جماليات الخيال العلمي في "قصة حقيقية" للوقيان السميساطي السوري (125ـ192 م)
رابط مجلة الأدب العلمي ـ الحجم 5 ميغابايت:
http://damasuniv.edu.sy/mag/sci/images/stories/372016.pdf
"تلك هي المغامرات التي اعترضت سبيلنا في البحر، خلال رحلتي بين الجُزُر، وفي الفضاء، ومن ثم في جوف الحوت، وإثر خروجنا منه وبلوغنا الأبطال، وأبناء الأحلام، وأخيراً لدى البوسيفال والأونوسكيلي".(1) بهذه العبارة يختتم لوقيان السميساطي ما كتبه تحت عنوان "قصة حقيقية"، فما هي هذه القصة؟ وهل هي حقيقية أيضاً؟ أم أن في عنوانها من المفارقة الساخرة ما يعني بأنها على النقيض، فليس ثم حقيقة إلا الخيال الواسع لمؤلفها؟
كان لوقيان سورياً عاش في العصر الكلاسيكي التالي للزمن الذي راجت فيه محاورات أفلاطون، ومسرحيات اليونان القدماء كأسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وأفكار الفلاسفة على تنوعهم واختلاف اتجاهات تأويلهم ومحاولات تفسيرهم للواقع وظواهره. ولكن لوقيان استفاد من السمات الأدبية والبلاغية في عصر اليونان، وأخذ منها القالب الذي يصوغ به محاوراته، وقصصه، وحكاياته، ومقالاته. ولم يقتصر على نوع واحد، فنجد بعض مؤلفاته تاريخياً، وبعضها أدبياً، والآخر أسطورياً، وفلسفياً، غير أن السمة المشتركة بينها جميعاً هي الأسلوب الكوميدي الساخر، الذي لا يشير إلى المفارقات فقط، بل يشبعها بالنقد المبطن تارة، والمعلن تارة أخرى، يعينه في ذلك الانفتاحُ الذي اتسم به عصره، على الثقافات المتجاورة، والتاريخ، والنظرة المستقبلية إلى تكوين عالم جديد بمفاهيم يتغير محتواها مع تغير الزمن.
1 ـ من هو لوقيان السميساطي؟
يعرف كذلك باسم لوسيان، أو لوقيانوس، ولد عام 125 ميلادية، في مدينة سُميساط على الفرات، عاش لوقيان في القرن الثاني للميلاد، وأولى اللغات التي نطق بها وتعلمها هي السريانية. أقام في أماكن عدّة، منها أيونيا وأنطاكيا وأثينا وإيطاليا وفرنسا، وتعمّق في دراسة اللغة اليونانية، ووضع بها مؤلفات عدة. وكان يلقي المحاضرات في اللغة والبلاغة والنقد الاجتماعي. ويرد اسمه مقترناً بالنشاط الفكري: "لقد انتعشت بعض الأفكار الجمالية في العصر الهيليني بفضل أفكار بلوتارخ(45ـ120م)، ولوكيان وغيرهما".(2)
جمع لوقيان بين السهولة والعمق، وأظهر عيوب العديد من المذاهب الفلسفية القديمة وما فيها من تناقض وتعقيد ومخالفة لواقع الحياة. ومن مؤلفاته "قصة حقيقية"، فيها خيال واسع سبّاق في مجال الخيال العلمي كما نعرفه اليوم. إذ يمضي لوقيان في القصة عبر البحار ويعرج إلى القمر مع من معه، ويلتقي بأشخاص ذوي صفات غريبة، ويستولي عليهم التيه في إحدى القارات! إنه يميل إلى صيغ المحادثات المألوفة، ويعبّر عن الأفكار المجردة بوضوح.
وقد عمل لوقيان في طفولته مع قريبه النحّات، ولكنه ضربه حين كسر لوحاً رخامياً، فعاد إلى البيت، وانصرف إلى طريق الأدب. إنه كاتب بليغ، يتهكّم على الميثولوجيا الشعبية، وفِرق الفلسفة، ويعتمد نموذج محاورات أفلاطون، المؤسسة على الدراما والحوار. ولوقيان متمكّن من اللغة ويؤسس أسلوبه الخاص المتأتّي من دراسته علم البلاغة. وقد وصلَنا الكثير جداً من أعماله، منها "التاريخ الحقيقي" أو "قصة حقيقية". "لوكيان Lucian، هو سوري من الشمال يحتمل أنه كان أبيقورياً، وكان ناقداً ساخراً يكره الخداع، ترك لنا بعض المحاورات الطريفة والمفارقات التاريخية وحكايات سفر وترحال بارعة (تقارب في طريقة عرضها أسلوب سويفت الإنكليزي) وبعض المؤلفات الجادة مثل "السفينة والإسكندر أو النبي الكذاب" الذي يروي فيه قصة حياة الإسكندر من فورت أبوني وألوان خداعه المذهلة، وكيف أنه استطاع بإلهته العرافة جليكو التي كانت على شكل حية، وبطقوسها المعقدة التي تثير الروع، أن يخدع لا أهل الولايات فحسب بل الحكام الرومانيين أنفسهم".(3)
هاجم لوقيان العقائد والأفكار والعادات في جانبها الخرافي والزائف لدى رجال العصر الهلنستي، ويمتلك ناصية الهجاء مع تفهُّم ومن دون كراهية. وهو صاحب ذهنية واسعة وعلم غزير وحيوية وخفة تعبير. كان معجباً بالماضي وتراثه الزاخر، لكن هذا لم يمنعه من حبِّ كل ما هو مستحدَث كحرية الكلام والتعبير. ومن مقالاته ومؤلفاته: فلسفات للبيع، في مديح ذبابة، الكذّاب، رحلة إلى العالم الأسفل، الآلهة السورية، مذاهب في المزاد، الطفيلي. وتميّز بمرونة فكره وحدّة ذهنه وسرعة خاطره وقوة حافظته وخصب إبداعه. وعمل في كتاباته ومحاضراته على نقد الأخلاق بهجاء الرذائل وعيوب البشر والغباوة في الاعتقاد، وتميّز بأصالة الرأي، إلى جانب أسلوبه الرشيق والروح الخفيفة والصراحة، وعمل على إصلاح الناس بنقد العيوب والتشهير بها.
وفي إحدى المحاورات يطرح لوقيان فكرة المقارنة بين الآلهة، ومحاولة ترتيبها في أحد الاجتماعات، فيتساءل عن أهمية الشكل والمادة المصنوعة منها والصانع الذي نحت تماثيلها... "ويبقى السؤال الذي طرحه لقيان بطريقته الساخرة عن المعيار الذي يجب أن يتخذ لتحديد السمو والجلال من دون إجابة حاسمة".(4) لقد اتخذ لوقيان لنفسه لقب "السوري" في بعض محاوراته(5)، كما أنه "ابتكر نوعاً جديداً من الهجاء يعرف بالهجاء الحواري. إنه كاتب أكثر حيوية وأصالة وأوسع خيالاً من أي كاتب آخر من زملائه السوفسطائيين، خفيف الظل، ساخر سريع النكتة متنوع الهجاء".(6)
وفي كتابه "مسامرات الأموات واستفتاء ميت" اتّخذ من عالم الأبدية مكاناً ينظر منه إلى صفات نماذج متنوعة من الناس، وأجرى على ألسنتهم حوارات فيها سخرية لاذعة وانتقاد للمجد الزائف والعظمة الفارغة، وسخر من العرّافين والدجّالين، واستخفّ بالمتفلسفين الجاهلين بما يقولون، وكان يتهكّم ويستهزئ بزيف الصداقة القائمة على المصالح، وانتقد الطموح الحقير والجشع.
