الفراشات الضالة!
طالعت ما كتبه الأديب الكبير محمد جبريل تحت عنوان " نجيب محفوظ وشياطين الإنس " في جريدة المساء بتاريخ24/12/2016 وتناول فيه شهادة ابنتيْ نجيب محفوظ عن أولئك النفر الذين أحاطوا بوالدهما وخاصة بعد فوزه بجائزة نوبل ، وسلبوه الراحة والخصوصية وادّعوْا وصْلا به فأساءوا إليه فكانوا شياطين الإنس – حسب تعبير الابنتيْن – الذين جندوا هذه العلاقة المزعومة من أجل مصالحهم ومنافعهم.
يرى جبريل أن أدعياء القُرْب والوَصْل لم يلْتقِهم نجيب محفوظ. لم يرهم ولا طرأوا علي حياته. إلا بعد ان أمسي نوراً يجتذب الفراشات الضالة.
لم يرحموا شيخوخة الرجل ولا مكانته. جعلوا منه موضعاً للابتزاز. وتحقيق الذات ولو علي حساب قيمة عالمية عالية. ويذكّر جبريل بآراء محفوظ في تطورات الصراع العربي الصهيوني.
كنتُ من الذين اهتموا بأدب نجيب محفوظ في الستينيات ، وكتبتُ عنه فيما بعد عديدا من المقالات والدراسات دون أن ألتقي الرجل أو أعرفه شخصيا ، وحين قابلته لم يزد اللقاء على السلام وأهلا وسهلا ، ولم أفكر في علاقة أبعد من ذلك مع تكرار اللقاء. العكس كان مع محمد عبد الحليم عبد الله. كنت أشعر بتقارب روحي وفكري، وأتعاطف معه بحكم مظلوميته التي يُعانيها في الحياة الأدبية ، مع أنه كان يُذكر دائما مقرونا بنجيب محفوظ، وهو ما دفعني لأكتب عنه أول دراسة نقدية تظهر في كتاب.
في يوم ما عقب هزيمة يونيو السوداء كنت أزور الرائد العظيم أحمد حسن الزيات؛ صاحب الرسالة في مجلة الأزهر وسألته عن نجيب محفوظ، فقال لي : إنه أفضل من يكتب الرواية في اللغة العربية. لعلى من يومها بدأت أهتم به نقديا بعد أن كنت أكتفي بمتابعته قراءة، وكنت أتابع ما تنشره له الأهرام من قصص قصيرة وروايات مسلسلة في ملحقه الأسبوعي، فضلا عن كتبه التي أصدرتها مكتبة مصر.
عقب الهزيمة السوداء التي صنعها البكباشي الأرعن فاجأني الأستاذ إبراهيم الصيرفي، المذيع بالبرنامج الثاني للإذاعة في مكتبه بسؤال: هل قرأت قصة نجيب التي نُشرت بالأمس في الأهرام ؟
قلت له: ليس بعد . أحتفظ بالملحق لمطالعته بعد عودتي إلى القرية.
راح إبراهيم يتحدث عن قصة "الحاوي خطف الطبق" التي نشرتها "الأهرام". أحداث القصة مألوفة في البيوت المصرية، أم تعطي ابنها قرشا وطبقا ليشتري فولا. ولكن الطفل يجد في الميدان حاويا يقدم ألعابه فينسى المطلوب منه، ويضيع منه القرش والطبق جميعا! كان تفسير إبراهيم للقصة من خلال تفاصيلها الدقيقة مرتبطا بالهزيمة والمحنة التي تعيشها مصر على يد البكباشي الذي خدع الناس فأحبوه وكنت واحدا منهم للأسف. ثم عاشوا الضياع والقهر والخراب غير المسبوق!
تعلمتُ يومها أن أفسر ما يكتبه محفوظ على أكثر من مستوى. لا ألتفت كثيرا إلى ما يقوله في لقاءاته الصحفية والإعلامية التي تبدو فيها المجاملة أكثر من الحقيقة، ونجيب مجامل حتى على المستوى الأسري، فقد رضي أن تغير الابنتان اسميهما من فاطمة وأم كلثوم – الاختيار الذي يشير إلى عمق ارتباطه بتراثه – إلى هدى وفاتن؛ تعبيرا عن نظرة انبهار بالجديد الذي يتجاوز المألوف.
