رثاء العلماء في شعر حيدر الغدير
للعلماء مكانة كبيرة في نفوس المسلمين عامة، فهم ورثة الأنبياء في العلم، لا في الدرهم والدينار، وقد رفع الله سبحانه مكانتهم فقال: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة:11)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. والعلم الذي يرفع مكانة صاحبه ليس هو مجرد العلم بالمسائل، وإن كان ذلك مهمّا، ولكنه هو العلم الذي يجعل صاحبه ربانيا عاملا بعلمه. وقد اشتهر في تاريخنا علماء من هؤلاء بعد عصر الصحابة والتابعين الذين هم خير القرون، مثل أئمة الفقه الأربعة، وكبار المحدثين، وأصحاب أولئك الفقهاء والمحدثين.
واشتهر في عصرنا من هؤلاء العلماء في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي من أخلصوا دينهم لله، وكانوا ربانيين على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وكان لوفاتهم أثر عميق في المسلمين في شتى بقاع الأرض، واهتز شاعرنا حيدر الغدير لوفاتهم، فعبر عن حزنه عليهم بقصائد تموج حرارة وألما وأسى، فرثى الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبا الحسن الندوي، والشيخ محمد السالم، ولنقف عند رثائه كل واحد من هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.
رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز:
تبوأ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، مكانة عالية في قلوب المسلمين عامة، وفي المملكة العربية السعودية خاصة، فقد كان مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، وتولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهو عضو مؤسس في رابطة العالم الإسلامي، هذه المهمات الجسام جعلته على تواصل دائم مع علماء العالم الإسلامي في قضاياه المصيرية.
وقد أحبه الناس، ليس لتوليه هذه المناصب، وإنما لصفات أخرى خلقية ونفسية، في رأسها الورع والزهد في الدنيا، يقول الشاعر حيدر الغدير عنه في مقدمته النثرية لقصيدة الرثاء التي كتبها بعنوان (ترجلت في التسعين ص 57 من ديوان من يطفئ الشمس): "إلى الشيخ الصالح عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي كان أعجوبة الصبر، ونموذج الزهد، ومثال النقاء والكرم، وبقية السلف الصالح."
ويصف لنا موكب جنازته المهيب فيقول:
مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر وضم غواليه المطهرة القبر وسار به النعش المهيب وأكبد حِرارٌ عليها من مهابته وقر يضوع الهدى منه نقياً ممسَّكا كما ضاع من أغلى قواريره العطر
وقد ازدحم الناس في موكب جنازته بشكل لم يقع لأحد من المعاصرين، فعرف بذلك مدى تغلغل محبته في القلوب بصدق وإخلاص، يقول الشاعر مصورا ذلك:
ملايين تدعو والقلوب كسيرة ويسعفها دمع ويخذلها صبر تقول مضى الشيخ العفيف إزاره وخر من العلياء في ليله البدر
وقد حزن الكبير والصغير لوفاته، وصار لديهم ما يشبه اليقين أن مكان الشيخ سيبقى خاليا، ولن يعوض بمثله!
وقد عمر الشيخ عبد العزيز حتى بلغ التسعين، وكان عمرا مباركا مليئا بجلائل الأعمال، يقول الشاعر:
ترجل في التسعين فارس حلبة وأفراسه الإيمان والعلم والذكر وصبر جميل لا يشان بشائن تلازمه التقوى ويرفده الشكر وحب لكل المسلمين ونية صفت فهي في أنقى مواسمه القطر ونصح لذي مال وجاه وصولة ونصرة منكوب أضر به العسر
وقد عدد الشاعر مجموعة من الصفات التي تحلى بها الشيخ رحمه الله، من الإيمان والعلم والذكر، والصبر الجميل، والتقوى والشكر، ومحبته وحدبه على المسلمين، ونصحه للأغنياء بالبذل، ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك من فضائل الأعمال والأخلاق.
