى الأرض ثانية للدعوة إلى المبادئ التي آمنت بها. وقد تحققت الوحدة العضوية بين حوادث القصة وجزئياتها عن طريق هذا الخيط الخيالي الذي ربط كل إشارة بما قبلها وما بعدها.
وشخصيات هذه القصة كانت من : النباتات، فهناك ثلاث عشرة شخصية من الزهور، ومن الحيوانات المختلفة، إذ ذكرت خمس حشرات وعشرة طيور واثنتين من الدواجن، وثلاث حيوانات أليفة، وواحداً من المفترسة وهو الفهد، إضافة إلى السحاب والشمع من الجماد والعنقاء الوهمية، فهي إذاً مستمدة من عالمي السماء والأرض ، والحقيقة والوهم.
وكانت بعض الشخصيات تفصح عما في نفسها مباشرة أو لنقل بطريقة تمثيلية كنبات الأقحوان، وبعضها يرد الحديث عنها بالطريقة التحليلية من خلال حكاية الراوي عنها كإشارة الدرة.
وطالت أدوار بعض الإشارات حتى جاوزت عدة صفحات كما في إشارة الهدهد، وقصر بعضها حتى لم يتعد أسطراً من صفحة كإشارة السحاب، ولكن معظمها جاء في حدود الصفحة، وكان لكل شخصية دور مستقل في إشارة لا تتخطاها إلى غيرها إلا لمماً ، وكل شخصية تبين عن سلوكها حينما تظهر على مسرح الحياة لتعبر عن فكرة عقائدية أو فلسفية أو اجتماعية...
واستمد الكاتب تصرفات وأقوال شخصياته، أو لنقل حوادثها من مصادر عديدة أهمها:
1- القرآن الكريم: كما في حديثه عن نوح عليه السلام ، وإبراهيم والنمرود، وداود، وعن النحل، وسليمان والهدهد وآدم وإبليس، وعن الجنة التي مثلها بجزيرة عنقاء الغرب .
2- واقتبس بعض فكره من ي الإسرائيليات كحديث إبليس والطاووس، وسليمان في بحثه عن الماء، وقد خالف بعضها الفكر الإسلامي كما أوضحت في مجاله.
3- الحديث القدسي والحديث الشريف: كما في قوله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي المتقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ومن الحديث الشريف الدعوة إلى رحمة عزيز قوم ذل، إذ أخذ المعنى من قول الرسول r:" ارحموا عزيز قوم ذل، وغنياً افتقر" ، وعن علاقة الزهد بحب الناس للمرء: "ا زهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس"، والنظرة إلى الخدمة: "سيد القوم خادمهم" .
4- من الفكر الصوفي: كما في حديثه عن الخمرة الصوفية، والرمز إلى الذات الإلهية بليلى، والعنقاء، وإصلاح النفس بالخلوة، وفكرة تطهير النفس بالجوع، وفكرة من ثبت يقينه وتمكن طار في الهواء ومشى على الماء. لو صفت الضمائر لنفذت البصائر، ولو انشرحت الصدور لظهر لك النور، ولو ارتفعت الستور لانكشف المستور، وتأثر بقصة حي بن يقظان لابن سينا، والسهروردي، وابن طفيل الأندلسي، وبأدب الرحلات كحديثه عن الطائر الوهمي العنقاء إذ ورد في رحلات سندباد.
5- من عالم التاريخ والسير: كقصة العنكبوت في غار ثور الذي حمى الرسول r .
6- من البيئة الطبيعية: كحديثه عن دودة القز، وأفضل أنواع الحمام لنقل الرسائل، والخفاش الذي يعشو بصره ليلاً، ومن أراد حلاوة العسل ذاق صعوبة جنيه …
7- من البيئة الاجتماعية: كالحديث عن خجل المقصر، والصديق من نصح وحذر، وضرورة حفظ المودة، وذم الكبرياء، ومصاحبة الآخرين طمعاً في اكتساب أخلاقهم لا أرزاقهم، والعمل خير من الكسل، وعلى المرء أن يقسم واجباته على ساعات اليوم، وأن يقوم على عياله وأطفاله، وأن يخلص في عمله لله سبحانه.
8- من عالم الوهم: كالحديث عن العنقاء (رمز الله سبحانه)، والعنقاء مخلوق وهمي لا يتخيله العقل لكبره، وهذا الرمز غير مشروع إذ كيف يمثل الله سبحانه بهذا، "تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً".
