تحليل أدبي لقصيدتي

تحليل أدبي لقصيدتي كل الشكر للأستاذ ربيع الرفاعي الذي قام بتحليلها 

القصيدة

رتعَتْ حروفي في ربى كلماتي

ورسى اليراعُ على مدادِ دواتي

وهمى القريضُ على فؤادي وابلاً

وانسابَ رقراقاً على صفحاتي

فاسكبْ دموعَك يا يراعُ فإنَّما

بين الأصابعِ أنت ظلُّ حياتي

ولأنتَ أنفاسي التي أحيا بها

لمَّا تفيضُ الروحُ بالكلمات

فلمَ التأوُّهُ في صريرِك بيِّنٌ

أحملْتَ قلبي أم تصوّرُ ذاتي

الشِّعرُ إحساسٌ بغير تكلُّفٍ

تأتي قوافيه بلا ميقات

الشِّعرُ بوحُ النَّفسِ بعد تغرُّبٍ

عن عالمِ الأحياءِ والأموات

الشِّعرُ تصويرٌ لواقعِ أمَّةٍ

ببلاغةٍ وفصاحةٍ وثبات

ولذا صحا القلمُ المعنَّى في يدي

مستيقظاً من بعد طولِ سُبات

وعلى صروحِ حضارةٍ منهارةٍ

سكبَتْ جفوني أَغْدقَ العَبَرات

أبكي على زمنٍ تولَّى مجدُهُ

أم أنَّني أبكي الزمانَ الآتي

أيامَ كناَّ سادةً وعبيدُنا

هم يُحسَبون اليومَ في السَّادات

التحليل:

أسعد الله مساءكم وجمّله بالخير والرحمة أيها البلغاء...

سأحاول في نقدي هذا أن أقطف من قصيدة الشاعر عمر كرنو بعض الزهور الملونة ..

بدأ الشاعر قصيدته بثقته من نظم الشعر والكلام فقال: 

رتعت حروفي في ربى كلماتي

وكأنه يخبرنا بأن الشعر عندي كثير وأنني خبأت الحروف تحت وسادتي وجمعت المفردات في حصّالتي ..ثم يعود في البيت الثاني ليرسم لنا صورة جميلة حينما جعل الشعر يسقط على فؤاده وكأنه المطر ..لينساب جداولا وأنهاراً على الورق...ونحن نعرف أن سقوط الماء من السماء يكون غزيرا سريعا قوياً...وهذه الصورة تلائم حالة الانفعال التي بدأت تظهر شيئا فشيئا في نفس الشاعر ..ثم نراه يخاطب القلم الذي بين يديه بفعل الأمر ( فاسكب ) وكان اختياره لهذه المفردة في مكانه ..ولكن القلم لا يسكب إلا حبرا فكيف يأمره الشاعر بأن يسكب دموعاً..؟!! ..إن حالة الشاعر التي دخلت صومعة الحزن عكست على كتابته فجاءت مفرداته موافقة ومواكبة لما يبتغيه الحزن...ثم نجده راح يفتح حوارا مع قلمه فيخبره بفضله عليه حينما يقول له أنت أنيسي في الحياة وصاحبي وأنت الرئيس الذي يوقّع على صك أحزاني وهمومي إذا اعتلت ظهري..ونقف عند بيته الذي يقول فيه:

فلم التأوه في صريرك بيّنٌ

أحملت قلبي أم تصور ذاتي..

لقد ربط الشاعر هنا بين مفردتين الأولى هي التأوّه والثانية هي القلم...

تُرى ما هي العلاقة بين المفردتين..ولما خصَّ القلم بالتأوّه...نحن نعرف أن الذي يتوجع ويتألم ويتأوه ويحكي هو الفم..فما دخل القلم هنا....؟

نعم....حينما يشتد المصاب بنفس الإنسان وتحيط به الكروب والأسقام من كل جانب وحينما يبلغ الحزن أوجهُ فإن اللسان أو الفم لا يعود قادرا على النطق ببنت شفة ..لأن المصاب عظيم..ولذلك يتولى القلم مسؤولية الكلام والتوجع والمخاطبة والسؤال والرد...

نرى نفس الشاعر قد هدأت قليلا من الحزن ليسترسل هو نفسه بالحديث في بيتين عن الشعر وكأنه يمهّد لقول شيء...حتى إذا ما وصل عند قوله:

(الشعر تصوير لواقع أمةٍ)..هاجت به النفس مرة أخرى ولكن هيجانها هنا عقلاني ومنطقي وواقعي..ثم يتابع قائلاً:

(ولذا صحا)...من هو يا ترى..؟

إنه ( القلم )..وما صفته هذا القلم..