ويصور الشاعر تحول الشيخ من طالب علم بمنطقة نجد داخل الجزيرة العربية، إلى عالم يراه المسلمون في مقام الأبوة عطفا وشفقة واهتماما، وحقيقة غلب على الشيخ في آخر عهده لقب الشيخ الوالد، فيقول:
وكان بنجد بدؤه بيد أنه تسامى به للخير من عزمه مُهْر فصار أباً للمسلمين جميعهم يروح إليه البيض والسود والسمر وعرب وأعجام وشرق ومغرب وما ضاق بالغادين بيت ولا صدر
وتُذْكر قصص كثيرة عن كرم الشيخ وبذله من ماله الخاص لأصحاب الحاجة الذين ينزلون بساحته وداره، وربما لامه بعض من حوله في ذلك، وطلب منه أن يمسك قليلا، ولكن الشيخ لم يكن يلتفت لذلك، ليقينه التام بأن الله سبحانه وعد كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا، ويصور الشاعر كل ذلك قائلا:
وكان الندى للشيخ توأم روحه إذا آده عسر وإن أقبل اليسر وما كنز الأموال فالبذل طبعه كأن نداه النهر أو دونه النهر وما خاف من فقر فربك مخلف وأملاكه من بعضها البر والبحر يقول لمن لاموه ما المال بغيتي وفيَّ يقين لا يرام له ستر
ويتأسى الشاعر عن الشيخ الراحل بخلفه، بما يخفف بعض الحزن، ويعطي بعض الأمل، فيقول:
رحلت ولكن في الحمى ألف واعد وألف صباح ملؤها الطيب والبشر وجيش بشارات حسان صوادح
ألذ من النعمى غلائلها الخضر
وإذا نظرنا إلى الموضوع وهو رثاء عالم ديني ومعلم ومرب؛ نفاجأ بانحراف القصيدة في نهايتها عن الموضوع، فجيش البشارات، وألف واعد، وألف صباح ينبغي أن يكون من طلبة العلم والدعاة والمربين الذي يكونون على منهج الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بينما الشاعر انساق بما هو مسكون به في معركته مع اليهود في فلسطين وفي القدس، لذلك جعل تلك البشارات فتوحا حربية، وسيوفا ورماحا ورجالها من أبطال الحروب؛ بدلا من الأقلام والمحابر والدفاتر والكتب التي هي ساحة الشيخ رحمه الله، فيقول:
وجيش من الفرسان راياته الردى يروح به نصر ويغدو به نصر عليه فتى الفتيان خالد مصلتاً يدك أعاديه إذا أمها الذعر له الظفر الميمون درب وصاحب وعادته الإقدام ((والفتكة البكر)) وسعد يقود الخيل جرداً ضوامراً يسابقه زيد ويصحبه عمرو
فالألفاظ التي تضمنتها هذه الأبيات من: جيش من الفرسان راياته الردى، وخالد (ابن الوليد) فتى الفتيان يدك أعاديه، والإقدام والفتكة البكر، وسعد (ابن أبي وقاص) يقود الخيل جردا، يسابقه زيد (ابن حارثة)، ويصبحه عمرو (ابن العاص)؛ هذه الألفاظ نقلتنا إلى ساحات المعارك الكبرى في العصر الأول! وإن كان لابد فالأولى استدعاء علماء الصحابة مثل ابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبَيّ بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم جميعا.
رثاء الشيخ علي الطنطاوي
كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مختلفا عن غيره من العلماء بأمور عديدة جعلت منه فذا متفردا، فهو إلى جانب العلم الشرعي الذي عرف به؛ أديب بارع، وكاتب مجل، له إلمام بعدة لغات غير العربية التي يعد أحد فرسانها.
وليست هذه ما ميزته، إنما أسلوبه الذي كان يعرض به معارفه ويخاطب مستمعيه، ومهاراته الشخصية في التواصل جعلته محل إعجاب لدى كل من عرفه على مستوى العالم الإسلامي فضلا عن العالم العربي.
وفي المملكة العربية السعودية التي قضى شطر عمره الأخير اشتهر ببرنامجه التلفزيوني (على مائدة الإفطار)، وبرنامجه (نور وهداية)، وبرنامجه الإذاعي (مسائل ومشكلات). وله مؤلفات كثيرة يغلب عليها السمة الأدبية، وقل أن يقرأ له قارئ ولا يتعلق به!