3ً- أسلوب القصة :
لم يختلف أسلوب القصة في تشكيله اللغوي عن أساليب النثر في ذلك العصر، إذ اعتمد على السجع، وعلى التنميق والتحبير حتى غدت القصة نصاً أدبياً يلذ القارئ بجرسه الموسيقي .
وقد كثر التوازن والجناس في القصة أيضاً كثرة ملحوظة، فمن التوازن قوله "بسطت لي الأرض مطارفها، وأظهرت لي الرياض زخارفها"، وهو تصوير جميل للطبيعة التي أنبت الله أزاهيرها اعتمد على السجع في (مطارفها وزخارفها) والجناس بين (الأرض والرياض)، فضلاً عن توازن كفتي الجملتين.
ومن ذلك أيضاً قوله عن شجرة البان "فتمايل هنالك البان، وقال قد ظهر عذري وبان، فمن ذا يلومني على تمايل أغصاني، واهتزاز أركاني" فهنا نرى الجناس مع السجع بين البان "الشجرة" وبان بمعنى "ظهر"، والسجع بين أغصاني وأركاني، وهو تجميل للعبارات طريف.
ومن الاقتباس من القرآن الكريم قوله "فغبت عنه ساعة، فعدم الاستطاعة، فعرض أتباعه وأشياعه، وقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً، أو لأذبحنه، أو لَيأتينّي بسلطان مبين" فقد قبس الآيات من قوله: )وقال مالي…..مبين(، وكان في (ساعة واستطاعة) جناس أيضاً، فضلاً عن السجع بين (الاستطاعة، وأشياعه).
وهناك تضمين لأقوال شعراء كان يأتي في ختام كل إشارة أو أثناءها أحياناً، وبعض الشعر كان للمؤلف نفسه.
وكثرت الألفاظ الرمزية، ولعل المتصوفة كانوا الرواد إلى هذا الأسلوب اللغوي الجديد، وقد دعاهم إليه عدم تمكنهم من الإفصاح عن أمور تتعلق بالعبادة، ولهذا رمزوا للذات الإلهية بليلى، ووصفها المقدسي بأنها سفرت ولم تتبرقع، وتحدث عن العنقاء رمز الذات المقدسة أيضاً ورمز للعابد الذي يسعى للوصول إليه - وقد تم له هذا- بالطائر، ولمن تفوق على الأنبياء بإخلاصه بالهدهد، ونعوذ بالله من هذا القول، ولنشوة العبادة بالخمرة الصوفية، وإلى الإحساس بلذة قيام الليل بهبوب النسيم سحَراً….
وهذه الرموز الدينية والتاريخية والاجتماعية جاء بها المقدسي لتوضيح فكرته ، وكان ينأى عن الفكر الإسلامي الصحيح ، ويشطح في بعض أفكاره ، ولهذا تخلى عن اللغة الواضحة البينة، وأخذ بالرمز الذي يقبل تفسيرات شتى يتخلص بها صاحبها مما قد يوجه إليه من نقد .
ولكن يبقى الخلاف بين الرمزيين القدامى والمعاصرين وهو أن القدامى لم يسيئوا إلى معاني مفردات اللغة، فالتعريف اللغوي للكلمة بقي على حاله فالعنقاء هي العنقاء، وإن استخدم اللفظ على سبيل الرمز أو الكناية للدلالة على معان أخر وللترجمة عن مشاعر خفية )([89])
وقد ساند الرمزَ جرسُ الألفاظ، وإيقاع موزون، وتراكيب محكمة، وتصوير بديع فهو مثلاً يقول على لسان الشقيق رمز المنافق "فلما رأيت باطني محشواً بالذنوب وقلبي مسوداً بالعيوب علمت أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور، ولكن ينظر إلى القلوب".
فهنا نرى التصوير الجميل، فالقلب محشو بالذنوب، مسود بالعيوب، (استعارتان) كما نرى السجع الذي أكسب القول إيقاعاً عذباً، وهذه الموسيقى وتلك الصور والرموز خدمت فكرة الأديب، وهي محاولته تغيير واقع الإنسان بتخليصه من الران الذي ملأ قلبه، ليكون متعلقاً بربه.
