الرؤية السّردية في قصص الشعلان: دراسة تطبيقيّة

محمّد صالح المشاعلة

clip_image002_de7eb.jpg

clip_image004_7aef5.jpg

عند دراسة الرّؤية السّرديّة لا بدَّ من الالتفات إلى الرّاوي وموقعه، فموقع الرّاوي بالنسبة للأحداث عامل رئيس من عوامل تجسيد الرّؤيا التي يراد إيصالها للمتلقّي،فبذلك يعدّ الرّاوي العنصر الرئيس في الفنّ القصصيّ، فلا تكون القصّة إلّا به: سواء روى مباشرة بلسانه في نصّ القصّة، أم من خلال شخوص قصّته، وهو في الحالتين تقنيّة إلزاميّة في الهندسة القصصيّة. فالكاتب يختفي خلف الرّاوي الذي يشكّل أداة وظيفيّة لها دلالتها[2]، فموقع الرّاوي ورؤيته بشكل أو بآخر يعود للمؤلّف؛ لأنّنا من بداية النّص إلى نهايته نصغي إلى صوت وهميّ ينقل لنا ما يراه، وما يقوله وما يسمعه، كما ينقل لنا ما يريده وما يخشاه وما يذكره، "فالمؤلّف المجرّد يخلق، والرّاوي يبلّغ"[4].

ومن الجدير بالذّكر أنّ الرّاوي يدخل في صلب الحديث عن الرؤية السّرديّة، ولا سيّما أنّ "الرّواة يختلفون في أشكال الحضور وكيفيّاته. فمنهم من يجهد النّفس ليكون حضوره في ملفوظه علنياً صريحاً؛ فيتدخّل باستمرار مفسراً ومقوماً ومتأمّلاً، ومنهم من يُؤثر التّخفّي والتّنكّر".[6].

إنّ المسافة التي تفصل هذا الرّاوي عن الشّخصيّات، هي التي أتاحت له فرصة رؤية العالم القصصي كلّه في القصّة التي يقدمها؛ نظراً لأنّ موقعه يكون في زاوية خارجيّة تبعد عن الشخصيّات القصصيّة، وهذا الموقع جعله على معرفة بكل ما يدور في القصة، سواء أكان موضوع هذه المعرفة داخل الشخصيات أم خارجها،لكونه يتحدّث باسم الشخصيات وتُعرف آراؤها من خلاله، كما إنّه يعلم مصائر الشخصيّات وحقيقة أفعالها[8].

ويكشف الرّاوي عن الحالة النّفسيّة للشّخصيّة (العقّاد)، كقوله: (أنّه يكره هذا الحلم)، وأيضاً عندما ودّع ابنته عند السّفر وهو يصرخ بصوت مكتوم: (ريم لا تبتعدي، احذري، ريم أين أنتِ؟)، فالرّاوي قدّم لنا هذه الأوصاف الدّاخلية للشخصيّة، واسمعنا صوتها الباطني، حيث كان من المستحيل معرفة ما يدور داخل الشّخصيّة من غير هذا الموقع والزاوية للرّاوي، فثمّة سمات نفسيّة لا يمكن أن يوحي بها النّص، إلّا من خلال الرّاوي العليم.

ومن الملاحظ أيضاً أنّ الرّاوي يختصر الزّمن في قوله: (كانت زهرة بيته قبل أن تتزوّج زياد، وترحل معه إلى لبنان، وتستقر معه هناك، وتهبه طفلين رائعين)، ولا يفصّل بالتّعريف بالمكان، فاكتفى هنا فقط بذكر البلد (لبنان)، ويستعجل أيضاً في الكشف عن الحدث الرئيس للمتلقّي، قبل أن تعرفه الشخصيّة نفسها، كما في حادثة التّفجيرات التي حدثت في عمّان، التي حالت دون اللقاء بين الأب وابنته.

نلاحظ في المقطع السّرديّ التالي، أنّ هيمنة الرّاوي العليم وسيطرته على السّرد تتراجع، فيقوم بوصف الأحداث بواسطة (عين الكاميرا)، وهنا الرّاوي ينقل ما أمامه بأمانة دون تعليق على ما يحدث، بل يترك للقارئ بأن يستنتج ما يشاء ويقتصر دوره على النّقل، والسّرد هنا يقدّم سمات الشّخصيّة الخارجيّة فقط، من غير الالتفات إلى صفات الشّخصيّة من الدّاخل[10].