وشاعرنا حيدر الغدير أحد المعجبين به وبأدبه وكتاباته وأسلوبه، ويمكن لقارئ شعره أن يكتشف ذلك بسهولة. وكان لوفاة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أثر كبير على شاعرنا فكتب قصيدته (شاهد القرن، ص60، من ديوان من يطفئ الشمس)، وقدم لها قائلا: "كان الشيخ علي الطنطاوي من أبرز شهود القرن ودعاته، علماً وحكمة، وعقلاً وذكاء، وبياناً وفصاحة، وطرفة بديعة، وثقافة واسعة، وقدرة على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وعوضهم عنه خير العوض. كانت حياته غنية متنوعة، وهو ما يتيح لأصحاب الأقلام الكتابة عنه من جوانب كثيرة في أعمال علمية، أو أدبية على السواء."
ومطلع هذه القصيدة يشعر القارئ أنها قيلت قبل وفاة الشيخ، ثم استكملت، أو كان فد زاره قبل أيام من وفاته، فهو يصف لحظات الحياة قبل الوفاة بالحوار بينه وبين الشيخ، يقول حيدر الغدير:
حُمَّ الرحيل وما رأيتك تشفق وأجبته والوجه طلق مشرق فعجبت يا شيخي وجئت مسائلاً فيم البشاشة والرضا والرونق كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنا ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا
وأمام هذه التساؤلات من الشاعر عن صفاء الشيخ وهدوئه وطمأنينته في مواجهة الموت، يجيبه الشيخ قائلا:
فأجبت إني للرحيم مسافر فعلام أشكو يا بني وأقلق والله رحمته ملاذي مُشْرعاً أبوابَه وبي الرجاء المطلق أني ظفرت بها فماتت خشيتي قبلي فقل أنـّى أخاف وأشفق
فيأتي جواب الشيخ مطمئنا برحمة الله سبحانه، واثقا من تحقق رجائه بربه، ومن كان كذلك فلماذا يخاف ويخشى من الموت!؟
ويأخذنا الشاعر الغدير إلى الحياة الحافلة التي أمضاها الشيخ الطنطاوي في العلم والدعوة والكتابة دفاعا عن الأمة ومقدساتها، فيتحدث عن سبعين سنة من عمره؛ مجتزئا منها ثلاثة عقود، فقد قارب الشيخ مئة عام، وما اقتطعه الشاعر يزيد على وقت التكون والتشكل العلمي والتربوي الذي يسبق الحياة العملية، لذلك يعد الرقم سبعين مقاربة، وكناية عن الكثرة من السنين، فيقول:
سبعين عاماً عشت فارس حلبة لك في المحافل شدة وترفق أبداً بيانك كالحسام مظفر وثباتك المعهود عزم يبرق واللين أنت وأنت فيه نضارة فإذا عدا العادي فأنت المحنق ويعينك الإيمان وهو حمية ويعينك القول الجميل الأليق ويعينك العلم الغزير وحبه ويعينك العقل الذكي الأسبق ويعينك الحب الذي قد نلته بين الأنام فإن رأوك تحلقوا( مطروفة أبصارهم مأخوذة فيهم هيام الطفل حين يحدق وبهم إلى الرائي( إن قيل جـاء الألمعي المفلق
ويعدد الشاعر وسائل الشيخ علي الطنطاوي في مواجهة من يتصدى لهم في حلبة العلم والأدب والكتابة والحديث..، وهي الشدة والرفق، وقوة البيان، والثبات، والإيمان، والقول الجميل، والعلم الغزير، والعقل الذكي، وحب الآخرين، وهذه الصفات مجتمعة جعلت منه محط الأنظار عندما كان يظهر في التلفاز الذي كان يسميه (الرائي)، فيحلقون حوله والعيون مشدودة إليه، والسماع مرهفة لسماع حديثه.
