إضاءة على سقطين في "المنار المنيف" لابن القيم
في كتاب "المَنار المُنيف في الصحيح والضعيف" للعلامة الشيخ ابن قيّم الجوزية الدمشقي (ت: 751هـ) سقطان، وهذا بيانُ ذلك، وإضاءةٌ عليه:
♦ ♦ ♦ ♦
السقط الأول:
قال الشيخُ ابنُ القيم في كتابهِ المذكورِ:
"الأحاديث التي يُذكرُ فيها الخضرُ وحياتُهُ، كلها كذبٌ، ولا يصحُّ في حياته حديثٌ واحدٌ"[1].
ثم نَقَلَ عن الشيخ ابن الجوزي قولَه:
"والدليلُ على أنَّ الخضر ليس بباقٍ في الدنيا أربعةُ أشياء: القرآن، والسُّنة، وإجماع المُحقِّقين، والمعقول...
وأمّا إجماع المُحقِّقين من العلماء ثُمَّ ذَكَرَ عن البخاري وعلي بن موسى الرضا: أن الخضر مات، وأنَّ البخاري سُئل عن حياته فقال..."[2].
وهنا عدَّل الشيخُ المُحققُ -رحمه الله- لفظَ "ثم" إلى "فقد"، وقال في الحاشية مُعلقًا على الفعل "ذَكَرَ": "أي أبو الفرج بن الجوزي، ووقَعَ الكلامُ في الأصل هكذا: (ثم ذكر عن البخاري...). وفيه سقطٌ لم أقفْ عليه، فقدرتُهُ بما أثبتُّهُ أخذًا مِنْ سياق الكلام"[3].
قلت:
قد نَقَلَ السيوطي في رسالته "الافتراض في ردِّ الاعتراض" كلامَ ابن الجوزي عن "المَنار المُنيف"، وجاء فيه النصُّ هكذا:
"أمّا القرآن... وأمّا النقل...
ثم ذَكَرَ عن البخاري وعلي بن موسى الرضا..."[4].
ودلَّنا هذا على أنَّ لفظ "ثم" صحيحٌ، وقد يكون السقط قبله، ومن المُمكن وضعُ نقط هنا للدلالة عليه، ويكون النصُّ هكذا:
"وأمّا إجماعُ المُحققين من العلماء... ثُمَّ ذَكَرَ عن البخاري وعلي بن موسى الرضا...".
وتجدرُ الإشارة إلى أنَّ جملة "وأمّا إجماعُ المُحقِّقين من العلماء" لم تردْ في نقل السيوطي، ويصحُّ الكلامُ بدونها.
♦ ♦ ♦ ♦
السقط الثاني:
ثم نقل ابنُ القيم قولَ ابن الجوزي:
"أمّا الدليلُ من المعقول: فمِنْ عشرة أوجه:
أحدها:...
الوجه الثالث:..."[5].
ولم يُذْكر "الوجهُ الثاني".
وعلَّقَ الشيخُ المُحقِّقُ هنا بقوله: "سقط من الأصل: الوجه الثاني"[6].
قلت:
وقد سقطَ "الوجه الثاني" مِنْ نقلِ السيوطي عن "المَنار المُنيف" أيضًا[7]، ودلَّ هذا على أنَّ السقطَ قديمٌ.
ولهذا ثلاثة احتمالات:
• أنه سقطَ مِنْ نسخةِ كتابِ ابنِ الجوزي التي نَقَلَ الشيخُ ابنُ القيم منها.
• أو سقطَ في أثناءِ نقلِ الشيخِ ابنِ القيِّمِ مِنْ كتابِ ابنِ الجوزي.
• أو سقطَ على ناسخٍ مُتقدِّمٍ نَسَخَ كتابَ "المَنار المُنيف".
والذي سبَّبَ هذا السقوط هو تكرُّرُ لفظ "الثاني"، ذلك أنَّ ابنَ الجوزي قال:
"أمّا الدليلُ من المعقول: فمِنْ عشرة أوجه:
أحدها: أنَّ الذي أثبتَ حياتَه يقول إنه ولدُ آدم لصُلبه. وهذا فاسدٌ لوجهين:
أحدهما: أنْ يكون عمرُهُ الآن ستة آلاف سنة فيما ذُكِرَ في كتاب يوحنا المُؤرِّخ. ومثلُ هذا بعيدٌ في العادات أنْ يقعَ في حقِّ البشر.
والثاني:...".
و"الثاني" هنا فرعٌ تابعٌ للوجهِ للأولِ، ولعلَّ الشيخَ ابن القيّم أو أحدَ النُّساخ سبقَ نظرُهُ مِنْ هذا الفرع "الثاني" إلى "الوجه الثالث"، فلم يَنقل "الوجه الثاني". والله أعلم.
♦ ♦ ♦ ♦
وليس لـ "المَنار المُنيف" سوى نسخةٍ واحدةٍ في مكتبة الدولة ببرلين (5/ 1172)، وعنها نُشِرَ عدة نشرات، وكلامي هنا على نشرة الأستاذ الشيخ عبدالفتاح أبو غدة.