وفي الحديث عن نبذ الخرافة لدى أبقراط "يمكن أن نلمس الإعراب عن مشاعر مماثلة في هجاءٍ كذلك الذي كتبه لوقيان السميساطي الذي عاش في القرن الثاني الميلادي؛ فقد تعرض لوقيان مراراً لحماقة الخرافة، وسخر ممن "يطهرون أنفسهم بدواء مقدس، وآخرين تخدعهم ترانيم يبيعها الدجالون، وغيرهم البلهاء الذين يقعون في شَرَك تعاويذ اليهود"".(7) ويمتد تأثير لوقيان إلى أيامنا هذه إذ يقتبس منه أحد الفلاسفة المعاصرين ""من طبيعة الحب قبول المجازفات والمتاعب"، هكذا قال الشاعر الروماني لوكانوس قبل ألفي عام، وهذه عبارة رددها فرانسيس بيكون بعد ذلك بقرون عديدة".(8)
أثـّرت مؤلفات لوقيان في الآداب العالمية، وخصوصاً في عصر النهضة لدى العديد من فنانيه كرافائيل وأراسموس الذي ترجم له عدداً من المؤلفات والمحاورات، وتتالت طبعات أعماله في العصور الحديثة والمعاصرة في أوروبا.(9)
2 ـ الخيال العلمي:
من السمات المميزة جداً لمؤلفات لوقيان، الخيال العلمي، ولعل هذا الخيال في المحاورات يبدو مغلفاً برداء الأسطورة وما يكتنفها من تصورات وشطحات، لا تخلو من سخرية الكاتب بطبيعة الحال، غير أنه في "قصة حقيقية" التي ترد في بعض الترجمات بعنوان "التاريخ الحقيقي" واضح، ومما يدل عليه قول لوقيان عدة مرات بين سطوره "لن تصدقوني"! وبهذا يكون لوقيان السوري أول من كتب قصة الخيال العلمي، فهي متحررة من شرط الأسطورة، ولا تخضع لشروط الواقع من جهة، أو لمفاهيم الكرامات والمعجزات من جهة أخرى؛ "إن الأدب ينتمي إلى العالم الذي يشيده الإنسان، وليس إلى العالم الذي يراه، إلى بيته وليس إلى بيئته. عالم الأدب هو العالم البشري الملموس للتجربة المباشرة. إن الشاعر يستخدم الصور والأشياء والأحاسيس أكثر مما يستخدم الأفكار المجردة، والروائي يهتم بسرد القصص لا بإثارة المجادلات".(10)
يستهل لوقيان حديثه في قصته بالخيال، فهو يعترف بأنه كاذب، وبأن أياً من هذه الأحداث لم يقع في الحقيقة، ويشرّع لذلك باب الخيال على مصراعيه، وينوّع بين استخدام ضمير المخاطب، وضمير المتكلم.
ونلمح العديد من المكونات التي باتت تعرف في عصرنا هذا بالخيال العلمي، فلوقيان سرعان ما يجد نفسه مسافراً مع فريق الملاحة البحرية عبر الفضاء، في السفينة، وهذا ما نعرفه الآن بتسمية "سفينة الفضاء". وفي الرحلة يشاهدون عموداً من النحاس عليه كتابة توثيقية، وهو يسبح في الفضاء! "في قلب الغابة، أبصرنا عموداً من النحاس، كتبت عليه العبارة التالية باللغة اليونانية، وهي شبه مطموسة: بلغ هذا المكان هيرقليس وديونيسوس"(11)، وهذا يشبه إلى حد كبير اللوح الأسود الذي يظهر في أماكن مختلفة في الفضاء في فيلم "2001 أوديسا الفضاء" الذي تم إنتاجه عام 1968، ويظهر في موضع آخر نص معاهدة بين سكان الشمس والقمر، وذلك على عمود من العنبر في الفضاء. كما أنه يخالف الفكرة المألوفة في النظر إلى القمر على أنه في الأعلى، ففي الرحلة تكون البلاد في الأسفل هي القمر، "فتابع قوله: كيف أتيتم إذن إلى هنا، وكيف قطعتم هذا الفضاء الفسيح... فقصصنا عليه ما حدث لنا، عندئذ راح يروي لنا قصته، وهي أنه كان هو كذلك رجلاً مثلنا يدعى أنديميون وقد انتزع من أرضنا وهو راقد، وحين بلغ هذه البلاد أمسى ملكاً. وروى لنا أن البلاد التي نراها في الأسفل هي القمر، ومن ثمّ حثّنا على الثقة به، وأننا لن نتعرّض لأي خطر، وسننال كل ما نحتاج إليه".(12) ومن اللافت أنه يصف كوكباً شبيهاً بالكرة: "وفي اليوم الثامن شاهدنا في الفضاء أرضاً فسيحة، تشبه جزيرة كروية الشكل لامعة، ينيرها ضوء شديد، فدنونا منها وألقينا المرساة، وهبطنا إلى اليابسة، وما إن أمعنا النظر حتى ألفينا البلاد آهلة بالسكان مزروعة".(13) ومن هنا يظهر بأن "هذه الفكرة بحد ذاتها تعتبر ثورة حقيقية فهل سبق خيال لوقيان كل علماء زمانه وزمان من تلاهم بالإيحاء بكروية أو دائرية الأرض، وهل كانت فكرته هذه أم كانت من الأفكار المتداولة في زمانة أم أنها كلمة قالها دون أن يعي أبعادها؟"(14) ولا يغادر المجموعة الشمسية، بل يبقى في إطارها حين تتجهز الجيوش لغزو "نجمة الصبح" كوكب الزهرة، ومن اللافت أنه يذكر تزودهم منها بالماء الذي لم ينفد حتى مسافة طويلة قطعوها بعيداً.
وترد لديه تارة بعض الرموز المعروفة مثل ساجيتار في منطقة البروج الفلكية، الذي يكون نصفه حصاناً ونصفه إنساناً، "لقد كان المنظر عجيباً غاية في الدهش عند رؤيتنا تقدم تلك الغيلان، التي نصفها إنسان ونصفها الآخر حصان، وجسم الإنسان منها أكبر من جسم تمثال رودس ورأسه، وحجم الحصان منها كحجم سفينة تجارية كبيرة، أما عددها فلن أفصح عنه بشيء، مخافة ألاّ يصدقوني لكثرة هذا العدد. كان يقودهم "ساجيتار"(منطقة البروج)"(15)، وبعض الرموز الجديدة من مثل "الأنيمودروم" الذين يرتدون قمصاناً تتدلى حتى الكعب وتنتفخ فتطير بها هذه الكائنات! "أما الأنيمودروم فهم المشاة، يتحرّكون في الفضاء بلا أجنحة، فيطيرون بواسطة قمصان تتدلّى حتى الكعب، فيرفعونها لتمتلئ بالهواء، كما لو كانت أشرعة، وعندئذٍ يشقّون أجواز الفضاء كالمراكب، لأنهم يمثّلون عادة بعض النجوم المطلّة على قبادوس التي ستنضمّ إلى هذه المجموعة".(16) وهذا مطابق لوصف "سوبرمان" الذي سكن الخيال العلمي وأفلام السينما قبل عقود قليلة من الزمن.
كما يتحدث لوقيان عن قوم يمتلكون عيوناً يمكن انتزاعها "إن لهم عيوناً يمكن انتزاعها، وفي ميسورهم وضعها جانباً متى شاؤوا، ثم إعادتها كلما رغبوا في رؤية الأشياء، وعند ذلك يعيدونها إلى الحجرة فيرون. وكثيراً ما يستعيرونها من جيرانهم إن فقدوها حتى يروا بوضوح، ويصحّ أن يكون لبعضهم بخاصة الأغنياء، عيون جمّة احتياطاً".(17)، بما يشكل تصوراً بدئياً لفكرة النظارات أو العدسات اللاصقة لاحقاً، وهي لم تكن قد وجدت أو اخترعت في ذلك الحين. ومما سبق به أفلام الخيال العلمي، صورة الأخطبوط الذي يتم استخدامه في الحروب وإطلاقه باتجاه السفينة الشبيهة بالجزيرة فيحيط بها بأذرعه معيقاً تقدمها وحركتها في المياه، وقد بات الأخطبوط وما شابهه من الكائنات المتخيلة التي تمسك بالخصوم وآلياتهم من النماذج الشائعة في أفلام الخيال العلمي والحركة، من قبيل فيلم "Edge of Tomorrow" الذي أنتج عام 2014.
ومن الملحوظ في هذا الإطار في "قصة حقيقية" على صعيد البناء السردي، أن كل لقاء مع أقوام جدد ينجم عنه قتال، أو مشاركة في القتال، أو محاكمة، أو حالة عدائية في أبسط الأحوال، وهذا ما سيرد بتفصيل في هذا البحث تحت عنوان "المخيف"، وهو أيضاً من السمات البارزة في العديد من منتجات فن الخيال العلمي أدباً وأفلاماً سينمائية في عصرنا الحديث.