وكانت الصور ترد في القصة تباعا ، وبشكل مكثف لتحقق في مجملها وحدة عضوية أريد من ورائها التعبير عن فكر الأديبن وجاء بعضها وصفاً خارجياً خدم فكرة القصة كحديثه عن الرياض في قوله، "فانتهيت إلى روضة قد رق أديمها، وراق نسيمها، ونم ّطيبها، وغنى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتبلبلت بلابلها، وتسلسلت جداولها، وتسرحت أنهارها، فقلت يا لها من روضة ما أهناها، وخلوة ما أصفاها".
وقد اتخذ الكاتب هذا الوصف البديع لمشهد من مشاهد الطبيعة وسيله للتفكير في مخلوقات الله سبحانه كما أشار في عباراته الأخيرة، فهو يتأمل أجواءها وهو في خلوته فيها ليدرك عظمة المولى ويسبحه ويمجده .
ومن الوصف الذي خدم فكرة ما تصويره للخفاش الذي "جعل الليل له وظيفة، فهو طول النهار نائم كالجيفة، مستتر عن أعين الناس خيفة، وهو لا يخلّ بوظيفته ليلاً ولا نهاراً، ولا يغفل عن وِرْده سراً ولا إجهاراً، قد قسم وظائف الطاعات على جميع الساعات، فما تمر ساعة إلا وله فيها وظيفة وطاعة".
وهناك مشاهد وصور جزئية، فمن الأولى حديثه عن الطيور المهاجرة وما لاقته من مشقات خلال سفرها إلى أن وصلت إلى الجزيرة. وحكايته لما رأوه عند المسلك مما يلذ الأعين والأنفس([90]) .
ومن الصور الجزئية الجميلة قوله يصف المنثور الأزرق "وأما الزرق فقد انطوى على جواه وصبر على أذاه، وكتم بالنهار شذاه، وقال أنا لا أبوح بسري لعاشق... فإذا جن ليلي أبديت ما بي لأحبائي".
فهنا نرى المقدسي يشخص هذا الزهر فيجعله إنساناً ينطوي على حبه ويصبر على الأذى، ويكتم رائحته بالنهار، ليظهرها لأحبائه في الليل وفي هذا التشخيص استعارات مكنية جميلة.
وهذا الخزام شخص يقول: "أرافق الوحش في النفار، وأسكن البراري والقفار، أحب الخلوات، وأستوطن الفلوات" وذلك على سبيل الاستعارات المكنية والقول أيضاً كناية عن اعتزال الصوفي للناس.
والشمع "يحترق بالنار، ويبكي بأدمع غزار، ويقول أيها النحل أما يكفيني أن رُميت منك بِبَيْني، وفرّق الدهر ما بينك وبيني" فهو إنسان حزين متألم يذرف الدمع حزناً على فراق النحل. وفي ذلك كله استعارات مكنية تشخيصية.
وهذا التصوير الجميل وكثير غيره لا يضيره مجيئه في أسلوب مسجع، بل على العكس من ذلك كان الجرس الموسيقي أحيانا يحسنه ويوحي بمعناه ، وهذا ما يجعلني أدعو إلى العودة إلى أدب الوعاظ لاستخلاص جمال تصويره ونغمته ، وبذلك يدرك القراء أن أدب الوعظ ليس أدباً جافاً كما كان يقال عنه وإنما فيه من الجمال الشيء الكثير.
4ً- أهداف القصة:
أسقط المقدسي ذاته على المخلوقات التي تحدثت خلال مسيرة القصة فكانت ترجماناً لفكره وفلسفته في الحياة وقد أراد منها :
1- أن تكون عبرة وعظة للقراء، تكشف عن سبب خلق الإنسان، فهو لم يخلق سدى، وإنما للعبادة على الوجه الذي ارتضاه المولى تعالى.
2- بيان آلاء الله وقدرته من خلال الأحاديث العلمية التي وردت في الإشارات، كالحديث عن أهمية النسيم، وتصرفات الحيوانات وسلوكياتها علمياً والسحاب والنحل والشمع والنمل و.... وهذا يعني أن الكون لم يخلق عبثاً، وإنما كان لكل مخلوق فيه دور في هذه الحياة، إما على سبيل الحقيقة، وإما من خلال تأمل حياته واستخلاص العبر منها.
3- وكان في ثنايا قصته دعوة كبرى إلى مكارم الأخلاق، فقد ندد بالتكبر، ودعا إلى القناعة والزهد والجود، وإلى تخير الصحاب ... وهذه الأخلاق إسلامية في مجملها لولا بعض المغالاة أحياناً، كدعوته إلى اعتزال الناس، والسكن في القفار، وفي دعوته إلى هذا الاعتزال تفريط بالعبادات كعدم حضور الجمع والجماعات، وهذا ما يرفضه الإسلام.
