قراءة في رواية "ذاكرة الظّلّ" للكاتبة التّونسيّة فتحيّة بن فرج
المرأة ومحاولة العثور على الذّات
في كلّ امرأة ملاك يبحث عن سماء يرفرف فيها بحرّيّة وحبّ دون أن يختلف العالم على تأديبه أو منحه هذه الحريّة. ملاك يتوق إلى التّفلّت من القيود والطّاعة الاستسلاميّة، وكأنّي به يريد العودة إلى جوهره الأصليّ، الملائكيّة الإنسانيّة. يقول بلزاك: "إنّ المرأة مخلوق بين الملائكة والبشر"، ما ستكشف عنه الكاتبة فتحيّة بن فرج في روايتها "ذاكرة الظّلّ"، وذلك بولوج الذّات الأنثويّة من خلال الّشخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية (صونيا) الّتي تروي محطّات عدّة من مراحل حياتها يتشكّل من خلالها حضور الكاتبة بفكرها الباحث في دواخل المرأة التّائقة إلى الحرّيّة، بعيداً عن القيود الاجتماعيّة والعائليّة.
تقوم الرّواية على البحث في مكنونات المرأة الفكريّة والنّفسيّة والجسديّة الّتي تعبّر عنها الكاتبة على لسان الشّخصيّة الرّئيسيّة مبتنية عالماً استقته من الواقع بتركيبة بسيطة تداخل فيها الواقع السّياسيّ الكائن ما بعد الثّورة التّونسيّة، مع واقع (صونيا) المحاميّة الزّوجة والأم، وعلاقة صداقة أقرب إلى ما يشبه الحبّ بصديق افتراضيّ. وتجتمع الأحداث وتتهيّأ الظّروف ليحتلّ هذا الصّديق (جمال) مساحة في حياة (صونيا) وتظلّ العلاقة افتراضيّة حتّى تصبح واقعيّة فتتقابل الشّخصيّتان، ويشكّل هذا اللّقاء ما يشبه الانتقال بالرّواية إلى أحداث أخرى تكشف عن تسليط الضّوء على التّسلّط الفكري تحت غطاء دينيّ.
-"ذاكرة الظّلّ":
عنوان يحمل في عمقه الدّلاليّ معنى السّجن الّذي تحياه المرأة وسنراه متجليّاً في الشّخصيّة الرّئيسيّة (صونيا) كما في شخصيّة الجدّة (حسناء). فكلتاهما مسجونتان في حقيقة الذّاكرة مع اختلاف الظّروف والاختبار الحياتيّ، إلّا أنّهما تجتمعان في حضور الاستقلاليّة والانعزال والصّمت وحبّ التفرّد بالنّفس. "أحبّ كثيراً هذه الجدّة الّتي لم تلد غير أمّي دون أن أدري ما الّذي يشدّني إليها شدّاً وثيقاً هكذا! أخفّة روحها أم نقاء سريرتها أم صلابتها أم هي دماؤها الّتي تجري في عروقي. لم تكن تزورنا إلّا في مناسبات قليلة ونادرة حتّى أنّ أمّي كانت تلومها بشدّة على عزّة أقدامها وتدعوها باستمرار إليها ثمّ يئست واستسلمت لهوى الجدّة الّذي كان يدفعها للقدوم إلينا مرّة أو مرّتين في السّنة على الأكثر. وبمفعول الوراثة، مرّ إلينا حبّها للانعزال ونوعها إلى الوحدة والاستقلاليّة..."(ص 9-10)
الذّاكرة تحمل حقيقة الإنسان، فالماضي هو الصّديق الأمين الّذي يرافق الإنسان أينما حلّ. لكنّ الكاتبة تربط الذّاكرة بلفظة (الظّلّ) لتعبّر عن مرحلة ظلاميّة مرّت بها (صونيا) محفورة في عمق ذاتها. ولعلّ الظّل مرادف ل(صونيا) كشخصيّة احتجبت عن نورها الحقيقيّ في لحظة انتقال من حياة عاديّة اختارتها بنفسها، إلى حياة أُجبرت على عيشها كما سنشهد في نهاية الرّواية (هل أنا حقّاً كلّ هذا بعد أن شوّهوني وصنعوا منّي امرأة أخرى تنزف ذاكرتها بالأشلاء؟؟)(ص314)
- التّحرّر الأنثوي:
تسترسل الكاتبة فتحيّة بن فرج في وصف العالم الافتراضيّ الّذي شدّ انتباهها، كما تمعن في وصف شخصيّة (جمال) الصّديق المغربيّ الافتراضيّ الّذي ستسبر أغواره (صونيا)، موعزة هذا الاهتمام بعالم التّواصل الاجتماعيّ أو مبرّرة إيّاه ضمنيّاً بإهمال الزّوج لصونيا بحجة العمل السّياسيّ وخدمة الوطن، في مقدّمة الرّواية. (ماذا أقول يا جدّتي، ماذا عساي أقول، وقد بتّ أشعر بالوحدة في بيتي وبالغربة، إنّ وضعنا الجديد يخنقني كثيراً ويصيبني بالعفن، يخجلني، يحرجني، يشعرني بالدّونيّة. ما لنا نحن والسّياسة؟ بماذا يمكن لمهندس معماريّ أن يفيدهم في مجال السّياسة؟ (ص 14). كما تشير إليه في مكان آخر من الرّواية وذلك خلال العلاقة القائمة بين صونيا وجمال (في الأثناء كان زوجي منغمساً في أعماله السّياسيّة الّتي لم يكن يكشف شيئاً عن تفاصيلها، يقضي أغلب الوقت في مكتبه يغادر البيت في موكب مهيب...) (ص 60)
تنشأ علاقة روحيّة أو كما تسمّيها الكاتبة على لسان صونيا ما هو بعيد عن حالة الحبّ (هذا ارتباط حميميّ بعيد عن الحبّ) (ص 51)، وكأنّي بها تنقذ نفسها من مأزق المرأة المتزوّجة المقدمة على حبّ رجل آخر. في حين أنّنا نتلمّس من الحوارات القائمة بين صونيا وجمال، اتّصالاً روحيّاً يكشف للشّخصين معاً قربهما الرّوحيّ حدّ تعلّق الواحد بالآخر. لكنّ الأهمّ اقتناص ما بين السّطور من معانٍ أرادت الكاتبة إيصالها عن حاجة المرأة الرّوحيّة لروح تتآلف معها وتتصادق وإيّاها بحريّة ملغية كلّ الحواجز والقيود. يظهر ذلك في هذا الجزء من الحوار:
(- حاذري ستملكين روحي الّتي لا أكاد أملكها.
- الأرواح يا صديقي لا تنتظر إشارة منّا كي تتحرّك وتلتحم، وما ضرّ لو أنّنا صرنا توأماً) (ص 54)
فهل المرأة فعلاّ بحاجة إلى هذا الاتّصال الرّوحيّ الحرّ الّذي يعبّر عن حرّيّة داخليّة تتوق إليها؟ أم هل نحن أمام كائن تحاكي روحه الكون الواسع وتسبح فيه باحثة عن ضالّتها، روحها التّوأم؟ وكأنّ هذا الاتّصال الرّوحي مرادف لحريّة المرأة، وتسعى من خلاله إلى ولوج الكون بأسره والتّغلغل فيه والتّفلّت من الأسر. وما دمنا نتحدّث عن اتّصال روحيّ، فلسنا بصدد الفصل بين الجسد والرّوح، خاصّة أنّ الكاتبة توظّف الجسد بشكل أو بآخر بين (جمال) و(صونيا)، دون الولوج في علاقة حميمة، وإنّما في ملامسات توحي بحاجة (صونيا) إلى تحقيق أنوثتها بحرّية.
(متعة لا يتذوّقها إلّا معتوه. كم مرّة فكّرت بشهوة أن أجرّب المتعة الّتي لا يدركها إلّا الّذين أصابهم الجنون) (ص 72). والمتعة تأتي في سياق التّحرر الكيانيّ، كأن تخرج صونيا من ذاتها، وحضارتها، وثقافتها... لتلقى ذاتها العميقة. (لقد كبّلتني قيود المجتمع وقيود الحضارة، وقيود الثّقافة، وقيود العادات، وقيود القانون الّذي درسته فاستعمر ذهني وكاد يخنقني.) (ص 73) ما نشهده واقعيّاً في حياة المرأة من التزام قسريّ بالمجتمع والثّقافة والحضارة، ما يجعل منها كائناً مسجوناً في ذاته، منغمساً في الواقع حدّ الازدواجيّة. فالظّاهر يتناقض مع الدّاخل، والتزام ظاهري يتنافى والعمق الرّوحيّ والنّفسيّ الّذي يرجو كلّ لحظة التّخلّي عن كلّ شيء مقابل لحظة قرار حرّ.