إن أحد المؤلفين يخرج لوقيان من دائرة السباقين في أدب الخيال العلمي، ويقصر هذا الأدب على عصورنا الحديثة، ولعلّه افتقد الدقة حين أخذ تصريح لوقيان بكونه كاذباً على محمل الجد، لا المجاز الساخر كما هو معروف: "من المستظرف عند محاولة كتابة تاريخ الخيال العلمي، الانتساب إلى أسلاف ذوي اعتبار، على الأقل بالنسبة للأقدمية... وهكذا فـ لوقيانوس السمسوسطائي (التاريخ الحقيقي) يعتبر أحد أول مبتكري التخيل الاستباقي... إن في هذا استخفافاً بالناس... فـ لوقيانوس لاحظ الكذب دون انقطاع عند ادعاء قول الحقيقة فقرر أن يعلن بصوت عال كذبه: وبالتالي (فتاريخه الحقيقي) ليس فقط كذباً بقلب المعنى ولكنه باعتباره لنفسه كاذباً، أبعد التوهم الروائي الذي لا ينفصل عن أي تخيل أدبي".(18)
ولعل من عناصر الخيال العلمي لدى لوقيان حرصه على ربط الأفكار والأمكنة بالزمن المحدد بدقة، فيقول "في اليوم الخامس من الشهر التاسع"، أو ينص على أن قوماً مكثوا في الحوت سبعاً وعشرين سنةً. ولا يخلو من تصورات لكائنات غير مرئية إلا بصعوبة حين يذكر أشخاصاً ليست لهم أجساد بل هم هيولى مرئية، لا يهرمون، بل يحتفظون بالعمر الذي كان لهم حين دخولهم إلى المكان العجيب. وهذا ما يشبه مفاهيم قبعة الإخفاء، أو الرداء السحري. "في أحد المؤتمرات الروائية العربية، وكنت ـ خيري الذهبي ـ قد ألقيت محاضرة تحدثت فيها عن الكاتب الروائي السوري العظيم لوقا، أو لوقيانوس السميساطي، وقلت فيه إنَّ لوقا في روايته المبكرة (قصة حقيقية) قد ابتكر الأخيولات (الفانتازيات) التي سيستعيرها مؤلفو ألف ليلة والملك سيف، وعجائب المخلوقات مثل طائر الرخ العظيم وبيضته بحجم القبة، والحوت العملاق حتى ليظن البحارة حين يرون جزيرة نبتت عليها الأعشاب أنها جزيرة، فينزلون عليها ويشعلون ناراً فتهرب الجزيرة بتأثير الحريق، ليكتشفوا أنها حوت، و... الأشجار التي تحمل ثماراً من نساء إلخ".(19)
3 ـ الكوميديا:
تتميز الكوميديا لدى لوقيان بنبرة من السخرية، فهو لا يترك الموضوع الكوميدي، سواء أكان شخصاً أو مظهراً محسوساً مدركاً أو سلوكاً بصيغة المضحك فقط، بل ينفذ إليه بنظرة الناقد الذي لا بد له من أن يدلي برأي خفي يلوح على سطح السطور؛ "كما لم تكن الغاية من الكوميديا دائماً مجرد إثارة الضحك، تصيداً لمتعة الجماهير أو استعباطاً لهم. ذلك أن تعمد الإثارة ـ كما يرى أرسطو بحق ـ يعتبر عيباً في الكوميديا، أو نوعاً من الهبوط ببعض جوانب الطبيعة البشرية إلى مستوى دنيء، على غير مرض فيها... إن الكوميديا تهتم بالانحرافات التي تصدر عن حماقة، وتشغل نفسها بالأعمال التي تخرج عن السلوك الاجتماعي".(20)
أ ـ كوميديا الأشخاص:
يشير لوقيان بصراحة إلى بعض الأدباء الذين يصفهم بأنهم مزجوا الأعاجيب والخرافات في أعمالهم، سواء أكان الأدب أو التاريخ وغيره، ويشير في الوقت نفسه إلى المتلقين الذين يصفهم بالسذّج لأنهم يصدّقون ما يرويه هؤلاء الأدباء ويذكر منهم "هوميروس" الشاعر القديم اليوناني، ساخراً من سيرة بطله "عوليس". كما يتهم الفلسفة أحياناً كثيرة بنشرها الأكاذيب بين الناس وتضليلهم بمزج البحث عن الحقائق مع إقرار الخيال والأوهام. فهو يصور كلاً من "سقراط" و"إيزوب" و"ديوجين" في إحدى الجزر على أنهم كانوا فكهين في إحدى جلسات السمر التي خلت من "الكلبيين"، ويبدو أنه كان مسروراً بذلك لرغبته في البعد عن التصنع والاندفاع نحو رغد العيش والنعيم. كما أنه يسرد حديثه الفكه مع "هوميروس"، ويصف "فيثاغورس" الذي وصل إلى المكان بعد أن تقمص سبع مرات سبعة أجساد، ويتطرق إلى هرقل وأحفاده وآخيل، وغيرهم. فمن الخيال الواسع تَصوُّر كل هؤلاء الشخصيات في مكان واحد، عدا الحديث إليهم وتصويرهم بما يشبه حفل كوكتيل يجمع أطياف الفلسفة والأدب.
ثم إنه يقول بأنه في إحدى محطات رحلته وجد في الجحيم كلا من "هيرودوت" و"كتيزياس"؛ "وقد خُص بأقسى العذاب من اقترفوا بعض الأكاذيب في حياتهم، والمؤرخون الذين شوهوا الحقيقة، ومن بين هؤلاء ثمة كتيزياس وهيرودوت وكثير غيرهم. وحين شاهدتُهم ازددتُ يقيناً بالمستقبل، إذ كنت واثقاً بأني لم أكذب البتة".(21)، وكأنه يسبق المعرّي ودانتي في مثل هذه التصورات عن عالم آخر فيه من ينعم في "جزيرة الآلهة"، ومن يعاني في الجحيم. فـ"الكاتب السوري الكلاسيكي الكبير لوقا من سميساط أو بصيغته اليونانية لوقيانوس، هذا الكاتب الذي ترك لنا أكثر من ثمانين كتابا، منها الكتاب الوحيد عن الأكروبول السوري المسمى «الربة السورية»، ومن هذه الكتب الرواية الأولى ربما عالمياً والتي أسماها «قصة حقيقية» والتي يمكن افتراض أنها الأم المباشرة لرسالة الغفران للمعري في الحديث عن رحلة إلى السماء وحوار مع الشعراء ومجادلتهم وتأييد بعض أقوالهم ورفض البعض الآخر. وليس هذا بعجيب، فقد كانت المسافة الجغرافية بين أنطاكية العاصمة السورية السابقة، وبين المعرة لا تتجاوز السبعين كيلومتراً، وكانت المسافة الزمنية بين القرن الميلادي الثاني، زمن لوقيانوس، وبين زمن المعري هي سبعمئة سنة، ولم يكن الزمن متسارعا كهذه الأيام، فكان التأثير والتبادل الثقافي ملحين، وهناك في سيرة المعري الإشارات الكثيرة إلى تعلّم المعري اليونانية وثقافتها في أنطاكية. لوقيانوس، والذي وضع في روايته المبكرة المتيفات الأولى للفانتازيات التي سنراها في ألف ليلة، وفي سيرة الملك سيف، وفي عجائب المخلوقات للقزويني. سنرى طائر الرخ العملاق وبيضته بحجم القبة، ولكن لوقيانوس سيسميه الأليسون. وسنرى أشجار الكرمة التي كان جذعها الأسفل جذوع كرمة، أما النصف الأعلى منها فهو لنساء خارقات الجمال اللواتي كن يتمايلن مع الريح ويغنين داعيات البحارة المنقطعين إليهن باللغة اليونانية والليدية".(22)
ومن الأشخاص المثيرين للسخرية الملك الذي يلتقي به لوقيان في إحدى الجزر، فهو يزعم بأنه كان مثلهم من سكان الأرض، ولكنه انتزع منها على حين غرة، ووصل إلى الجزيرة فصار ملكاً عليها! ويمعن في التصورات الساخرة حين يروي لوقيان خلاف الملك وأهل بلاده مع "فايتون" ملك سكان الشمس. فقد يكون من الممكن المتخيل تصور حياة ما على الكواكب البعيدة أو القمر، أما الشمس فهي مرئية بالعين وهي كتلة من اللهب، فأين الحياة عليها؟
ومن المتوقع بأن لوقيان وأصحابه عرضة لمواقف كثيرة في طريق سفرهم، غير أن من المفارقات أنهم كادوا يقعون أسرى لدى أحد الأقوام، لولا أن المعاهدة تشملهم بوصفهم مسافرين من المكان الذي انطلقوا منه، وقد أنقذهم ذلك في اللحظات الأخيرة. ولعل من أبرز مظاهر الكوميديا القناديل التي كانت تسبح في مدينة القناديل، فمنها الصغير ومنها الكبير، ولكن المضحك هو أن لها أسماء كالرجال، وسوف يكتشف لوقيان وأصحابه أنها تتكلم ولكل منها قصة، فالمفارقة هنا هي أنها رمز للأشخاص، ولكنها لا تمتلك القرار والقدرة على إثبات شخصية متميزة لنفسها.