صفته أنه ( معنّى )..بين يدي الشاعر..

وهذه جملة تخبرنا عن مدى العلاقة النفسية الوطيدة بين الكاتب وقلمه..وكيف أن هذا القلم يشعر بمصاب صاحبه..والسؤال هنا ..

لماذا لم يخاطب الشاعر إلا القلم..هل خليت الأرض من ساكنيها حتى يبعث الشكوى ويخبرها لقلمه ؟!!!

من المعروف لدينا أنه حين تضيق الدنيا بالأديب ويتملّكه الجمود والحسرة والحزن فإنه يتأسى بكل ما هو حوله من الحجر والشجر وأخشاب المقاعد والزهور والليل والقمر...وهذا القلم هو واحد من جملة أشياء رمى الشاعر حمله عليها..

يتابع الشاعر في الشطر الثاني من البيت نفست فيقول :

مستقيظاً من بعد طول سباتِ

إذن: يتوضح لنا هنا أن القصائد اتجهت من بعد نظمها في الحب والشوق والحكمة وكل أغراض الشعر العربي..اتجهت إلى شيء أعظم يستحق الكتابة عنه..وهذه صورة جميلة من الشاعر حينما شبه القلم بالإنسان الذي يستيقظ من رقدته ونومه..ونلاحظ أنه لم يقل ( من بعد سبات ) وإنما قال:

( من بعد طول..سبات ) وهذه دلالة على المدة الزمنية الطويلة التي قضاها الحرف يخطّ أشعار الحب والعشق..حتى جاءت فترة الصحوة ونفض القلم الأغبرة عن الأشدّ والكتابة عنه..ولكن ما هو الأشد؟

يقول الشاعر بعد هذا البيت:

وعلى صروح حضارة منهارة...

سكبت جفوني أغدق العبراتِ

لقد أمسكنا طرف الخيط لمفردة ( الأشد )

حيث ينبّهنا الشاعر هنا ويذكّرنا بحضارتنا القديمة وعزّها المنهار..يذكّرنا بأيامنا المجيدة التي كانت من قبلُ..ثم يبدأ البيت الذي يليه بالفعل المضارع الذي يفيد الآنيّة فيقول:

( أبكي ) ..وفي هذه دلالة على الحزن المتشعب في روح الشاعر أثناء نظمه للقصيدة وإن لم تبكِ العين حينها فالروح كانت تتلظّى بدموع القهر والهم..

نلاحظ بعد فعل المضارع فورا مجيء مفردة

( زمن )..وهذه المفردة اسم يدل على الماضي ..وهنا تكمن الجمالية الشعرية والمقدرة اللغوية عند الشاعر حينما وفّقَ بين الحاضر والماضي بتعبير أكثر من رائع

ولكن على أي شيء يبكي شاعرنا..

إنه يبكي على الزمن الذي تولى وغاب بين أروقةِ التلف..يبكي على المجد الذي انهارت دعائمه التي رُفعت قديما ..ثم يُتبع الشاعر حديثه بصيغة سؤال تتضمن التعجب والحيرة..حين قال:

أم أنني أبكي الزمان الآتي..؟!!

لقد وقع الشاعر في حيرة فلا يدري أيبكي الزمان أم الحاضر..؟!

ويختم بحديثه عن رفعة أجدادنا حينما كانوا سادة في الأرض وكيف انقلب السحر على الساحر فأصبح السادةُ عبيداً مُسيّرين...

نص باذخٌ تفوق على الجمال نلاحظ أن نفس الشاعر تكونت من سلسلة حلقاتها متتابعة بانتظام ..بدأت بالهدوء ثم الانفعال ثم الحزن ثم الهدوء مرة أخرى ثم ما لبثت أن اشتعلت هذه النفس حزنا وانفعالا من موقد واحدٍ ..

استعمل الشاعر البحر الكامل الذي يرنُّ في الأذن بكل جمال..وأحسنَ حينما اختار هذا البحر الذي يُضفي نوعاً من السلاسة والرشاقة على تتابع الأبيات..ولنغمة الكامل الحزينة أثر في التعبير عن المشاعر الحزينة التي تتجرّع الهموم والغموم...والصور كثيرة في النص فأخذنا ما احتجنا منها وتركنا الباقي لليل يسهر على جمالياتها

لله در هذه الألفاظ ..شكرا لشاعرنا عمر كرنو على قصيدته الراقية ..وشكرا لكم ودمتم شعراء مبدعين...

وسوم: العدد 709