يختلف حضور الرّاوي عين الكاميرا، في المثال السابق،فنجد الرّاوي (الكاميرا) في القصة، يتداخل في الصّوت مع الرّاوي شموليّ المعرفة، من حيث كشفه للعواطف والأفكار، ولكن مهمّة الرّاوي عين الكاميرا كانت مقتصرة على تقديم الأحداث، فمن خلال المقطع السّردي السّابق يسلّط الرّاوي (الكاميرا) الضوء على شخصيّات معيّنة، وكأنّه في مكان ما داخل القصّة، حيث يقوم الرّاوي بتسليط عدسته على الشّخصيّات الرئيسيّة في القصّة من الخارج، ووصف ما يشاهده أمامه فقط، "والواقع إنّ الرؤية الخارجيّة المحض (الكاميرا)، أي التي تكتفي بوصف أفعال، لنا أن ندركها دون أن يصاحب ذلك أيّ تأويل وأي تدخّل من فكر البطل (الفاعل)"[12]

اختفى صوت الرّاوي هنا؛ ليفسح المجال للشّخصيّات أن تعبّر عن رؤاها، لعرض أمر يخصّها أو الكشف عنه[14].

يمسك الرّاوي العليم من جديد مهمّة سرد الأحداث سرداً تفصيلياً، ويسبر لنا أغوار الشّخصيّات أحياناً، ويبحث في المسببات؛ليرسم لنا الحالة الصّحيّة والنّفسيّة التي يعاني منها (العقّاد) في مرضه، وفقده لعائلته. ويمكننا أن نلحظ أيضاً سلطة الرّاوي على مجريات السّرد؛ حيث لم يسند المعلومات إلى أي شخص، وإنّما أسندها إلى ذاته ولم يخبرنا من أين حصل على كلّ هذه التفصيلات، لذا فهو يحافظ على الرّاوي العليم الشّمولي في القصّة، الذي ينظر إلى الأحداث من مكان خارج القصّة نفسها. "وحقيقة أنّ هذا الرّاوي يمتلك موضعاً خارج عالم القصّة، مما يجعل من السّهل علينا أن نتقبّل ما لا يمكننا تقبله في الحياة الواقعيّة"[16].

في بداية المقطع السّردي يُعرض الإيضاح من قبل شخص فوق وأعلى من كلّ الناس والأشياء في القصّة، إذ من الواضح أنّ الرّاوي يعرف كلّ الحقائق، وله القدرة على اختراق الجدران، والتّنقل بين سطوح المنازل، من غير أن يسأله أحد من أين جاء بمعلوماته، ومن الملاحظ أيضاً أنّ الشّخصيّات مغيّبة من قبل الرّاوي حتى الآن، فيشرع الرّاوي بوصف المكان وصفاً تفصيلياً، فيصف المنازل التي شبّهها بالأعشاش، والأحياء الفقيرة التي أرهقها الفقر.

يربكنا الرّاوي فيما بعد بهذه الكلمات (ولكن ما يعنيني من هذه المقولة)، فيتسلّم مهمّة السّرد الرّاوي الدّاخلي، ونلاحظ حضوره من خلال إسناد الرّاوي شموليّ المعرفة الدورَ له بوساطة (الشّخصيّة الرئيسيّة)، ويتابع سرده بضمير المتكلّم، ويقول:

"أنا شخصيّاً اكتشفت في تلك الليلة أنني على الرّغم من فضولي الإنساني العجيب لم أرَ فتحيّة جارتي منذ عامين على الرغم من أنني احترفت مراقبة الجيران، سكان البيوت المتزاحمة حدّ التدافع في الحي، وحفظت عن ظهر قلب محتويات أسطحها من الخردة والقمامة والأحذية البالية والملابس القديمة وحبال نشر الملابس"[18]، ولهذا فالرّاوي يمزج نقل الأحداث بعواطفه الخاصّة وأفكاره.

