رواية "معيوف" والخلل في البناء

clip_image002_efc88.jpg

صدرت رواية معيوف للكاتب عبدالله دعيس قبل أسابيع قليلة، عن دار الجندي للنّشر والتوزيع في القدس، تدور أحداث الرواية حول رضوان الشخصية المهزوزة، والضعيفة، التي تعاني من اضطرابات عقلية واضحة، تقاذفته الرياح كالريشة من مكان إلى آخر، ومن بلاد إلى أخرى، يحاول الهرب من ماضيه وعائلته ليجد نفسه في أمكنة وواقع أشدّ بؤسا مما كان عليه،

لم يكن رضوان الشيخ بطل الرواية إلا بطل وهمي ضعيف قاده ضعفه وتردّده إلى حياة رمادية يسودها الظلم، والخوف.

يبدأ رضوان رحلة الصراع مع الذات حين يلتقي بأحد أقربائه العائد من أمريكا بثروة طائلة، ويساعده بالالتحاق بالمدرسة الرشيدية في القدس، وهناك يتلقي بمعلمه صالح النوباني الذي عمل هناك بعد ترحيله من البلدة، صاحب المبدأ والمرشد له، ويعجب بشخصيته أكثر فأكثر فيصبح قدوته، أما عبدالله الذي أصبح يأخذه الى يافا ومقاهيها حيث الترف والبذخ وحياة التجار والمدن الساحلية، فقد كان جل همه جمع المال وتوسيع أعماله فقط، لكن رضوان يجد ملذات قلبه هناك في يافا، فيري الأمر ممتعا في البداية، وليكتشف أن "أبا حمار" البائع المتجول في القرية كان يرتاد المقهى وصديق عبدالله في التجارة، ولكن بثياب أخرى، ويتضح بعد ذلك بأنه يهودي يقوم يخداع الناس؛ ليشتري الأراضي البور لصالح الوكالة اليهودية، وبناء المستوطنات، ولا يحرك ساكنا حتى بعد أن وصل أبا حمار، أو يعقوب صمويل إلى عقر داره، فيخدع عمّه الذي اتّهم بالخيانة وبيع أرضه لليهود ليموت قهرا. نجح الكاتب في أن جعل كلتا الشخصيتين بداية صراع لا ينتهي داخل معيوف، بين قناعاته ورغباته وبين مبادئه وتردّده.

منذ طفولته كان ضعيفا هزيلا تائها، فيبدأ بنكران العادات والتقاليد السائدة في ذلك الوقت والتنكر لها، دون أن يجرؤ على البوح بذلك، ويجد نفسه قد تزوج خضرة ابنة عمه التي تكبره بعدة أعوام رغما عنه وعنها، بأوامر من عائلته، فيبقى صامتا معذبا إلى أن تنجب خضرة طفله الأوّل عزام، وحملها بطفله الآخر عدنان فيقرر الهرب .

يسرد الكاتب روايته بأحداث تاريخية متسلسلة على لسان "الراوي"، فيصف عاداتها وتقاليدها ودور المرأة القوي في تلك الحقبة، حيث ساهم في تعزيز صمود أهل القرى في عهد الاحتلال البريطاني، فكانت المرأة تقوم بالزراعة والقطف وبيع المحاصيل في الأسواق، ويبدع أيضا بوصف معالم المدينة بجبالها ووديانها وأعيادها الموسمية وشهامة أهلها وبساطتهم .

رغم عمق الفكرة وسلاسة السرد، لم يقنعني بالأحداث والأدوار، وبالشخصيات الثانوية في الرواية، فوصل بعض الأحيان إلى المبالغة الكبيرة في التلاعب بتلك الشخصيات في الرواية؛ ليعيدها جميعها بعد اختفائها، فبعض الأحداث لم تكن مقنعة إلى حدّ ما، كالتقاء رضوان بأخيه مصطفى الغائب منذ ثلاثين عاما في أميركا في أحد الشوارع، حينما كان يبيع الساعات المقلدة.

وبعض الأحداث أيضا غاب عنها المنطق مثال صفحة 134 .

فآخر مكان تواجد فيه رضوان قبل أن يغيب عن الوعي حسب ما ذكر، كان " العلية"، وكان مضرجا بدمائه التي لم يوضح لنا سببها، لنفاجأ في  صفحة 136 بأنه استيقظ وهو في المستشفى الفرنسي، وعلى ما يبدو أنه مكث به طويلا حتى توطدت علاقته مع الراهبات، اللواتي حاولن طرح الأسئلة عليه وكيف جاء هنا؟ أي لم يقم أحد من عائلته بزيارته، أو لم يوصله أحد من عائلته إلى المستشفى؟ ولنفترض جدلا أنه سقط في طريق البلدة، فهل يعقل بأن يتجاهل الكاتب المارة من أبناء القرية الذين يعرفونه هناك؟ والطوق الأمني الذي فرضته القوات الانجليزية على البلدة؟