4- نشر الفكر الصوفي كالسمو والارتقاء بالمجاهدات حتى تتمكن النفس من رؤية الله سبحانه، وفكرة الحب الإلهي والفناء، وفي ذلك تطرف، وكتفضيل الأولياء على الأنبياء في قصة الهدهد، والرمز إلى المولى تعالى بالمرأة أو بطائر وهمي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأرى أن هذا الفعل نجم عن التأثر بالوثنية الهندية أو الفارسية، والإسلام منها بريء ، ويجب أن يرفض استخدام الرمز في المجالات العقائدية لئلا يتخذ ذريعة للدسائس .
5- تعليم اللغة: إذ كثرت الألفاظ الغريبة مثل أقنع بالأجاج (المالح المر) و (البط ينغُط)، والنُّغْط: الطوال من الناس، وقد اتسعت اللغة لكثير من الرموز، إلا أن ما كان فيها تشبيهاً للذات الإلهية لا يقبل.
6- غاية أدبية وهي الإطلاع على ما وصلت إليه الآداب العربية في ذلك العصر إذ كثرت فيها القصص وجاءت بأساليب فنية رمزية تأملية وهذا ما يدعونا إلى مواصلة البحث عن الفن القصصي عند العرب ولاسيما في هذا العصر الغني بمعطياته الثقافية.
وإذا كان كتاب اليوم يقرؤون قصصاً عامية من أجل مضمونها، فأولى بهؤلاء أن يعودوا إلى قصصنا القديمة ليتمتعوا بما فيها من جمال معنوي وجمال أسلوبي.
وقد تبين لي أن عصر الدول المتتابعة لم يكن عصر جمود فكري ولكنه أبدع لنا فنوناً قصصية شتى متنوعة الأغراض والفنون، وحوى بعضها عناصر فنية لا تقل عن فنية القصة في العصر الحديث، ولوعني بها أدباؤنا، وتخلوا عن الملل بسبب توارد السجع في عباراتها لقدموا لأدبنا العربي نماذج قصصية تغنيهم عن قصص الغرب، والتأثر بفكره ([91]) .
ولعل فنية القصة تتضح أكثر في السير الشعبية التي هي برأيي أشبه بالرواية المعاصرة على نحو ما سنرى في دراسة السيرة الشعبية .
([1] ) ينظر للقصة الشعرية في كتابي الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة ص 492 .
([2]) ليس هذا القول حديثاً شريفاً .
([3]) النص من ص15- والقصة كلها مطبوعة في كتاب يحمل اسمها "لوعة الشاكي ودمعة الباكي" .
([4] ) ذكر المؤلف في قصته الريق الطاهر والعقيق، وهو واد على طريق الحج يكثر ذكره في المدائح النبوية ، وهذا ما جعلني أتردد كثيرا بين الحقيقة والرمز الديني ، والمتصوفة يكثرون في قصصهم وأشعارهم من الحديث عن الزيارات الليلية والخمرة، رمزا للعبادة في جوف الليل والشعور بلذة هذه العبادة ، ( ينظر لذلك في كتابي الحركة الشعرية في حلب في القرن الحادي عش الهجري ص96-97 ، وص 165) ، لكن القصة مليئة بالغزل الفاحش فقد ورد فيها في حوالي خمس عشرة مرة، كما أن المؤلف ذكر في مقدمتها أنه ألف القصة لتكون موعظة لمن يعرض نفسه للحب، لئلا يقع فيما وقع فيه الراوي من معاناة، ولم يشر إلى أنها رمز للحب الإلهي أو النبوي. والمجون الذي فيها يجعلني أ نكر أن تكون منهما .
([5] ( لوعة الشاكي /3
([6] ) الصحيح أبيض لأنها ممنوعة من الصرف ، وقد أطلقها لضرورة السجعة .
([7]) لوعة الشاكي /26 .
([8]) نفسه / 33 .
([9]) لوعة الشاكي /32 .
([10]) لوعة الشاكي /33 .
([11]) لوعة الشاكي /37 .
([12]) ديوان ابن الرومي 6 / 131
([13]) لوعة الشاكي /30، والأوداء جمع ودود
([14]) لوعة الشاكي /14 .
([15]) لوعة الشاكي /6 .