ومن الملاحظ أنّ الرّاوي قام بتقديم الشّخصيّة (فتحيّة)، التي لم يرها منذ زمن،تقديماً مبدئياً، مع أنّ الرّاوي يصرّح بأنّه يجيد فنّ المراقبة مراقبة الجيران، الذين يسكنون البيوت المتزاحمة، وما تحتويه من خردة وقمامة وملابس بالية، فالرّاوي ينظر إلى تلك البيوت نظرة متشائمة ودونيّة.

الرّاوي في القصّة محدود المعرفة، قليل العلم بما يدور في نفوس شخصيّاته، مع ملاحظة تقدّم الشخصيّة (الرّاوي) وتولّيها زمام الحكي، إذ جاء السرد بضمير المتكلم (أنا) العائد على (الشخصيّة الرئيسيّة)، يقوم عادة برواية قصّته[20].

فنحن في هذا المقطع السّردي لا نعلم مِنَ المرأةِ إلّا اسمها؛ لأن الرّاوي لا يصف إلّا المظهر الخارجي لها، وكأننا أمام (كاميرا) تعرض لنا صورة لهذه المرأة، حيث لا يمكن لهذه (الكاميرا) الولوج إلى داخل الشّخصيّة، وما تفكّر به.ومن الملاحظ أيضاً أنّ الرّاوي الدّاخلي كان مشاركًا في أحداث القصّة، فهو يقصّ ما شاهده بنفسه، ويتدخّل أحياناً في بعض مجريات القصّة.ويبرز لدينا أيضاً استطراد الرّاوي في ذكر مميزات ذاته ومنها (أنّه فضولي، ويحب الهدوء).

وفي النّهاية فإنّ الرّاوي يقدّم شخصيّاته، سواء أكانت رئيسيّة أم ثانويّة، في ظلّ دائرة ما يدركه من حيث ثقتنا بما يرويه؛ فنحن نثق بسرده أخباره؛ لأنّه شخصيّة داخل الحدث، وينقل لنا ما يراه وما يسمعه، بعكس الرّاوي العليم، الذي يدخل إلى بواطن الشّخصيّات ويغوص بأفكارها وعواطفها من غير إذن، فهو شخصيّة خارج عالم القصّة، يبتدعه المؤلّف لينقل إلينا الخبر، ولعلّ الرّاوي الدّاخلي أقرب إلينا. ويلاحظ أيضاً أنه ليس في (صوت الصمت) من يُقدِّم القصّة كاملة بهذه الرؤية الداخلية، ولكنّ الرّاوي الدّاخلي يظهر بعد أنْ يُقدّم القصّة راوٍ آخر(الرّاوي الخارجي العليم)، على اعتبار أنّ ما يرويه –الرّاوي الدّاخلي– متولّدٌ عن الحدث الرئيس أو مُولِّدٌ له، فالرّاوي الدّاخلي يعد من أحد المواقع التي استعملت في تقديم القصّة[22].

2ـيعطي انطباعاً واقعياً للقصّة، من خلال سماع صوت الشخصيّات المشاركة في الحدث مباشرة.

3ـإنشاء حبكة من خلال ما يقدمه الرّاوي، فالرّاوي له حضور أساسي في عالم القصّ، علاوة على كونه طريقة في السّرد.

ومن الأمثلة أيضاً على الرؤى السرديّة التي استعملتها الكاتبة في مجموعاتها القصصيّة، قصّة (ابن زُريق لم يمتْ)، في مجموعتها القصصيّة (تراتيل الماء)، حيث يقول الرّاوي:

"جلس بفخر متعال لا يناسب إخفاقاته المتكرّرة التي كبّدته خسائر جسميّة بالتّرقيات وساعات عمل إضافيّة مجّانيّة حدّ تسلّخ إبطيه، وتعفّن أصابع قدميه في حذائه الرّسميّ العتيد، ولكن هذه هي لحظة الانتصار المنتظرة، رقّص رجلاً فوق رجل"[24]، فضمير الغائب أكثر الضمائر شيوعاً، بل وأيسرها تلقياً من قبل المتلقّي[26]

عمد الرّاويهنا إلى ترتيب الأحداث وبثّها للقارئ بشكل مرتب الأجزاء والمقاطع، مصوراً أفعال الشخصيّات وحركاتها تصويراً دقيقاً، حين عرض لنا ردّة فعل (المدير)، إثر سماعه نبأ (ابن زريق) الذي لم يفهم أمره للآن، فنقل الرّاوي صورة مرئية لشخصيّة (الموظّف، والمدير)، وهو يطرق برأسه وقد بان على ملامحه فقدان الصّبر، فكان فعلاً بمثابة العين والأذن، اللتين سجلتا كلّ ما حدث من دون التّدخل في ذلك؛ كون الرّاوي مجرد (شاهد)، وليس عنصراً أساسياً في السّرد.