ثم إن لوقيان يحظى وهو في جوف الحوت الذي يبتلع سفينتهم، بلقاء شخص مسالم، يدله على أعداء قريبين منهم قائلاً: "ثمة الكثير وهم يكرهون الضيفان، وأشكالهم غريبة، فثمة في الجانب الغربي من الغابة أي في طرفها، تقطن جماعة من الـ"تاريشان" (المالحون) ولهم عين الحنكليس ووجه السرطان، وهم محاربون عتاة، لا يأكلون إلا اللحم النيئ"(23)، إن من المفارقة وجود جوف حوت يحتوي حياة كاملة ومئات من الأشخاص، وهم على عداوات فيما بينهم بدلاً من التعاون للخروج من حالهم.
ولا تخلو أسماء الشخصيات من إيحاء ضاحك، كما في شخصيات المتحاربين، الذين لا ندري بالفعل من أين علم لوقيان بأسمائهم، فمنهم "إيلوسانتور: الرجل الحصان"، و"ثلاسوبوتس: شارب ماء البحر"، وهما يتبادلان الشتائم مع خصومهما. كما تبرز الصورة الكوميدية حين يكون لوقيان وغيره من البشر حبيسي جوف الحوت، ويظهر من بين أشداقه في البحر عمالقة يتحاربون، الأمر الذي يؤخر نيتهم في الهرب من الحوت.
ويبلغ لوقيان ذروة من الفكاهة حين يتم طرده مع رفاقه إثر اشتراك ثلاثة منهم في خطف "هيلانة" من الجزيرة، وحين يخبرنا لوقيان بأن "هوميروس" قد كتب له شعراً: "وفي بكرة الصباح، التقيتُ بالشاعر هوميروس، فرجوته أن يسجِّل لي بيتين من الشعر فلبى رجائي. عندها أقمتُ في الميناء عموداً من حجر الزمرّد، نقشت عليه بيتي الشعر التاليين: آب لوقيانوس الذي يعزّ على الآلهة السعداء إلى وطنه بعد أن شاهد هذا البلد"!(24)
ب ـ الحيوانات المضحكة:
تغلِب الكوميديا في وصف الحيوانات بأشكالها المضحكة، واستعارتها للخضار والنباتات لتظهر على نحو ساخر، بحيث تختلف علاقات الكائنات من ناحية المظهر، فها هي ذي شخصيات مقاتلة تمتلك أجنحة خضرية، وهي مكسوة بالخضار وتستخدم ورق الخس بوصفها أجنحة، ورماحاً من قصب الذرة، وتتسلح برؤوس الثوم، كما نرى قوّاسة البراغيث، وعدائين فوق متن الرياح، وبراغيث ضخمة حجم الواحد منها يعادل اثني عشر فيلاً. وبعضها يستخدم الفطر تروساً، وسوق السبانخ سهاماً. وثمة كلاب ضخمة تحارب فوق بلوط مجنح، كما أن حمير الجيشين المتصارعين كانت تنهق ويتم استخدامها بدلاً من الأبواق!
إن هذا الوصف يقرن الحيوانات بالنباتات ويقلب الوظائف الطبيعية المألوفة لكل منها، فبعض الناس كانت آذانهم من ورق الدلب أو الخشب، وعلى الرغم من أن المعركة تبدو مضحكة وغير ذات ضرر، فإنها تسبب الأذى والهلاك لبعض المحاربين وتجبرهم فيما بعد على عقد صلح من نوع ما.
ويسخر لوقيان من أحد الشحارير واصفاً إياه بأنه الشحرور الذي مرّ بخاطر "أرستوفان"، ثم يعود لوصف جماعات من الناس يعيشون داخل حوت في عرض البحر، بعضهم لا يأكل إلا اللحم النيئ، وآخرون أجسامهم غريبة، القسم الأعلى منها بشر والأسفل سيوف، بما يتناسب مع حماستهم للقتال وعدوانيتهم تجاه الآخرين، وهم يقاتلون بحسك السمك. وتتغير الأوصاف بحسب موقع الكائنات الغريبة، فما هو داخل الحوت مختلف عما هو خارجه، من في الداخل يحتاج إلى أسلحة، أما من في الخارج، فلديهم أقدام من الفلين، ووطنهم هو جزيرة تسمّى "فيللو"! وآخرون يمتطون دلافين تصهل وتقفز كالخيل، أو قراصنة يركبون فوق اليقطين، وبحارة يمتطون الجوز، وغيرهم ممن يسكن مدينة فخمة، يرتدون ملابس من خيوط عنكبوت أرجوانية اللون.
إن الكوميديا الساخرة هنا تنتقل من الشدة والهجوم، إلى الدفاع والهرب أو التلاؤم مع البيئة، إلى الرفاهية في العيش إلى درجة أن العنكبوت يغدو بخيوطه صالحاً لإنتاج الملابس. ولا يفوّت لوقيان فرصة السفر الأخير له مع رفاقه حتى يصف الإوزة الخشبية التي على المركب، فلم يكتف بأنها صارت على قيد الحياة، بل إنها صارت تصرخ وتصيح. فقد أخذ لوقيان من سمات الحيوانات الحركةَ والحيويةَ، وأضفاها على كل من يتوافر له سبب ليكون كوميدياً ساخراً يبين المفارقة بين القوم الأرضيين، وغيرهم من الأقوام المتخيلين بالخيال الذي ليس له حد. وهو هنا يتحدى أفهام الناس، وإلى أي درجة يمكن للخيال أن ينافي الواقع فلا يمكن تصديقه، على الرغم من البناء المنطقي الممكن للسفر والمحطات، وغير المنطقي لمحتوياته.
جـ ـ غرائب السلوك:
تمتلئ تصرفات الشخصيات وسلوكها بالغرابة، سواء في معناها أو في أدواتها، فها هو ذا لوقيان وأصحابه قد وقعوا في الأسر، فتمّ تكبيل أيديهم بخيط عنكبوت، كما تم تقسيم الفضاء بجدار من الغيوم حتى لا يصل نور الشمس إلى سكان القمر. إن عناصر الطبيعة تصبح طيّعة، كالغيوم، وذات مواصفات مخالفة لطبيعتها الأساسية كخيط العنكبوت. كما أن صفات سكان الشمس والقمر الذين وقّعوا على معاهدة مشتركة بينهم تبدو مضحكة وهي تعبر عن انتمائهم، كـ ابن الملتهب والملتهب والصيفي، من سكان الشمس، والظلام والشهري والمشعّ، من سكان القمر. المفارقة هي أن أسماءهم تخضع لمعايير أهل الأرض.
ويَبرز السلوك الشخصي للكائنات العجيبة، كما هم سكان مدينة القناديل، فهم ليسوا أشخاصاً، بل قناديل منها الصغير ومنها الكبير، غير أنها تتكلم، ويُغرق لوقيان في الخيال حين يقول بأنه اكتشف أن أحد هذه القناديل هو قنديل بيته، فأخذ يجاذبه الحديث، ويحصل منه على أخبار بيته وأسرته. وكان لوقيان قد مرّ بمدينة حصل منها على هدايا من مصنوعات أهلها، ملابس من الزجاج وغيرها من النحاس، وقد دعا من لا يصدقه إلى زيارة هذه المدينة بنفسه. كما أنه زار مدينة أخرى أتيح له ولأصحابه فيها زمن محدد يتقاسمون فيه حياة سكانها من الأبطال. إنه هنا يتطفل على حياة الأبطال، ويحصل على نعيم ليس أهلاً له بالضرورة، ولكن المصادفة هي التي قادته إلى ما لا يتحقق إلا بالخيال، ومنه أن جوائز المباريات كانت أكاليل من ريش الطاووس. ومن السلوكيات الغريبة في المعارك، تراشق الخصوم بالإسفنج الغليظ والسبيدج وعيون السراطين، وأولئك الأبطال الذين يوثقون المراكب بحبال من ورد، ويستخدمون سوطاً من الخبيز.