لعلّ الكاتبة كانت خجولة في إبراز المشهد التّحرّريّ بقوّة، أو طرح هذا الفكر بجرأة أكبر، فالفكرة تضيع بين الحوارات الكثيرة بين (جمال) و(صونيا)، بل تشهد هذه الحوارات تعبيراً عن حرّيّة الرّجل مقابل حرّيّة المرأة وعلى القارئ أن يجتهد بعض الشّيء ليلمس بنفسه توق المرأة إلى الحرّيّة. ولعلّها ربطت حرّيّة المرأة بالانطلاق نحو اللّامعقول مع رجل تعلّقت به بادئ ذي بدء افتراضيّاً حتّى حلّ اللقاء الواقعيّ. فحين يطلب (جمال) من (صونيا) أن تكون له وحده وترافقه دون أن تعلم الوجهة الّتي ستخلص إليها، تستسلم لطلبه كطفلة صغيرة، ما يعوزنا أن نسأل عن مدى الحرّيّة في هذا الهجوم على اللّامعقول. (بمجرّد أن تخطو خطوة واحدة نحو اللّامعقول، تحسّ أنّ جناحين قد نبتا لك بزغب خفيف وكلّما أقدمت بشجاعة أكبر نحو الجنون والمغامرة استطال الجناحان أكثر ونما ريشهما فتجد في نفسك القدرة على التحليق عالياً.) (ص 237)./(ماذا سيحصل لو أنّني منحت يوماً واحداً وليلة واحدة لرجل تعلّقت به روحي وجعلته رفيقاً في رحلة مجنونة خارجة عن ترتيبات الدّفتر العائليّ؟) (ص 238)
- التّسلّط الفكري تحت غطاء دينيّ:
في حركة مفاجئة بعد سرد طويل كان بالإمكان تجنّب بعضه، تفاجئنا الكاتبة بظهور ما يشبه عصابة تخطف صونيا وجمال، وتستبيح جسدها وتنتهك كرامتها مرّات ومرّات. وتجنّدها في مهام ظاهرها إنسانيّ، مستغلّة حضورها في أمكنة محدّدة لتنفيذ أهدافهم التّدميريّة. إلّا أنّ الكاتبة تسمّي هذه العصابة أو المجموعة بالتّنظيم. ولعلّها هذه المرّة أيضاً ابتعدت عن تسمية الأشياء بأسمائها، فالتّنظيم ليس سوى توصيف للجماعات الإرهابيّة الّتي تهدّد مجتمعات ما بعد الثّورة تحت غطاء دينيّ والتي بلغت ما بلغته من سيطرة واستحكام على نطاق واسع، خاصّة أنّ الكاتبة تلمّح بالرّواية إليهم، في حديث مع أحد أعضاء هذا التّنظيم:
(ثمّ استجمع ثقة جديدة في نبرة صوته واسترسل يحدّثني عن الظّلم والقدر والعقاب والجزاء والجنّة والنّار وعن المسار الجديد الّذي يهيّئني الله له بينما كنت تائهة في سحابة من الغمّ لا أهتمّ لثرثراته التّافهة وحججه المتضاربة ومنطقه الأرعن) (ص 287)
ترتحل صونيا قسراً عن ذاتها، وتغدو امرأة أخرى شكلاً ومضموناً؛ مسجونة في جسد ليس لها، في ذاكرة هي الحقيقة الوحيدة في حياتها. (هذه أناي الجديدة الّتي كانت تسعد المجالس بحضورها وتزهر الطّرقات بمرورها صارت تثير غبار الأحزان وراءها) (ص 315). وهكذا أصبحت ذاكرة من ظل مسطورة في رواية قد تجد فيها كثيراً من الضحايا ضحايا الإرهاب نفسها هنا.
وسوم: العدد 698