ومن الجدير بالذّكر أنّ الرّاوي هنا ليس (داخلياً)، أي شخصيّة مركزيّة في السّرد، والذي يشكّل جزءاً من المادة المحكيّة، ويقوم بعرض وقائعها[28].

ومما يبرز لدينا أيضاً أنّ هذا الرّاوي بخلاف الرّاوي البطل الذي احتل المركزيّة في السرد (الموظّف)، فالرّاوي (المشاهد) يحفل بدور هامشي وشخصيّة ثانويّة ترافق البّطل، وتنقل ما يقع أمام ناظريها من وقائع وأحداث في زمان ومكان يحدّده الرّاوي، من دون أنْ تشارك فيها، فالراوي الشاهد إذن "هو راوٍ حاضر لكنه لا يتدخل، لا يحلل، إنّه يروي من الخارج، عن مسافة بينه وبين ما أوجز، يروي عنه"[30].

ترد الأشعار هنا على لسان الشّخصيّات في النّص، بحيث تكون جزءاً من الحوار بين (الموظّف، والمدير)، اللذين صرّح بجنسيتهما الرّاوي وهما من جنسيّة أمريكيّة يعملان في شركة تأمين، حيث تأتي هذه الأشعار تعليقاً على حدث ما، ولعلّها إضافة من المؤلّف لتتضمن المغزى في التّوضيح لشخصيّة (ابن زريق)، صاحب هذه الأبيات، وكيف أصبح حال المواطن العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، فقد سُلبت جميع ممتلكاته، حتى كلمات شعره ادْعَوا أنّها مسروقة وملفّقة من شاعر أمريكي، فيصفه الموظّف بأنّه (مخادع ولص، وتاجر لعوب)، ودليل ذلك ما يقوله الموظّف:

"قهقه الموظّف قهقهة مصنوعة بدقّة، وقال بل هو لص كبير، أراد أن يخدعنا، بل ويخدع كلّ الناس والتّاريخ والشعر الجميل وآلاف العصافير، وجعل من القصيدة التي أسمعتكَ مطلعها طريقة إلى ذلك، لقد أثبتت تحريّاتي السّريّة أنّه كان شاعراً مغموراً وعاشقاً لعوباً وتاجراً فاشلاً في بغداد، وقرر أن يخدع الجميع، ويستغلنا نحن الأمريكيين الطيبين"

[2] انظر: بنية النص السردي، ص46.

[4] ثورنلي، ولسن، (1992). كتابة القصّة القصيرة. (ترجمة: مانع حمّاد الجهني)، ط1، السعوديّة، جدّة، النّادي الأدبي الثقافي، ص20.

[6]مذكرات رضيعة، ص9-10.

[8] انظر: تودوروف، تزفيتان، (1982). نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس. (ترجمة: إبراهيم الخطيب)، ط1، الرّباط: الشركة المغربية للناشرين المتحدين، ص189.

[10]مذكرات رضيعة، ص10.

[12]مذكّرات رضيعة، ص11.

[14]مذكرات رضيعة، ص11.

[16]مقامات الاحتراق، ص67.

[18] انظر: الكردي، الراوي والنص القصصي، ص130.

[20]مقامات الاحتراق، ص68.

[22]انظر: همفري، روبرت، (1975). تيار الوعي في الرواية الحديثة. (ترجمة: محمود الرّبيعي)، القاهرة: دار المعارف، ص68.

[24] انظر: بيتور، ميشال، (1989). استعمال الضمائر في الرواية. مجلة الثقافة الاجنبية ع1، السنة التاسعة، ص55.

[26]تراتيل الماء، ص53-54.

[28] فضل، صلاح، (1980). النّظريّة البنائيّة في النقد الأدبي. ط2، بيروت: دار الأفاق الجديدة، ص431.

[30]تراتيل الماء، ص54.

[31]تراتيل الماء، ص55.

وسوم: العدد 711