([16] ) ابن غانم المقدسي هو عز الدين بن عبد السلام الأنصاري (ت 678هـ) واعظ و شاعر وكاتب متصوف : البداية والنهاية 13/ 371
([17]) سورة ص /73-85، ومثلها في الأعراف /12-18 .
([18]) السجود لآدم قيل إنه سجود تحية وسلام وإكرام، كما فعل أبوا يوسف فيما حكاه المولى تعالى: )ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً( وكان هذا مشروعاً فنسخ في ملتنا، وقيل السجدة لآدم طاعة لله عز وجل لا تعظيماً له: تفسير القرآن العظيم /115 .
([19]) نفسه /112-114، والبداية والنهاية 1/66-67 .
([20]) ملاجرجيس بن درويش (ت1140هـ) شاعر عراقي نظم تاريخ الهجرة، وله ديوان شعر وتاريخ: الروض النضر 2/178 .
([21]) الروض النضر 2/236-237 .
([22]) مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية /460-471 .
([23]) من يقرأ كتب الرحلات والتاريخ يدرك هذا فكتاب الأعلاق الحظيرة حكى عن مزارات الصوفية في القرن السابع الهجري وأربطتهم وزواياهم: ج1/45-70، وعجائب الأخبار لابن بطوطة وهو كتاب رحلته يتحدث عما سماه بكراماتهم وفي بعضها تطرف غير محتمل. ينظر لذلك في دراستي لهذه الرحلة ص 307-308
([24]) محمد بن محمد بن خليفة النحاس (681-757هـ) كاتب إنشاء من مصر: أعيان العصر 5/247 .
([25]) في ديوان البوصيري شكوى كثيرة من إسناد الأمور إلى غير أهلها، أو إسنادها إلى أهل الكتاب، ينظر لذلك ديوانه / 116،124،215 ،218- 233 .
([26]) الأقلف: من لم يختن: القاموس المحيط مادة (قلف) .
([27]) القصة كلها في أعيان العصر 5/249-251 .
([28] ) الاقتضاب ، ويسمى أحيانا الاكتفاء يكون بختم العبارة بما يحتاج إلى تتمة ، وهو من الأساليب العربية : الفن ومذاهبه في النثر العربي / 379 .
([29]) ذوو الأحوال مصطلح صوفي يراد به حال من سلك طريقهم ، فانتعشت نفوسهم في لحظات خاطفة تمر عليهم، تاركة عطراً تتشوق الروح للعودة إلى تنسم أريجه، قال الجنيد: الحال نازلة تنزل بالقلوب ولا تدوم، وهي موهبة: الموسوعة العربية الميسرة /346 .
([30]) كشف الأسرار /3 .
([31]) نفسه .
([32]) كشف الأسرار /3 .
([33]) عن طيب ذاك المحل … ينكسر الوزن، ويستقيم لو قال: ذياك. المحل والأبيات من البحر الكامل (المؤلفة) .
([34]) كشف الأسرار /5 .
([35]) عمر بن الفارض شرف الدين أبو حفص (576-632هـ) شاعر متصوف، لقب بسلطان العاشقين، وهو متطرف في تصوفه واعتقاده، إذ يؤمن بالاتحاد، وبوحدة الوجود كما يبدو من تائيته في علم السلوك عند المتصوفة : انظر ترجمته في شرح ديوان ابن الفارض/11 .
([36]) شرح ديوانه /119 .
([37]) نفسه /126 وينظر مثلها في ص53 .
([38]) ابن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (ت447هـ) لقب بالرئيس أي رئيس الفلاسفة، ولد في مدينة بلخ في تركستان، وتفقه في العلوم الفلسفية والطبية والدينية. له كتاب حي بن يقظان، والقانون في الطب. ينظر: حي بن يقظان لابن سينا /8-9 .
([39]) العقود الدرية 2/55 .
([40]) حي بن يقظان لابن سينا /203 .
([41]) كشف الأسرار /5-6 ويكرر معنى فناء الدنيا وكدورة عيشها في إشارة الهزار /18 .
([42]) كشف الأسرار /7 .
([43]) نفسه /8. وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى: )إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى( [طه/12].
([44]) كشف الأسرار /9 .
([45]) كلمة الذوق في الأصل تقال للطعام، ثم أطلقت على كل تجربة، وقد يخص الذوق بما يتعلق بلطائف الكلام لكونه بمنزلة الطعام اللذيذ الشهي لروح الإنسان المعنوي: الكليات 2/360 .
([46]) كشف /15 .
([47]) كشف/16 .