أما الأحلام التي يتفاوت الناس في رؤيتها، فيصورها لوقيان على أنها كائنات مرئية، منها المزركش المجنح الذي سبق لهم رؤيته في بلادهم، وقد تمكن لوقيان وأصحابه من رؤية أوطانهم وأهلهم وأصدقائهم، ثم أعادتهم الأحلام إلى واقعهم وسفرهم في اليوم نفسه. وهنا يظهر حرص لوقيان على وصل الواقع بالخيال، من خلال الإشارة إلى الأهل والوطن الأرضي، مقابل العالم الخيالي الفضائي العجيب.
د ـ سخرية المكان:
يشكـّل المكان في رحلة لوقيان مسرحاً للأحداث، وهو ليس غريباً في ذاته، وإنما بحسب ما يضفيه عليه لوقيان من مكونات تجعله مثيراً للتساؤلات والتأمل، والكوميديا التي تنبع من مفارقة المكونات التافهة لجلال المناسبة وجدية الحدث، فها هو ذا نُصب تذكاري فوق خيوط العنكبوت تارة، وآخر مصنوع من فقار دلفين تارة أخرى، والمشاة الذين يقاتلون فوق الغيوم قتالاً جوياً، والرحالة الذين ينزلون للتزود من كوكب الزهرة "نجمة الصبح" بالماء. ويبلغ الخيال الخصب مبلغاً عجيباً حين يصرف لوقيان قارئه عن فداحة المصيبة بدخول سفينتهم جوف حوت، إلى كوميديا المكان الذي اكتشفوا أن في وسطه أراضي وروابي وحتى نوارس! فضلاً على احتوائه معبداً لبوسيدون ـ إله الماء ـ وبعض الأضرحة ونبع ماءٍ صاف، فأي حوت هذا!
وحين يصل لوقيان إلى جزيرة الأحلام يصفها على نحو كوميدي ساخر، فهي تشبه الأحلام نفسها، كلما دنوا منها ابتعدت عنهم، ولا يكتفي بهذا، بل يعرّف قارئه ببعض أبرز المعالم السياحية في الجزيرة، حيث مرفأ النعاس، ونهر المستكين، ونبع الذي لا يستيقظ، والنائم طول الليل، ومعبد الليل، وقصر النعاس، وبحيرة الكرى، ومعبد الحق، ومعبد الباطل، مما يبعث النعاس في من يقرأ هذه العبارات. أما المظهر الخارجي، فيتفق وصفات الأحلام، الباب الحديدي أو باب الآجر هو مدخل إلى الأحلام المخيفة، أما باب قرن العاج فهو يحيل إلى البحر والميناء: "وليس للمدينة على حد قول هوميروس بابان، بل أربعة أبواب، اثنان منها يطلاّن على سهل موليس أحدهما من حديد، والآخر من آجر، وقيل إن الأحلام تنبعث منهما مخيفةً مُدمّاة قاسية. أما البابان الآخران فيطلاّن على الميناء والبحر، وصُنع الباب الذي ولجناه من قرن، وصنع الثاني من العاج"(25) ولا تتخلف الشخصيات المميزة التي تسكن الجزيرة عن الأوصاف المضحكة المتأثرة بعواقب الأحلام، فهناك المعكّر، وابن الغرور، ومجد الغنى، والمتنبئ، وشخصية النبي مفسّر الأحلام، "وهي مهمة غاية في الجمال منحه إياها النوم"(26)، فكل شيء ممكن اكتسابه مادام صاحبه في عالم من الحلم.
إن العديد من الأمكنة كالحوت وجزيرة الأحلام، لا تخلو من معبد أو من نصب تذكاري، وهذا ما يعزز أهمية المنجز الإنساني والطقس الجماعي في تواصل الإنسان مع إنجازاته وانتصاراته، أو طموحاته المستقبلية وآماله التي يرجو تحقيقها كل يوم.
ويختتم لوقيان احتفاءه الخيالي بالمكان ساخراً حين يقول بأنهم أبحروا فوق غابة من الأشجار برزت لهم فجأة في البحر، مستشهداً بقول أحد الشعراء: "وإذ راحوا في الغابة يبحرون".
4 ـ الجميل:
للجميل تجليات عديدة يظهر من خلالها، إبداعاً وتلقياً ومعايشة، أما الجمال الذي يلتفت إليه لوقيان في "قصة حقيقية" فيرتبط على نحو واضح بمفهوم الرفاهية، فما ترتاح إليه شخصيات قصته بعد طول رحلة، أو عناء المعارك، يتمركز في المكان الفخم، والأدوات الثمينة، والأطعمة والمشروبات الفاخرة، وكذلك في أنماط الصلات بالآخرين، القائمة على الدعة والسلام والراحة. إذ "يمكن تعريف الجمال بأنه إدراك أو فعل يوقظ فينا الحياة في صورها الثلاث معاً (الحساسية والعقل والإرادة)؛ والشعور السريع بهذه اليقظة العامة يولد اللذة الجمالية... إن اللذة أساس الجمال" مع الإشارة إلى أن اللذات متداخلة بين الصور الثلاث السابقة، ويصعب وجود إحداها منفردة.(27)
أ ـ رفاهية الغذاء:
يُغرق لوقيان في الخيال، فيجمع أقصى ما يمكن من متع الطعام في مكان واحد، يكتشفه المسافرون أو يحطون رحالهم فيه، فثمة أشجار ضخمة من الكرمة، "ألفيتُ جذوع أشجار ضخمة من الكرمة، ملأى بالعناقيد، تسيل من جذور كل شجرة قطرات من الخمر الصافي، فتؤلّف بمجموعها النهر"(28)، وخمر تحتويه جزيرة الأشجار، ونوعان من الأسماك، أسماء الخمر وأسماك الماء، التي تؤكل جنباً إلى جنب. وتظهر في مرحلة أخرى من السفر بعد عدة محطات جزيرة غريبة فيها خمر وحليب، وتأتي أهمية هذه الجزيرة جمالياً في أنها مفارِقة لحالة الجليد الذي كان يهدد السفينة العالقة فيه بركابها، وقد تمكنوا من الإبحار بعد أن اشتد القيظ وذاب الجليد.
ومن اللافت أن لوقيان وأصحابه لا يخططون لوجهة رحلتهم، بل إنهم يسيرون في الاتجاه الذي يخمنون أنه سيقودهم إلى برّ أمان، وتعود الكرمة للظهور في إحدى محطاتهم، حيث يجدون لها اثني عشر موسماً، أما باقي الأشجار المثمرة فلها عدة مواسم خلافاً لما هو معروف طبيعياً عن موسم سنوي واحد لأغلب أنواع الفاكهة والمحاصيل، فهنا يعثر المسافرون على نعيم مقيم، والغذاء الوفير، فللتفاح ثلاثة عشر موسماً، وللسنابل في أعلاها رغيف يشبه الفطر، مما يعني الراحة من عملية الخَبز، وتقديم كل شيء جاهزاً للآكلين، وينابيع من عسل وخمر وماء.
ب ـ فخامة المظاهر الخارجية:
يتميز المكان المصوّر في "قصة حقيقية" بالبذخ والفخامة، وجمال المنظر، فمن المعروف أن جزءاً من جمال المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، يكمن في ندرتها، والجهد المبذول في سبيل الحصول عليها، وهذه الندرة تجعلها مختلفة عما حولها من اليومي المكرر الذي يستهلك ذائقة الإنسان، ويكمن كذلك في جودتها التي تجعلها تصمد أمام تغيرات الزمن والطبيعة، فلا تصدأ أو تتآكل أو تتفتت بسهولة. "فالجمال هو ما يميز هيئة بعينها، سواء أفي حالة السكون أم الحركة، بصرف النظر عن تكيف هذه الحالات مع تلبية الحاجات... غير أن الجمال لا يمكن لغير الشكل أن يعبر عنه".(29)
ومن مظاهر الجَمال الطريفة التي ترد في أسلوب كوميدي، الجزية التي يؤديها أهل القمر إلى سكان الشمس، وهي عشرة آلاف قارورة ورد، كما أن أغنياء إحدى المدن كانوا يرتدون الزجاج الليّن، في حين يرتدي الفقراء النحاس المنسوج. إن من الممكن تصور قوارير الورد وإن كثرت بعدد مهول، أما ملابس الزجاج اللين والنحاس المنسوج، فهي بعيدة عن الواقع، تسكن في الخيال، وإن كنا نقرأ أحياناً في باب أخبار الطرائف العلمية محاولات اختراعات من هذا النوع. ويبدو الزجاج هو الجميل بخفته وشفافيته ولمعانه الصافي، مقابل النحاس ذي اللون الخافت والوزن الأثقل والإيحاء بالجمود.