♦ ♦ ♦ ♦
والمذكورُ لابن الجوزي عن الخضر كتابان، وهذه مواضع ذكرهما:
• موت الخضر عليه السلام. مجلد. "مُختصَرُه" جزء.
فهرست كتب ابن الجوزي ص213.
• عُجالة المُنتظِر في الخضر. جزآن.
مرآة الزمان (22/ 98).
• عُجالة المنتظِر في شرح حال الخضر.
البداية والنهاية، مواضع متعددة، انظر (2/ 130-147).
• موت الخضر. مجلد. "مختصرُه" جزء.
الذيل لابن رجب (3/ 417).
• جزء في موت الخضر.
قال ابن حجر في ذكر مَنْ ذهبَ إلى أنَّ الخضر مات: "ذكر ابنُ الجوزي في "جزئه" الذي جمعه في ذلك...". الإصابة (2/ 299).
• شرح حال الخضر.
أنشاب الكثب في أنساب الكتب ص281[8].
• عُجالة المنتظِر في شرح حال الخضر.
كشف الظنون (2/ 1125) ونقلَ منه، ممّا يدلُّ على أنه كان موجودًا في ذلك الوقت. (توفي حاجي خليفة سنة 1067هـ).
• عُجالة المنتظِر في شرح حال الخضر.
هدية العارفين (1/ 522).
• عُجالة المنتظِر في شرح حال الخضر.
عقود الجوهر ص43
• وجاء عند السخاوي ثلاثة كتب، فقد قال في "الجواهر والدرر" (3/ 1254):
"عملَ جماعةٌ ترجمةَ الخضرِ عليه السلام، وهي في ثلاث [كذا] تصانيف لابن الجوزي:
أحدها: عُجالة المنتظِر لشرح حال الخضر. في جزء.
والآخر: موته. مجلد
ومختصر هذا في جزء".
وعندي في كونها ثلاثة وقفة.
ولم أقفْ على نُسخِ هذه الكتب، لكن قال بروكلمان (5/ 347):
"مختصر عُجالة المنتظِر شرح حال الخضر، دمشق، الظاهرية 33/ 63".
وهذا في فهرست الظاهرية القديم على ما قال الأستاذُ عبدالحميد العلوجي[9]، ولم نقفْ على الكتاب في فهارس الظاهرية الجديدة.
وسيبقى هذان السقطان في "المَنار المُنيف" إلى أنْ نعثرَ على نسخةٍ كاملةٍ من "المَنار المُنيف"، أو نسخةٍ مِنْ "عُجالة المنتظِر"، يسَّر اللهُ ذلك[10].
[1] المَنار المُنيف ص 67.
[2] المَنار المُنيف ص69 – 72.
[3] المَنار المُنيف ص 72.
[4] الافتراض في ردِّ الاعتراض ص 66.
وهذه الرسالة حققها الدكتور عبدالجواد حمام على أربع نسخ، وطُبعتْ في دار المقتبس ببيروت سنة (1435هـ-2014م)
[5] المَنار المُنيف ص 73-76.
[6] المَنار المُنيف ص 74.
[7] انظر "الافتراض في ردِّ الاعتراض" ص68.
[8] وجاء في قائمة مؤلفات ابن الجوزي في "أنشاب الكثب" ص281 أيضًا: "وكتاب الخطر". ولعل الصواب: "كتاب الخضر".
[9] انظر: "مؤلفات ابن الجوزي" ص 204.
[10]ممّا يُذكرُ هنا: أنَّ الشيخَ ابنَ الجوزي أوردَ في كتابه "مناقب عمر بن عبدالعزيز" بابًا في بشارة الخضر به، وأوردَ فيه هذه الرواية:
عن رياح بن عبيدة قال: خرجَ عمرُ بنُ عبدالعزيز إلى الصلاة وشيخٌ متوكئٌ على يدهِ فقلتُ في نفسي: إنَّ هذا الشيخَ جافٍ، فلمّا صلى ودخلَ لحقتُهُ فقلت: أصلح اللهُ الأمير! مَنْ الشيخ الذي كان يتكئ على يدك؟
قال: يا رياح رأيتَه؟
قلت: نعم.
قال: ما أحسبُك إلا رجلًا صالحًا، ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي هذه الأمة، وأني سأعدلُ فيها".
وهذه الرواية قال عنها الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/ 120):
"رواها يعقوب الفسوي في "تاريخه" عن محمد بن عبدالعزيز عن ضمرة وإسناده جيد".
وقال عنها السيوطي في "تاريخ الخلفاء" ص 376:
"أخرج أبو نُعيم بسند صحيح".
ولكنَّ ابن الجوزي يضعف هذه الروايات، على ما ذكر ابنُ كثير عنه. انظر "البداية والنهاية" (2/ 143).
وكان ابن كثير قد قال في (2/ 134): "وأمّا الخلافُ في وجودهِ إلى زماننا هذا فالجمهورُ على أنه باق إلى اليوم".
وسوم: العدد 689