العيوب النسقية الثقافية، أدهم مسعود القاق، سوري، ريف دمشق، جرمانا
مع ازدياد أشكال الهيمنة المختلفة زاد الاهتمام بالآثار التي تتركها الثقافة على البشر التي تتمظهر على شكل أنسقة ثقافية تطال الفكر والسلوك والعاطفة. ولعلّ البداية كانت مع تأسيس مركز الدراسات الثقافيّة المعاصرة Birmingham school of culture في جامعة بيرمنجهام بإنجلترا عام 1964م، الذي اهتم بالدراسات الثقافية بصفتها: "تخصّص معرفيّ أو أكاديمي ومنهج تحليل للثقافة من منظور اجتماعي – سياسي أكثر مما هو جمالي" ويقوم هذا التخصّص على التحليل الثقافي النقدي الملتزم وغير المحايد إزاء الظلم الواقع على المهمّشين، وعلى الاحتفاء بالتجارب الثقافيّة من خلال تحليل دعاماتها في البنى الاجتماعيّة، طامحًا أن يندمج أكثر فأكثر بالواقع المجتمعيّ المعيش والحياة اليومية.
لقد تنامى الاهتمام بالدراسات الثقافية منذ تسعينيات القرن المنصرم لأسباب تتعلق بظواهر سياسية مستجدة وهي:
- انتشار العولمة لا سيما الجانب الثقافي منها، والتي يحلو للبعض من تسميتها أمركة نظرًا لدور الولايات المتحدة الأمريكية بنشر أنظمة ثقافية متعددة مثل حقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة والمساواة النوعية وتمكين الأقليات والمرأة، وقد صاحب شيوع سياسة العولمة تنميط ثقافة الزي، والوجبات السريعة والموسيقا الزاعقة.
- تنامي تيارات الإسلام السياسي، وتفجير الثقافات الفرعية، والنكوص باتجاه الولاءات الأولية على حساب الانتماء للدولة، واستهانتها بمفهوم الوطن والمواطنة.
- الحرب على الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م مما أدى لشيوع الإسلام فوبيا وثقافة الرعب، وبالمقابل تنامي ثقافة الكراهية والعداء للولايات المتحدة الأمريكية.
وترتكز الدراسات الثقافيّة، على كشف العيوب النسقيّة المضلّلة لوعي البشر وسلوكهم وتعرية علامات الذكورية فيها، وتفضح تكرار شروط نسقية النصوص الثقافيّة السائدة التي تمجّد الذات، وتنكر الآخر؛ داعيّة للتمرد على العمى الثقافيّ الملازم للنقد الأدبي المتسمة به ثقافة النسق التي يتمّ التعبير عنها إذعانًا لمفاهيم وتصورات ترسخت في الفكر منذ أزمنة ماضيّة، تتعلق بالذات الأنانيّة المتعاظمة والهيمنة التسلّطية، والذكورية التي تحقّر الأنوثة، وشعرية الثقافة التي تجرّد اللغة من دورها الفاعل باتجاه التغيير، وتزييف الخطاب باتجاه تصنيع الطاغية، فـ: "الأدبي هو الخطاب الذي قررته المؤسسة الثقافيّة حسب ماتوارثته من مواصفات بلاغيّة وجماليّة قديمة وحديثة" حيث: "لا مكان للمعارضة أو مخالفة الرأيّ، والآخر دائمًا قيمة ملغيّة" ، أمّا النقد الثقافي فيركّز على تحليل السياسة والفكر والآثار والممارسات الخطابيّة للغة والنصوص مغايرًا النقد الأدبي الذي يهتمّ بالجوانب الفنيّة والجمالية للنصوص كالمجاز والاستعارات والصور وتحليلها من موقع التعالي على شروط الواقع والمنطق. وبناء على ذلك فالنقد الثقافي يقوم على تحويل النصوص إلى موضوع نقاش متناولًا الأنساق الثقافيّة التي تخلّفها في المجتمع، حيث يتفاعل فيه المرسل والرسالة مع الاستجابة والتلقي. ولا يكتفي النقد الثقافي بالنصوص المكتوبة، بل يعدّ كل حيثيات الواقع نصًّا ثقافيًّا معنيًّا بالحياة البشرية المعيشة التي تتأثر بالطبقات الاجتماعية والإثنيات والسياسة والإيديولوجيا والطوائف الدينية وغيرها. وهذا يعني أن الثقافة تتعايش مع الواقع الاجتماعيّ، وتحاول أن تنظّم الحياة البشرية المعيشة، وتوجّه الصراعات داخلها، ولاتشكّله. فالثقافة بهذا المعنى هي: "منظومة معتقدات وممارسات لمجموعة من البشر تتفهم وتبني وتنظّم من خلالها حياتها الفرديّة والجماعيّة" ساعيّة إلى توجيه سلوك الناس باتجاه أكثر رحمة وتسامحًا.
وحتّى تكون الثقافة فاعلةً ومنتجة في حياة البشر لابدّ من خلخلة الهويات المجتمعيّة وتفكيك التراتبيات وإزالة الحدود بين الأدب والتاريخ والجغرافيا، كما لابدّ من تجاوز النقد الأدبي الذي اهتمّ بالنصوص الإبداعيّة من جهة جمالياتها، وأهمل فعاليات خطابها عند تلقياتها في واقع محدّد، مما جعل الغذامي يعلن: "بما إنّ النقد الأدبي غير مؤهّل لكشف الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه" ، وبالفعل فالدراسات الثقافيّة: "تنشب أسنانها في الأوهام النقديّة التي تدّعي أنّ النصّ مستقلّ ومكتفٍ بذاته؛ وتعتبر المعاني مصنوعة، يجري تدعيمها ونشرها في المواد والأنسجة الاجتماعيّة، وتعدّ الآثار الصنعيّة أو الأعمال الفنيّة هي ببساطة مجرد عقدٍ ونقاطِ التقاء تتوالد منها المعاني والشفرات الرمزيّة" ، وميدان الدراسات الثقافية الرئيس هو في العلاقات المتشابكة بين الحياة اليومية المعيشة، والممارسات والسياقات الماديّة والاقتصاديّة والسياسية والجغرافية والتاريخية المتشكّلة عبر أنساق ثقافيّة راسخة مستمدّة من سيرورة تاريخ الجماعة.
وسوم: العدد 678