إن المدن الجميلة التي يحظى لوقيان وأصحابه بزيارتها تتمتع بطقس جميل ومريح، فهي تارة ذات نهار كالشفق، وفصل واحد هو الربيع الخالد، ولا يسري فيها سوى النسيم العليل، وتارة بلاد وصفها بأنها تشبه "العربية السعيدة"، بما فيها من ريح شمأل هانئة، وروائح الغار والكرمة الطيبة. أما إحدى المدن فشكلها يشبه الأساطير وهي حقاً قطعة من الخيال، كلها من الذهب، ذات جدار من الزمرد، وسبعة أبواب، مصنوعة من القرفة والعاج وحجر الزبرجد والجمست، وتحتوي على الندى بدلاً من الماء.
جـ ـ الخوارق المعرفية:
حفلت الأماكن المأهولة التي زارها لوقيان وأصحابه المسافرون معه بالغرائب، وهي بغرابتها تثير الدهشة الممزوجة بالكوميديا الساخرة، لأنها بعيدة جداً عن الواقع، ومن شأن تجسدها واقعاً حياً أن يحل مشكلات عديدة، أو أن يتسبب فيها. ففي أحد الأماكن ثمة مرآة فوق بئر، بالمرآة يرى الإنسان الشعوب، ومن البئر يسمع ما يقال على الأرض ـ بما أن الرحلة كلها مكانها الفضاء. أما الأحلام فهي سمة شائعة لدى البشر، غير أنها تغدو مجسّدة على شكل مرئي في جزيرة الأحلام، حيث هناك أحلام ذهبية طويلة وناعمة وعذبة تبعث على السرور. وأخيراً فإن نهاية الرحلة تهدد المسافرين بالغرق لولا إجادتهم نشاطاً مهماً ألا وهو السباحة، التي أنقذتهم من الغرق، وبقي من يروي لنا رحلتهم.
5 ـ المخيف:
يتمحور المخيف في "قصة حقيقية" بكل ما يتعلق بالإنسان، وعلى نحو أدقّ بحركته مسافراً أكثر منه مقيماً، ففي حين تَرَكّز الجمال في الإقامة بالأماكن المريحة، يتجلى الخوف فيما عدا ذلك من الخوض في المجهول بكل ما فيه. ومن الملحوظ أن كل جمال في الرحلة يعقبه خوف، لا العكس.
أ ـ مخاطر السفر البحري:
منذ بدايتها، يلوح الخوف في أفق الرحلة، فالرحلة البحرية تحتاج إلى ملاّح بارع، ومثله يتطلب أجراً عالياً، وهذا ما قام به لوقيان حين عثر على الملاّح. ثم إن التشويق من ضرورات القصص، وهكذا فإن المسافرين قضوا تسعة وتسعين يوماً في عرض البحر، كانت كافية لإحساسهم بالمجهول الذي هم ذاهبون إليه، وأنهم ـ على الأغلب ـ لن يصلوا إلى ضفة أخرى، بل إلى مكان آخر فضائي عجيب!
إن قصصَ الحوت الذي يمكنه ابتلاع البشر قديمةٌ في المخيلة البشرية، وهذا ما سار عليه لوقيان في نهج قصته هذه، ولكنه أضاف إليها المزيد من الخيال، فلم يتوقف عند الروايات المعهودة، وبدلاً من أن يحكي عن جزيرة على ظهر الحوت، روى لنا حوادث عن حوت ابتلع سفينته أثناء رحلتها، وفي جوف الحوت، عثر المسافرون على العديد من بقايا السفن الأخرى، وبقايا الحيوانات، والعظام البشرية، وضمن هذا الجو المخيف، لا ينسى لوقيان أن يضع لقصته بعض الضوابط السردية، فهو يقول بأن الحوت كان يفتح فاه مرة كل ساعة، وهذا يفسّر للمتلقي إمكانية توافر الهواء الصالح للتنفس والذي يُُبقي الناس في جوفه على قيد الحياة، ويفسّر أيضاً وجود الأشجار ونموها في ذلك المكان الغريب. إن الخوف يهاجم الوافدين الجدد إلى الحوت، من خلال الملاحظة حيناً، عندما يعلمون أن هنالك عشرة آلاف نسمة يشاركونهم هذا الحيز الواسع، ومن خلال أقوال سكانها حيناً آخر، "يبدو لنا أننا موتى بينما يخال أننا أحياء"، وما يسمعونه من حكايات وصولهم، فأحد السكان كان قبرصياً متوجهاً إلى إيطاليا، ولكنه كان على أعتاب صقلية حين هبت العاصفة وابتلعه الحوت، وقد مرت عليه سبع وعشرون سنة!
ولا تقتصر الأهوال على الأمكنة الداخلية كالحوت، بل تطاردهم إلى خارجه، حيث وجدوا جزراً مستطيلة الشكل عليها عشرون عملاقاً يجذفون بأشجار الحور كاملة! إن العملاق هو تَصور للإنسان ولكن بحجم كبير، مما يعمّق الخوف منه، فهو الشبيه في الشكل الأقوى في الطاقة والبطش، أما الجزر المستطيلة، فهي مفارقة للشكل الدائري أو البيضوي المألوف للجزر، فضلاً على كونها عائمة على سطح الماء، ويتم التجذيف بأشجار الحور، إنها مخيفة لأنها أشجار طويلة وثابتة في الأرض، فإذا بها تقتلع من مكانها وتغدو أشبه بسلاح فتاك.
كما أن المصاعب تلاحقهم، فبعد هربهم من الحوت وخوضهم الرحلة، إذا بالجليد يعيق حركتهم فيضطرون إلى النزول من المركب والهرولة فوق الجليد والنزول في حفرة، وسوف تتكرر الحفرة في نهاية الرحلة لتشير إلى مكان يبدو ملاذاً آمناً من مصائب الطريق، ولكنه سينطوي على خطورة أخيرة يتخطونها في سبيل النجاة. وتظهر مجدداً الأماكن المخيفة فثمة أراضٍ مخصصة للسجن، مليئة بالأشواك والصخور الوعرة المسننة، تخلو من الماء والشجر، أنهارها طين ودم ونار، وإن توافرت فيها الأسماك، فهي كالحطب والجمر. إنها صورة لجحيم في جزر خمس مخصصة للكفار، ويستبق تصورات "دانتي" المشهورة في "الكوميديا الإلهية"، وهي مقابلة لنعيم الجمال الذي عاينه المسافرون في مراحل أخرى من قصتهم.
ب ـ المسوخ الخادعة:
كثيراً ما يرد المخيف في رحلة لوقيان على هيئة خادعة تتكرر في بداية الرحلة وفي نهايتها، ففي مطلع الرحلة، عثر الرحالة على جزيرة فيها أشجار كل شجرة بهيئة امرأة جميلة، وكل امرأة تتحدث عدة لغات كالليدية والهندية، ولكن ما إن يقترب منها أحد المسافرين حتى تمسك به وتحتجزه، كما حصل مع الصديقين اللذين تحولا إلى شجرتين. أما في ختام القصة، فكان ثمة نساء عُرفن بكونهن نساء البحر اللواتي يتحدثن اليونانية ويعانقن البحارة، ولكن ما لم يعرفه لوقيان وصحبه هو أنهن يظهرن بهيئات مختلفة، كالخبازة التي استضافت لوقيان في بيتها، وأنهن يفترسن الغرباء. لقد تمكن لوقيان من كشف حيلتها حين اكتشف ملمحاً يشوّه جمالها الظاهري، ألا وهو حافر الأتان الذي برز في موضع قدميها، وآثار الجماجم البشرية والعظام في المكان: "كنت أرمق ما حولي حذراً، فرأيتُ الكثير من العظام والجماجم البشرية ملقاة أرضاً. كان في ميسوري أن أصرخ، داعياً رفاقي، وأن أهبّ للسلاح، بيد أن هذا الرأي لم يرق لي. فتناولت الخبّازة ورجوتها أن تنتشلني من المصائب التي كانت تتهددني. وبعد قليل، وبينما كانت مضيفتي منهمكة في خدمتي، لاحظتُ أن ليس لها أقدام نساء، بل حافر أتان"(30)، فنجا بجلده، وقتل المرأة بعد أن تحولت إلى ماء، إذ تحول الماء بعد أن طعنه إلى دم.