وكان رحمه الله يعطي إجابات غير متوقعة أحيانا يدهش السائل والسامع مع احتفاظه دائما بابتسامته ودعابته، يقول الشاعر الغدير:
عقل يجوب المعضلات فيجتلي أغوارها وخبيئها ويدقق ويزفها للناس تزهر كالضحى والسامعون تشوف وتشوق وعلى الوجوه إذا رأوك مودة وعلى القلوب بشاشة وتعلق
وكان الدفاع عن اللغة العربية الفصحى أحد أبرز مجالاته، ولكنه كان مع ذلك يدعو إلى تبسيط اللغة، وتخليصها من تعقيدات النحو، وله في ذلك مقالات في كتبه، معروفة، يقول الشاعر الغدير:
كنت البيان سريه وجليه يتلى فيطرب أو يقال فيعشق تبكي الفصاحة بعده أمجادها وتظل من حزن شجاها تطرق وتقول هل من فارس من بعده يهب الروائع كالسنا ويحلق أم أن أغربة البيان وبومه خلت الديار لها فراحت تنعق
وإذا كان الناس قد اعتادوا على كنز الأموال التي تفنى؛ فإن الشيخ علي الطنطاوي ترك كنزا من العلم لا يفنى، وحري به أن يهنأ بكنزه، فيقول:
ولقد تبددها سفاهة وارث يعدو عليها أو يضل ويفسق فاهنأ بكنزك يا علي فإنه أغلى الكنوز الباقيات وأسمق
ويذكر اهتمام الشيخ الطنطاوي بقضايا الأمة الإسلامية العربية وغير العربية، وجهاده في الدفاع عنها، فيقول:
المسلمون عشيرة لك كلهم إن يحزنوا أو يفرحوا أو يقلقوا تأسى لهم وتذود عن حرماتهم وتكاد من آلامهم تتمزق فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم ضحكت بوجهك بسمة تتألق
فهو يحزن بأحزانهم، ويفرح بأفراحهم، وهو مصداق تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد.
وكان الشيخ رحمه الله يقلق لما يحصل بين الدعاة إلى الله من خلافات، فيحاول قدر جهده الإصلاح بينهم بشفقة الأب ونصحه، يقول الغدير في ذلك:
أمّا الدعاة فأنت فيهم والد يحنو ويصلح بينهم ويوفق(
وهو بعد ذلك شديد الصلة بكتاب الله يتلوه ويستنبط لطائف المعاني، ويختلي بنفسه مع الله سبحانه فتأخذه الخشية والخوف، وتسيل دموعه، يقول الغدير:
وإذا عكفت على الكتاب فآية تجلى لديك فليس فيها مغلق وإذا خلوت بربك الملك الذي يهب الحياة كما يشاء ويرزق راعتك قدرته فقلبك واجف من روعة تربو ودمعك مهرق
ويطوف بنا الغدير مع الشيخ الطنطاوي في رحلة هجرته من بلده الحبيب الذي ما انفك يذكره ما بقي فيه عرق ينبض، ولم تغادر لسانه عبارة: عندنا في الشام! فلما أخرج منها كارها، تمنت كل ثنية من الأرض أن تكون وطنا لهذا الأديب العالم، والعالم الأديب، هكذا يصور لنا الشاعر حيدر الغدير محبة البلاد العربية والإسلامية لهذا الإنسان، ولكن الله سبحانه اختار له أفضل بلد في الأرض قاطبة، إنها بلد الله الحرام، إنها مكة المكرمة، يقول الغدير:
ومضيت حين مضيت كل ثنية في الأرض ودت أنها لك نُمْرق( لكن ظفرت بمكة ولقد رجت أن وسَّدتك مع المحبة جلق يا طالما غنيتها وعشقتها ودمشق( وحباك ربك عن دمشق مكة وهي الأجل جلالة والأعرق
وكما كانت حياته في مكة؛ كانت وفاته ومثواه الأخير فيها:
وسكنتها حياً وميتاً بوركت سكناً تظل له النفوس تشوّق وسكنت جار المروتين وزمزم وحراء جارك وهو هدي يعبق والكعبة الزهراء منك قريبة وحفية فيها السنا والرونق يا طيب حظك بالجوار وأهله لما أتوك بشائراً تتدفق
وأخيرا يودعه في مثواه الأخير، مهنئا له بهذا الجوار الذي حصل عليه، فيقول:
نم حيث أنت لك الملائك مؤنس في روضة بنعيمها تتأنق
وعبارة الشاعر الأخيرة تذكرنا بالبيت الذي قاله في رثاء الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، حيث يقول:
نم في جوار الأكرمين يحفهم ويحفك الرضوان والإستبرق
فما أعظم المكانين، وما أحسن الجوارين، وما أكرم المرثيين الشيخ الأديب علي الطنطاوي في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة، والشاعر الداعية عمر بهاء الدين الأميري في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة!.