([48]) كشف الأسرار /16 .
([49])كشف الأسرار /16 .
([50])كشف الأسرار /18 .
([51])كشف الأسرار /18 .
([52]) إشارة إلى قوله تعالى: )لا تمُدَّنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم( الحجر /88 .
([53]) إشارة إلى قوله تعالى: )لا تحرك به لسانك لتعجل به( القيامة /16 .
([54]) إشارة إلى قوله تعالى: )ولاتمشِ في الأرض مرحاً( الإسراء /37، ولقمان/18 .
([55]) كشف الأسرار /19 .
([56])كشف الأسرار /20 .
([57]) كشف الأسرار /20 .
([58]) كشف الأسرار /21 .
([59]) كشف الأسرار /22 .
([60]) كشف الأسرار /23-24 .
([61]) من قصص الأنبياء /149 .
([62]) أنوار التنزيل وأسرار التأويل /4، وتفسير القرآن العظيم 1/119 .
([63]) تفسير القرآن للصنعاني ص226-227، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار /335-356 .
([64]) كشف الأسرار /26-27 .
([65]) كشف الأسرار /29 .
([66]) كشف الأسرار /30 .
([67]) راقي الأولى الصحيح فيها النصب :(راقياً)، ولكنه رفع الكلمة للسجعة، والثانية خبر ثان للضمير أنا مرفوع، والاسم المنقوص المرفوع تحذف ياؤه في الرفع ، ولكنه أبقى الياء للسجعة أيضاً.
([68]) كشف الأسرار /33 .
([69] ) الهدهد طائر عجيب الصوت حسن اللون لكنه نتن الرائحة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لاتقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده ، وأحب أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا في أقطار الأرض " : مسالك الأبصار /120
([70]) كشف الأسرار /36 .
([71]) صفوة التفاسير 2/406 .
([72])كشف الأسرار /37 .
([73]) تفسير البغوي 3/172 .
([74]) أنوار التنزيل 397-399 .
([75]) في ظلال القرآن 4/2279 .
([76]) كشف الأسرار /42 .
([77]) شرح ديوان ابن الفارض /229-231 .
([78]) حي بن يقظان لابن طفيل (علي بو ملحم)/17-18 .
([79]) البهاء العاملي شاعر من البقاع اللبناني هاجر إلى حلب فإيران، وكان عالماً بالفلك ومن المتصوفة الدراويش. ينظر له في أعيان الشيعة 9/249 .
([80]) الكشكول: 1/159-160 .
([81]) تلبيس إبليس /146-147 .
([82]) كشف الأسرار /44 .
([83] ) يبدو أن لفظ عنقاء مغرب مما ألف لدى المتصوفة فقد سمى محيي الدين بن عربي كتابا له بهذا الاسم ( حلية البشر 3/1211 ) ، والعنقاء لغة أنثى طائر أكبر الجسوم جثة وأعظمها خلقة ، تخطف الفيل والجاموس كما تخطف الحدأة الفأرة ، وعند طيرانه يسمع من جناحه صوت كصوت السيل أو صوت الأشجار عند هبوب العاصفة : مسالك الأبصار / 109 ، وقيل هو طائر أسطوري يرمز على التجدد في الأساطير اليونانية .
([84]) كشف الأسرار /48 .
([85]) القصة كلها في كشف الأسرار /47-49 .
([86]) حي بن يقظان لابن سينا /39 .
([87]) عصر الدول والإمارات د.شوقي ضيف /625-626 .
([88]) ينظر لذلك مثلاً مقامة أحمد البربير ، وقد مرت ص 128 .
([89]) مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية /457، ومدارس النقد الأدبي الحديث د.خفاجي ص167 .
([90])كشف الأسرار /47-48 .
([91]) وجد في نهاية العصر العثماني قصة زينب للدكتور هيكل، ولكن مؤلفها صرح بأنه تأثر بالأدب الغربي، وقد أشبعها الباحثون درسا ونقدا ، ولا أرى حاجة في دراسة ما درسه الآخرون مما ينسب إلى العصر الحديث ، وهو بالعصر العثماني _ كما أرى _ أولى ، ولذلك أعرضت عنها، وإن كان هذا التأثير يشير إلى إطلاع العرب في العهد العثماني على الآداب الغربية مما يجعلنا ننكر ادعاء بعض الدارسين أن العصر العثماني كان عصر جمود وتخلف. (المؤلفة).
وسوم: العدد 676