إن القارئ قد يُجتذب بالغرابة والأحداث العجيبة التي تجري مع لوقيان، غير أن من يعايش الحدث نفسه يعاني من الخوف الذي ينتقل جزء منه على الأقل إلى المتلقي. وثمة حالات "يبدو فيها أن القيمة الجمالية تنشأ عن الإيحاءات بالشر، وهي الحالات الكوميدية وحالات الأمساخ... فكمال الكوميديا في أنها تغرينا بالتجوال في مسلك فرعي من مسالك الخيال وسط مناظر غير مستحيلة في جوهرها وإن كنا لا نتصرف في الواقع على غرارها بسبب ظروف حياتنا الثابتة".(31)
أما الكائنات والوحوش الأخرى المخيفة، فهي تلك التي وقع المسافرون في أسرها أحياناً، كما هي وحوش الـ"هيبوجيب" التي تمتطي العقبان التي لها ثلاثة رؤوس كأنها أحصنة. وتحضر العقبان أيضاً حين يصف لوقيان حجم الطائر في البيضة الشفافة التي كسروها، فهو فرخ أزغب بحجم عشرين عقاباً، أما الطائر نفسه فهو يدعى الـ"أليسون" وهو ضخم جداً يثير الرعب بسبب طيرانه العنيف الذي يولد الرياح العاتية التي تكاد تغرق السفينة من شدّتها. وقد نلاحظ أنهم "في حكايات السندباد يتحدثون عن رحلة يحط بها السندباد على جزيرة يجد فيها بيضة عملاقة بحجم القبة، ويحار لضخامتها وصعوبة معرفة حدودها، ولكنه فجأة يرى غيمة تتحرك في اتجاهه فيختبئ ليكتشف أن الغيمة ليست إلا طائر الرخ الذي سيحمله فيما بعد متعلقاً بقدمه لينجو من الجزيرة المنقطعة. هذه الحكاية عن الطائر العملاق لم تكن الحكاية الوحيدة عن طائر بحجم طائرة معاصرة فالكاتب السوري لوقيانوس السميساطي ابن القرن الثاني الميلادي يتحدث عن طائر عملاق يسميه الأليسون ويحدَّث عن بيضة عملاقة بحجم قبة.(32)
وثمة غيلان بحرية وحوت ضخم له أسنان مخيفة حادة بيضاء أطول من الصواري، إن وحوشاً كهذه كفيلة ببث الرعب في نفوس البحارة المسافرين، نظراً لإلحاقها الهلاك بمن يصادفها في طريقه، فضلاً على أن من الصعب جداً وصفها بالجلال على ما تتصف به من ضخامة، فهي تفتقد التأثير العميق والإحساس باتساع الكون ورحابته. وتتوالى الأوصاف المتعلقة بالسفن ولوازمها، حين نقرأ أن لدى المهاجمين في البحر غابة بدلاً من الشراع في سفينتهم. ويشعر سكان القمر بالرعب والخوف من الكائنات ذات الشعر، ويرتاحون للأقرع الذي يرونه جميلاً، والأمر معكوس بالنسبة إلى سكان المذنبات.
ولا تفلت الأحلام من الصلة بالخوف والرعب، ففي جزيرة الأحلام، ثمة أحلام يصفها لوقيان بالحقيرة القصيرة التي لها مظهر خارجي قاسٍ قصير بشع. إن كل ما تقدّم من كائنات هي أقرب إلى المسوخ منها إلى مجرد وحوش، فالوحوش تتناسب مع معايير الطبيعة التي يألفها الإنسان، ويبتعد عن أخطارها، أو يتسلّح لمواجهتها. أما المسوخ فهي نموذج مشوّه، غير مسبوق، ولا يمتلك الإنسان خبرة التعامل معه، أو طريقة الهرب منه، لذلك فإنه يثير مزيداً من الخوف والرعب لازدياد احتمالية وقوع الإنسان ضحية له.
جـ ـ عنف المعارك:
يميل وصف المعارك إلى الكوميديا الساخرة، أكثر منه إلى المخيف القاسي، وكأن شدة الرعب حتّمت على لوقيان أن يلتفت إلى المفارقات، على الرغم من كون الضربات الحاصلة في المعارك قاسية ومهلكة أحياناً، "وقد يؤدي الرعب في الطبيعة أيضاً إلى نتيجة استطيقية، ففي وجود أنواع معينة من المناظر الوحشية المرعبة، والعواصف الهائجة في البحر والبر، ما يجعلنا نقول أن الطبيعة يوجد بها نوع من الجمال المرعب المخيف. والآن فالرعب في ذاته شيء مؤلم، فهو يؤدي إلى الخوف، والخوف انفعال مؤلم، ومع ذلك ففي تلك الحالات التي نتعرف فيها على الجمال فيما هو مرعب فإننا نشعر أيضاً بالمتعة".(33) فعلى سبيل المثال نجدُ من بين الأسلحة قذائف من اللفت المميت ذي الرائحة الكريهة، وفي موضع آخر يأتي وصف جميل لحالة مخيفة، فالدماء كانت تسيل كالأمواج فوق الغيوم وقت المغيب، ولكن الأحداث كلها كانت في الفضاء، مما يجعل المكان فضفاضاً.
ويجدر بالذكر أن صفحات "قصة حقيقية" مليئة بالوصف المفصل لبعض المعارك في القتال الحاصل بين أطرافها "وقد حاول الرجال الواقفون في المقدمة بكل ما لديهم من جرأة، الانتقال إلى ظهر الجزيرة الثانية، والقضاء على جميع من عليها، فكانوا يطلقون الأخطبوط، بدلاً من مراسي الحديد، إذ إن الأخطبوط كان غاية في الضخامة، فتراه يلتف بعضه حول بعض، ويحيط بالجزيرة فيحول دونها ودون تقدمها. كما كانوا يتراشقون بالمحار، وكانت المحارة الواحدة منه بسعة عربة، كما كانوا يتراشقون كذلك بالإسفنج الغليظ".(34) ومن الأسلحة التي استخدمها المسافرون رواد الفضاء أخشاب ضخمة غرسوها بين شدقي الحوت، في محاولة منهم للخروج من بينها، وقد أوقدوا النار لتسهيل مهمتهم.