رثاء الشيخ أبي الحسن الندوي
للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله مكانة أثيرة عند الشاعر حيدر الغدير، ويكن له محبة جمة، وذلك أن الله سبحانه وضع للندوي القبول عند المسلمين عربهم وعجمهم، وجولاته في العالم زادت من هذه الآصرة، إذ عرفه الكثيرون عن قرب، وقد عرف في البلاد العربية بكتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قبل أن يعرفوه بشخصه. وكان لشخصيته العلمية والأدبية والسياسية في بلده الهند تأثير كبير في الوقوف أمام كثير من المخططات التي حيكت ضد المسلمين هناك.
ومكانته رحمه الله في رابطة العالم الإسلامي جعلت صلاته قوية برجال العلم والدولة في المملكة العربية السعودية. وهو فوق ذلك كله سليل النسب الحسني الشريف، وندوة العلماء التي تولى رئاستها دهرا من الزمن تعد درة إنجازاته، إضافة إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
كل هذه العوامل جعلت من الرجل العلامة علامة بارزة في حياة المسلمين في القرن العشرين، ولما توفي حزن العالم الإسلامي كله عليه، إذ إن ذلك العام شهد وفاة عدد من كبار العلماء حتى سماه الكثيرون عام الحزن.
وقد رثاه شاعرنا حيدر الغدير بقصيدة جعل عنوانها: (لوحت للناس، ص67، من ديوان من يطفئ الشمس)، وكتب لها مقدمة نثرية قال فيها: "كان الشيخ الصالح أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، من أجل الدعاة مكانة، ومن أصدقهم زهداً، ومن أصبرهم على الدعوة، ومن أعفهم نية ولساناً وسلوكاً. عاش مسكوناً بهموم المسلمين، محباً لاجتماعهم، كارهاً لخلافهم، باذلاً في ذلك كل ما يستطيع. وكان مشغوفاً بالربانيين والزهاد، مقتفياً آثارهم. كان معنا بجسمه، وكان معهم بروحه، فكأنه بقية من السلف الصالح جاءت تقيم علينا الحجة."
وقد بدأ قصيدته كما غالب قصائد الرثاء بالحكمة من الحياة والموت، والصبر على المصائب، لأن الحزن لا يعيد الميت الراحل، يقول:
لا الحزن يرجع من غابوا ولا الجلد يفنى الجميع ويبقى الواحد الأحد هذي الحياة مطايا الموت دائبة والشاهد الشمس والخضراء والأبد والليل والصبح والحدباء بينهما تمشي بركبانها تهفو وتتئد والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت سلها ففي جوفها الآباء والولد
والندوي رحمه الله عرف ببساطة حياته رغم ما توافرت له من أسباب النعيم، فلذلك وصف بأنه بقية السلف الصالح، تقوى وزهدا وصدقا ورشدا وحلما وصبرا وجلدا ونصحا، يقول في ذلك:
بقية السلف الأبرار قد كرموا وأنت فيهم ومنهم نجمة تَقِد أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحاً بالأتقياء وبان الصدق والفند وواحة بالهدى والصدق عامرة وقد تلاقى عليها الفضل والرشد والحلم في دأب والحزمُ في أدب والنصح فـي حدب والصبر والجلد وصولة الأكرمين الغر إن غضبوا وخشعة الأكرمين الغر إن زهدوا
وهذا الزهد منه ليس زهد الحرمان، ولكنه زهد المستغني الذي تأتيه الدنيا فيرفضها، وتكون بين يديه فيدفعها براحته برفق، بعد أن يأخذ منها بُلْغته، يقول الغدير مشبها زهده بزهد الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والغزالي رضي الله عنهم:
رضيت طبعَ الألى عزت معادنهم إذ جاءك العيش فيه اللين والغيد فقلت كلا لقد آثرتُ آخرتي فهي الغنى والذي تحبونه زبد كأنك الحسن البصري أو عمر أو الغزاليُّ زانوا الدهر إذ زهدوا لأن زهدك زهد الصادقين لهم عزم على صهوة الإخلاص منعقد
والندوي مثل أخويه السابقين الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي لم يأبه بما يترك من متاع الدنيا، ولكنه ترك علما ينتفع به، ومؤسسة علمية كبرى تخرج العلماء، وهذا أنفع له وأبقى من المال الفاني، يقول الغدير:
أبقى من المال ما أبقيت من عمل يزهو به وهو في عليائه الرأد في ((ندوة)) قدتها غراء عامرة بالمتقين على ساحاتها احتشدوا صرح أقمت على التوحيد رايته وقام يعليه أبناء له نجد
فهذه الندوة هي جامعة ندوة العلماء في الهند التي ينتسب إليها أبو الحسن الندوي، وأجيال من طلبة العلم الذي حملوا نسبة الندوي.