وقد عثرت على حوار آخر أجرته جريدة الوفد، الخميس, 8 مارس 2012 مع ابنتي نجيب محفوظ كشفتا فيه بالتفصيل ما قام به أحد الأشخاص – وهو محمد سلماوي الذي ذكرتاه بالاسم - من ممارسات آذت أسرته بمجرد إعلان فوزه بجائزة نوبل ، واستغلاله للرجل استغلالا سيئا كان يقابله نجيب بالتسامح والصبر ، وقد أكدت الفتاتان أن والدهما تعرض لحملات تشوية واسعة، خاصة بعد وفاته من قبل أشخاص ساعدهم الأديب كثيراً، لكنهم أشاعوا أكاذيب وادعاءات حتي يظهروا أنهم المتحدث الوحيد باسم نجيب محفوظ. أشارتا إلى سبب الخلاف بينهما وبين الشخص المذكور وهو "مغالطاته عن والدنا وادعاءاته غير الحقيقية، ونحن لا نهاجمه ولكن دائماً نرد علي أخطائه". وتحدثتا عن السفر إلى السويد لاستلام الجائزة ومحاولات كثيرين منهم سلماوي الذي سافر بالفعل " فقد حاول عدد كبير من الأشخاص السفر بدلاً من والدي لدرجة أن سفارة السويد اتصلت بوالدتنا فقررت ساعتها أننا من سيسافر لتسلم الجائزة ". وأضافتا: " فوجئنا به في المنزل يطلب من والدنا السماح له بنشر ما يفيد بأن سفرنا معه كان فكرته، فوافق والدنا دون تردد لعدم إحراجه، وذهبنا نحن لتسلم الجائزة"، علي أن يلقي هو كلمة نيابة عن والدنا.
وعرج الحديث إلى فكرة الحوارات مع محفوظ فذكرتا: "كانت مؤسسة الأهرام قد رشحت الأستاذ فتحي العشري وآخرين لمساعدته في تنظيم المقابلات والمراسلات، ثم جاء حادث 1994 ( الاعتداء عليه ) فاعتذر للجريدة، فعرضت بعد ذلك فكرة الحوارات، وكانا العشري وسلماوي هما المرشحان لإجرائها معه، واحتد الأمر بين الشخصين ولم يتدخل والدنا لعدم إحراج أحد، وفوجئنا بـ «محمد سلماوي» يحضر إلي المنزل ويخبر والدنا بأنه سيجري معه الحوارات، وأن الأهرام طلبت منه أن يأتي بخطاب موجه إليها لتأكيد موافقته علي الاختيار فوافق ووقع علي الخطاب الذي كتبه سلماوي بيده".
" قام محمد سلماوي ببعض التصرفات التي تسيء إلي نجيب محفوظ تنوعت ما بين التصريحات والحوارات في حياته وادعي أن والدنا قال بعض الأشياء وهي لم تحدث، ورفض نجيب محفوظ أن يكذبه خوفاً علي مستقبله لأن الراحل كان متسامحاً، كما أن سلماوي لم يكن يظهر العداوة في حياة والدنا، وقد ظهرت في سلماوي بعض صفات الغدر في حياة الراحل، فمثلاً في أحد الأيام نقل سلماوي علي لسان والدنا أنه مؤيد لحرب الاستنزاف وأن أحد كبار الجيش وضح لمحفوظ فائدة الحرب، فعدل محفوظ عن رأيه المعارض لها وهذا لم يحدث لأن الراحل كان معارضاً للحرب ولم يغير رأيه أبداً، وعندما عاتبه والدنا علي هذا التصرف رد سلماوي بأن ما نشره «ريّح ناس كتير».
وكانت والدتنا تجلس أثناء وجوده لكنه ادعي أنه كان يقضي طوال اليوم مع نجيب محفوظ وهذا لم يحدث، وبعد الوفاة قال إنه يملك حوارات مسجلة مع نجيب محفوظ وكانت مليئة بالأخطاء، فحذرته والدتنا من هذا الادعاء فعاند واستمر في النشر وكأنه يتحدانا. "كان يسافر لحضور حفلات تكريم لنجيب محفوظ دون علمنا ولم يكن ينشرها وكذلك كان يحضر حفلات تكريم السفارات الأجنبية لوالدنا في مصر".
" تقييمنا لسلماوي بعد هذا المشوار أنه جاء ليستفيد من وجوده بجانب أديب نوبل، ولم نعترض علي استفادته لكننا رفضنا الأذي والمكيدة لنا، فعندما كان يتحدث سلماوي عن والدنا كان يتلاعب بالألفاظ لإظهار الراحل بصفات سيئة والعكس هو الصحيح". وفي سياق آخر مهم تقول إحدى بناته :
"- في إحدي المرات سأله شخص عن رأيه لو حكم الإخوان؟.. فكان رده: إذا كان هذا اختيار الشعب فليس هناك مانع لأن إرادة الشعب فوق كل شيء لأنه كان يؤمن بالديمقراطية".
ويهمني أن اذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ محمد صبري أو الحاج صبري رحمه الله، كان بمثابة السكرتير الخاص له ( وقد توفي مؤخرا)، وعرفت منه أنه كان يملي عليه أحلامه وكتاباته في سنواته الأخيرة ، ومما ذكره لي الرجل أن الكاتب الكبير سأله عن طريقة التيمم ليصلي بعد أن تعذر عليه الوضوء في بعض الظروف .
رحم الله نجيب محفوظ، وهدى المتاجرين به وهم كثر! وليتهم يطالعون أدبه بوعي وإخلاص .
الله مولانا . اللهم فرّج كرب المظلومين ، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 707