د ـ التعرض للمحاكمة:
لم تكن علاقة لوقيان وأصحابه بالبشر الآخرين على ما يرام دائماً طول الرحلة، بل كان يشوبها التردد والحذر في أحسن الحالات، وفي أغلبها كانت العدوانية هي المسيطرة، وكانت العلاقة بين سكان الجزر والأماكن المأهولة في الفضاء مليئة بالمشكلات والصلات المضطربة، وما هو مخيف لبعض السكان، كان عجيباً ومضحكاً بالنسبة إلى المسافرين الوافدين. فقد أمر الملك بإعدام كل قنديل لا يستجيب ملبياً نداء اسمه، وكان إعدامه عبارة عن إطفائه. وفي جزيرة أخرى، جلس المسافرون في الصف الرابع في المحكمة ينتظرون دورهم، فيما كانت تتم محاكمة شخصيات شهيرة من مثل الإسكندر وهنيبعل القرطاجي وهيبوقراط وهيلانة، لقد كانت هذه الجزيرة مكاناً مقدساً غير مخصص للأحياء، وهذا سبب محاكمة لوقيان وأصحابه. وتعود السخرية لتطل على هيئة محاكمة أو مصير يناله من وصفوا بالكفار، في الجزر الخمس التي يمر بها لوقيان، ويجد فيها شخصيات من قبيل مقترفي الأكاذيب، والمؤرخين الذين يشوهون الحقيقة، وهي ليست المرة الوحيدة التي يتطرق فيها لوقيان إلى المؤرخين، وإلى أهمية التدوين المدروس للتاريخ، فهي ترد عدة مرات في هذه القصة، ولدى لوقيان مؤلّف آخر أسماه "كيف يجب أن يكتب التاريخ" تحدث فيه بتوسع كبير عن هذا الموضوع: "وثمة آخر يا فيلون وهو امرؤ سخيف لم تطأ قدمه أرضاً خارج كورونثيا، ولم يذهب حتى إلى "كينخري" أو يرى سورية، أو أرمينيا، ومع هذا فقد بدأ كما يلي على ما أذكر: "إن الأذن لا تصدق كما تصدق العيون، لهذا فإني أكتب ما رأيته بأم عيني لا ما سمعته بأذني"".(35)، "فمن أجل أن يغدو المرء مؤرّخاً ممتازاً، عليه أن يستمد من أصالته نفسها، صفتين أساسيتين: الذكاء السياسي، والوضوح في التعبير. أما الأولى فلا يمكن تعلمها لأنها موهبة طبيعية، وأما القدرة على التعبير، فيمكن صقلها بالممارسة والعمل الدائب، وتقليد الأقدمين. وليس ثمة أي فن في مقدوره أن ينوب عن هاتين الموهبتين، كما أن نصائحي في هذا المضمار لن تجدي شيئاً".(36)
خلاصة:
لقد كان لوقيان وفياً لمفهوم الخيال كما تَصوره وأبدع فيه على نحو خاص، فوجدنا لديه لمحات كلّ من الكوميديا والجميل والمخيف، في إطار من الخيال العلمي الذي يأخذ بالقارئ إلى مجاهل بعيدة في الفضاء، مع أشخاص بشريين، تارة ينتابهم الضعف أمام ما هو غريب ومفاجئ، وتارة يصيبهم الخوف من الأجسام الضخمة ومن تهديدات الحروب والمعارك، وتارة ينعمون بفسحة من عيش رغيد في ضيافة أقوام عجيبين. ومن الملحوظ أن خيال لوقيان مزج بين عناصر الطبيعة المادية، من البشر والنباتات والحيوانات والجمادات، لتكون في تركيبات غريبة وهيئات غير مألوفة؛ إلى جانب العناصر المعنوية والمفاهيم، كالأحلام الناطقة المتجسدة. وقد سافر عبر الكوكب، واجتاز شرط الزمن، فجمع الراحلين مع الأحياء، والمشاهير مع الأشخاص البسطاء المغمورين، والمتهمين مع القضاة، فلم يقف خياله عند حدّ، ولم يفارق الحس الساخر الناقد لما حوله أينما كان.
الحواشي:
(1) أعمال لوقيانوس السميساطي السوري الساخر في القرن الثاني الميلادي، لوقيانوس السميساطي، ترجمة: سعد صائب ومفيد عرنوق، دار المعرفة، دمشق، ط1، 1987، ص218
(2) موجز تاريخ النظريات الجمالية، م.أوفسيانيكوف، ز.سميرنوفا، تعريب: باسم السقا، دار الفارابي، بيروت، 1979، ص34
(3) الإمبراطورية الرومانية، م.ب.تشارلزورث، ترجمة: رمزي عبده جرجس، مراجعة: د.محمد صقر خفاجة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999 (صدرت الطبعة الأولى عن دار الفكر العربي، القاهرة، 1961)، ص126
(4) محاضرات في علم الجمال، د.فؤاد المرعي، منشورات جامعة حلب، حلب، 2004 ، ص64
(5) ينظر: لوقيان السميساطي وبذور أدب الخيال العلمي، د.أيمن اسمندر، مجلة الخيال العلمي، وزارة الثقافة، دمشق، العدد رقم 14، أيلول 2009، ص70ـ79
(6) النقد الأدبي عند الإغريق والرومان، د.عبد المعطي شعراوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1999 ، ص351ـ352
(7) السحر ـ مقدمة قصيرة جداً، أوين ديفيز، ترجمة: رحاب صلاح الدين، مراجعة: هبة نجيب مغربي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2014 ، ص54
(8) الحب السائل ـ عن هشاشة الروابط الإنسانية، زيجمونت باومان، ترجمة: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،2016، ص40
(9) ينظر: محاورات لوقيانوس السميساطي الكاتب السوري الساخر، لوقيانوس السميساطي، نقلها عن الفرنسية: سعد صائب، دار طلاس، دمشق، ط1، 1989، ص7ـ35، و: مسامرات الأموات واستفتاء ميت، لوقيانوس السميساطي، نقله وقدّم له وعلق عليه: إلياس سعد غالي، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، الأونسكو، بيروت، 1967، ص9ـ28، و: أعمال لوقيانوس السميساطي السوري، ص3ـ27 ، و: مفهوم الألوهة في الذهن العربي القديم، جورجي كنعان، بيسان للنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1996، ص129ـ131
(10) الخيال الأدبي، نورثروب فراي، ترجمة: حنا عبود، وزارة الثقافة، دمشق، 1995 ، ص17
(11) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص189
(12) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص190
(13) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص190
(14) ينظر: لوقيان السميساطي وبذور أدب الخيال العلمي، د.أيمن اسمندر، ص74
(15) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص194
(16) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص191
(17) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص196
(18) أدب الخيال العلمي، جان غاتينبو، ترجمة: ميشيل خوري، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى، 1990 ، ص21ـ22
(19) عن حسيب كيالي والمريدين ثانية، مقال بقلم: خيري الذهبي، صحيفة الثورة، دمشق، 21/6/2009
(20) الكوميديا والتراجيديا، مولوين ميرشنت، كليفورد ليتش، ترجمة: د.علي أحمد محمود، مراجعة: د.شوقي السكري، د.علي الراعي، سلسلة عالم المعرفة، 18، حزيران يونيو 1979، ص13
(21) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص213
(22) إذا لم نكتب الصحراء فهل نحن صحراويون؟ مقال بقلم: خيري الذهبي، صحيفة السفير، (الملحق الثقافي)، بيروت: 9/3/201
(23) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص199
(24) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص212
(25) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص213
(26) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص213
(27) مسائل فلسفة الجمال المعاصرة، جان ماري جويو، ترجمة وتقديم: د.سامي الدروبي، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، ط2، 1965، (صدرت الطبعة الأولى في القاهرة 1948)، ص85
(28) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص189
(29) فكرة الجمال، الجزء الأول، هيغل، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1981، ص51
(30) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص218
(31) الإحساس بالجمال، جورج سانتايانا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 ، ص325ـ326
(32) الرخ في عزلته، مقال بقلم: خيري الذهبي، صحيفة تشرين، دمشق، 24/08/2011
(33) معنى الجمال ـ نظرية في الإستطيقا، ولتر ت.ستيس، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص98
(34) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص212
(35) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص255
(36) أعمال لوقيانوس السميساطي، ص257
* نشر المقال في: مجلة الأدب العلمي ـ تصدر عن جامعة دمشق ـ العدد37 أيلول 2016، ص24 ـ43
رابط مجلة الأدب العلمي ـ الحجم 5 ميغابايت:
http://damasuniv.edu.sy/mag/sci/images/stories/372016.pdf
* موضوعات العدد:
العلم والثقافة والمجتمع ـ د.معن النقري، جماليات الخيال العلمي عند لوقيان السميساطي السوري ـ د.علياء الداية، التفكير العلمي والذكاء عند الأطفال ـ باسمة ديب، الأقمار الصناعية ـ طارق نواف حامد، المنازل القمرية في الحضارة العربية ـ د.رلى هلال علي، أبولودور الدمشقي ـ م.هناء صالح، معالم التراث المعماري الخالدة في سوريا ـ محمد مروان مراد، في بيتنا رادون ـ د.م.بسام العجي، التدريب الافتراضي وفوائده ـ محمد حسام الشالاتي، الإصبع التي أنعشت المدفون ـ د.طالب عمران، سلاح المستقبل ـ رؤوف وصفي، صائدو الوهم ـ لينا كيلاني، حادثة بلدة جيرمان تاو الغامضة ـ عيسى سمعان، نيلز بور ـ د.مخلص عبد الحليم الريس، الظواهر والهزات الزلزالية ـ م.ربى حسين سباهي، تاريخ هيرودوت ـ جميل حسين الأحمد، الدفاع المدني ـ محمد ياسر منصور، آفاتار ـ رامي شريم، الثروة السمكية ـ محمد الخاطر، الشجرة السحرية ـ لؤي خليل.
وسوم: العدد 709