وقد عانى الشيخ أبو الحسن من عدد من الأمراض والأسقام لكنه كان صابرا شاكرا، لا يتضجر ولا يتسخط، طالبا رضاء الله سبحانه بالرضا بقضائه وقدره، يقول الشاعر الغدير:
رضيت أسقامك الغرثى فلا صخب ولا شكاة ولا حزن ولا كمد شكرتها وجذاها فيك حارقة وأنت بالصبر والتسبيح تبترد رأيتها محنة في طيها نعم ومنة حفها الإحسان والرغد لأنك المرء بالأقدار قد رضيت نفس له فهناء كل ما تجد
ولما توفي الندوي رحمه الله حزن الناس، وأقيمت عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين في ليلة من ليالي العشر الأخير في رمضان، وتناقلت الألسنة والصحف خبر وفاته، يقول الشاعر مصورا أثر وفاته:
أبا البهاليل من عرب ومن عجم شبوا على سمتك الميمون واجتهدوا بكتك أفئدة منهم وألسنة وقبل أدمعهم وهي السها الكبد بكوا أبوتك الزهراء صافية وعاينوا الرزء لما جل وافتقدوا
وهنا يرق قلب حيدر الغدير رقة شديدة ويغلبه الحزن، فيتغير أسلوبه تعبيره ليأخذ منحى بنويا مؤثرا، فيخاطب الشيخ الندوي بالأب الأجل والأستاذ - وحق لمثله ذلك - فيقول مودعا:
أبي الأجلَّ وأستاذي إليك يدي مددتها وأنا أزهو وأحتشد بها كتبت بكل الحب قافيتي فهل شفت بعض ما أشكو وما أجد يا ليت لي مثل قبر أنت ساكنه عساي ألقى الذي لاقيت إذ أفد
ونكاد نلتهب معه في بيته الأخير، ونرجو ما رجاه من الخير في صحبة الصالحين في الدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
وفي خاتمة القصيدة، يرى الشاعر الغدير وفاة الندوي تلبية دعوة الكريم الواحد الأحد، كان الندوي ينتظرها ويتشوق لها، ويتشوف إليها، فلما حان موعد اللقاء تهلل وجهه بالبشر، وأمل من الخير القادم مثل مضى، ورفع يده لأهله وأحبابه ملوحا مودعا كما يفعل الناس في أسفارهم في الدنيا غالبا، وهي صورة حركية جميلة أخاذة، ولفتة شعرية بديعة من حيدر الغدير في حسن الخاتمة والختام، فيقول:
لبيت أحلى نداء عشت ترقبه لما دعاك إليه الواحد الصمد وقلت والبشر ريان ومؤتلق قد طاب أمسي وأرجو أن يطيــب غد لوحت للناس إذ ودعتهم بيد لما دعتك إلى دار البقاء يد
رحم الله الشيح أبا الحسن الندوي، وأحسن مثوبته، ونفعه بما قدم من علم ودعوة في سبيل الله عز وجل.