وإذا ما تمعنّا جيدا في محاور الرواية، سنجد أن الكاتب أوجد أكثر من مطب أو عقبة في كل مرحلة من المراحل التي عاشها معيوف، مبالغ فيها إلى حد كبير، وغير مقنع البتة، ولاسيما أثناء هروبه من بيت حنينا، وتنقله بين الناس دون أن يعرفه أحد، أو يسأل عن عائلته وأصله،  أو حقيقة هروبه، وكأنها بلاد أخرى، فالقرى المحاذية للقدس لا أعتقد أن  أهلها غريبون إلى هذا الحد عن المدينة، والعكس صحيح، ويعود الكاتب ليناقض نفسه وبالدليل ..صفحة 300 . حين تعرف رضوان على شاب في أمريكا، تردّد بقول اسم قريته إلا بعد أن تفكير عميق متسائلا:" ما الفرق إن قلت له من القدس أو من بيت حنينا فهو من ترمسعيا" .. وهنا يعرف الكاتب بشكل أو بآخر أنه لو كان هذا الشاب من القدس لأخفى عليه الحقيقة! فإن عادات أهل القدس وقراها بالسؤال عن الغرباء، والتحقق منهم، فكيف بغريب يعيش بينهم قرابة العام؟ وكيف  يصبح رضوان بشكل مفاجئ مجنونا، ومن ثم متصوفا، ومن ثم أستاذا، وبعدها يعود لاستكمال دراسته في مصر، وبعدها مقاتلا ضد العدو؟

يبني رضوان أفكاره من خلال تعرفه على تلك الجماعة، وانتمائه إليها، وهنا يبدأ بأخذ واجهة حقيقية في حياته، وسرعان ما ينهار هذا كله أثناء لقائه أولغا فتاة الدير، التى كانت تعمل على متن الطائرة كمضيفة" ولا أدري لماذا تذكرت مارتا في رواية عزازيل للكاتب يوسف زيدان التي تعلق بها هيبا لشدة جمالها، وينتهي المطاف بهروبها من الدير، فلم تكن هي أيضا راهبة بل هاربة من تقاليد المجتمع" التقى رضوان بأولغا في دير اللطرون، وكانت الأخرى هاربة من عائلتها في ريف حماة، وهربت بعد أن شاع بالدير خبر حملها، وتقوم هي بدورها بغوايته وتجرده من مبادئه، فيعود ويستجمع قواه بعد عراك طويل مع ذاته المتأرجحة والخائفة، ليعود إلى الانتماء مجددا للجماعة، ويتعرف على حسين في جامعة  القاهرة، ويقاتلان جنبا إلى جنب الاحتلال الاسرائيلي في سيناء، ويسقط مرة أخرى أمام ضعفه وتردده، فلا يقوى على حماية حسين من الموت، ويعود مجددا حبيس تردّده واضطراباته .

يجد الكاتب في كل مرحلة من حياة معيوف نهاية تراجيدية بطلها الهرب أو السجن، وينتقل  بنا من محطة إلى أخرى، وكأن شيئا لم يكن، ويعود ليتلاعب بالشخصيات الثانوية بشكل لافت، ويعيدها إلى الرواية فيلتقي رضوان بأخيه مصطفى في أمريكا،، وهو يبيع الساعات المقلدة هناك، ومصطفى هجر القرية أكثر من ثلاثين عاما، ويتعرف عليه ويجد له عملا ببيع القماش في شركته الخاصة، فيبدو الأمر غير مقنع لدى القارئ  ..

تعرف رضوان على "محمود العفن" تلقائيا حين زار قريته بيت حنينا، وهو بالمقابل لم يعرفه، يهرب بلا أوراق ثبوتية وبطاقة تعريفية، ويتعلم ويصبح أستاذا، ويسافر للدراسة في مصر وأمريكا فأي منطق هذا؟

وأتساءل كيف يتجاهل الكاتب الاعاقة السمعية، التي أصيب بها رضوان في المدرسة الابتدائية، إثر ضرب الاستاذ له على أذنه؛ مما أفقده السمع في أذنه اليسرى .. وكأنها لم تذكر، فهل يعقل أنها لم تشكل عائقا ولو بسيطا في حياته؟ وكيف استطاع بعقليته المضطربة وعمله وتواجده في المساجد، وانتمائه السياسي، وذهابه للبيت، ويستحضر خياله وفتاته الافتراضية "لطيفة" إلى أن يغلبه النعاس بسرعة، بأن يكون متفوقا في دروسه إلى هذا الحد كما ذكر؟

يستطيع القارئ أن يضع احتمالين للنهاية بكل سهولة قبل قراءتها، إمّا أن يلتقي بخضرة وأولاده، وإمّا أن يعود لبؤسه وخيبته، ففي كل مرحلة نهاية لا تحتلف عمّا قبلها .

ربما نستنتج أن رضوان لم يكن يعاني من اضطرابات عقلية فحسب، بل من انفصام جعل منه شخصية ازدواجية بلا وجه حقيقي.

أطاحت بمبادئه أوّل امرأة جميلة التقى بها، فهو يتشكل حسب الزمان والمكان، وحتى في انتمائه وعقيدته كان مشككا، يأبى التفكير خوفا من الالحاد، يترك عائلته دون الشعور بالذنب، يتخلى عن أصدقائه في ساحة المعركة، ويفر هاربا أو يقف متفرجا، كما وقف أمام " يعقوب صمويل" الذي اشترى أرض عمّه؛ لتقام عليها مستوطنات، وهذا يعني أن خياناته أكثر من بطولاته إن وجدت، أوليس الصمت والهرب خيانة كبرى أيضا؟ وحتى النهاية لم تخلُ من الانفصام، فنجده ينادي بالمقاومة والأمل، ويلوم الناس على اتهامه بالخيانة، ويحلم بمدينة فاضلة يسودها الطهر والعدالة، ويبقى السؤال كيف استطاع الكاتب جمع تلك الشخصيات في شخصية واحدة بهذه البساطة، دون أن يراعي عقلية القارئ والمنطق؟

وسوم: العدد 677