رثاء الشيخ محمد السالم:
هذه القصيدة مخلتفة إلى حد كبير عن قصائد الرثاء الثلاث السابقة، فالمقدمة النثرية جاءت مقتضبة غير دالة على شخصية المرثي، فالقارئ بعد السنين التي مرت على وفاة الشيخ محمد السالم ليس هو القارئ الذي عاصره وسمع به، وإذا دخلنا في سطور القصيدة فإننا لا نجد فيها ما يدل على المرثي، وأعماله، واهتماماته، وصفاته الشخصية الخلقية والنفسية، غير البيت الذي ورد فيه اسمه (محمد)، وبذلك تفقد القصيدة كثيرا من ملامح الرثاء سوى شعر الحكمة الذي يرافق كل قصائد الرثاء، خصوصا حديث الشاعر عن زوال الدنيا، وتذكر الآخرة وما يتعلق بهما من معان.
فقد اختار الشاعر حيدر الغدير لقصيدته عنوان (ابتهال، ص77، من ديوان من يطفئ الشمس)، والعنوان ليس له علاقة بالموضوع، وكتب جملة نثرية جاء فيها: "في رثاء الفقيد الطيب الشيخ محمد السالم رحمه الله."
وافتتح القصيدة بالحديث عن زوال الدنيا، وخداعها للإنسان، وأن الإنسان يكون أسيرا لأمانيه فيها، وينسى الموت الذي هو قرين الإنسان ورقيبه الذي لا يفارقه، ثم يأخذه على غفلة، وعند ذاك يشعر أنه كان في حلم نائم فانتبه، يقول الغدير:
عزاءك هذه الدنيا ارتحال وآل خادع يتلوه آل وسرب من أمانينا اللواتي تخب بنا وقد ينأى النوال وقد يدنو ونحن له أسارى ولا ندري ويغرينا المحال وننسى الموت وهو لنا قرين رقيب ليس يدركه الملال يسالمنا وتفجؤنا رحاه فتطحننا إذا كان الزوال هي الدنيا منام ثم صحو ومكث سويعة ثم انتقال
ويأخذ الشاعر بعد ذلك في كشف المزيد من أوصاف الدنيا الخادعة، ثم يرغبنا في الجنان التي أعدها الله سبحانه للصالحين من عباده، فيقول:
هي الدنيا كما قد قيل دنيا لها في الغدر أخبار طوال وخير من متارفها وأبقى جنان لا يحيط بها مقال
ويدعو الله أن يبوئنا هذه الجنان فيقول:
أيا رباه بوئنا جناناً حساناً يزدهي فيها الجمال وبوئنا ذراها طيبات فأنت المرتجى ولك الجلال
ويختم القصيدة ببيتين يدعو فيهما للمرثي، ويذكر من صفته أنه كان برا، كريم الخصال، طاهر القلب، عفيفا، صادق القول، حسن الأفعال، فيقول:
وبوئها ((محمد)) فهو بر له في كل مكرمة خصال يزكيه فؤاد عاش عفاً وتحمده مع القول الفعال
ويلفت نظرنا في هذه النهاية أن الدعاء للمرثي جاء تبعا لدعاء الشاعر لنفسه بصيغة جمع المتكلم: (أيا رباه بوئنا)، ثم قال: (وبوئها "محمد" فهو بر)، وهذا الترتيب أفقد المرثي أهميته في القصيدة، فضلا عن وقوع الشاعر في ضرورة شعرية في منع اسم العلم (محمد) من الصرف مع أنه يملك التصرف والالتفاف على هذه الضرورة الشعرية.
وتذكرني هذه القصيدة بمرثية أبي العلاء في صديقه أبي حمزة الفقيه:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
حيث غلب عليها شعر الحكمة، ولا يكاد القارئ يجد فيها ذكرا للمرثي. وأرى أن الشاعر الغدير لو استقبل من أمر رثائه للشيخ محمد السالم رحمه الله؛ ما استدبر؛ لغير الكثير حذفا وإضافة، وتقديما وتأخيرا.
([2]) ((الرائي)) كلمة اقترحها الشيخ بديلاً عربياً عن ((التلفزيون)).
([4]) النمرق: الوسادة الصغيرة.
([5]) كان الشيخ عاشقاً للشام عامة، ولدمشق خاصة.
وسوم: العدد 691