شخصية الزعيم محمد علال الفاسي في الشعر الإسلامي المعاصر
(1328 ـ 1394هـ / 1910 ـ 1974م)
الزعيم محمد علال الفاسي : حياته، وجهاده .
تمهيد:
الزعيم الرائد العلامة علال الفاسي (1910-1974) -رحمه الله، ليس من السهل أن يكتب كاتب عن علال الفاسي إلا إذا كان من الصبر بحيث يستطيع أن يتتبع هذا الرجل في أفكاره، وتخطيطاته، واتجاهاته السياسية،والفكرية، والاجتماعية.
ومن الحق أنه ليس من السهل على أي كاتب أن يحيط بكل جوانب هذه الشخصية التاريخية الضخمة المؤثرة في مجتمعها وعصرها، وليس من السهل كذلك الإلمام بجميع أبعاد هذا الرجل الفذّ الذي يمثل نموذجاً للنبوغ المغربي عبر العصور المتطاولة.
إن الكتابة عن الشخصيات التاريخية الوازنة والمؤثرة إنما يراد منها قياس غايات الناس ومقاديرهم من السمو والعظمة.
وإذا سلمنا بنظرية العلامة ابن خلدون بأن للظواهر التاريخية قوانين تضبطها وتوجهها، أي أن للتاريخ الإنساني وجهة تدل عليها العقبات، والعوائق، كما تدل عليها الدوافع والممهدات...
وتأسيسا على ذلك فإن دراسة سير العباقرة والعظماء من حيث أنها معالم قائمة تهدينا إلى تلك الوجهة من البداية إلى النهاية. مما يدل على أهمية البحث في تراجم عظماء الرجال...، ولاشك بأن المصلحين والعظماء الذين سبقوا عصرهم أهل لكل تعظيم واعتراف بالجميل.. ولا شك أيضا بأن كل إصلاح في شأن من شؤون الأمم لا ينال إلا بتصحيح مقاييس الحياة فيها وفي مقدمة ذلك تصحيح الأفكار والآداب والفنون.
كان علال الفاسي من الرواد المجددين على رؤوس المئات أنصب اهتمامه على تجديد النظم السياسية والاجتماعية والدينية التي خضعت لها أمته عصوراً مديدة، من أجل تهيئتها للتحرر الكامل من الاستعمار لكي تستطيع ركوب قطار الرقي والتطور....
كان صاحب فكر شمولي، ينظر إلى جميع المسائل التي لها علاقة بقضية النهضة من منظور شمولي "تمثل فيه التحليلات السوسيولوجية المكانة الأولى"؛ لأن الغرض الأساسي للمفكر الذي يعمل للنهضة في رأيه ينبغي أن يكون "توجيه الأنانية والفكر والشعور توجيها اجتماعي إنسانياً، وكان يرى ضرورة تنوير الرأي العام، وإصلاح ما فسد منه، وتحريره من مظاهر الجمود، والخرافة، والتقاليد الفاسدة . وقد ربط الديمقراطية بالحرية "لأنه لا مسؤولية بدون حرية، ولا حرية بغير تفكير" وكذلك بأصول أخلاقية لا يجوز التنصل منها حتى لا نسقط في براثين عبادة القوة أو عبادة المال.
وبالتالي فإن التحرر من كل سيطرة غير سيطرة الفكر المؤمن بالحرية هو الشرط الأساسي الذي به نستطيع أن نحرر الفكر العام من خرافات الماضي ومضللات العصر الحديث
إلا أن الحرية الحقيقية كما يراها. ليست هي حرية "الاستواء : أو "التساوي" أي حرية الاختيار بين أطراف متعادلة القوة ا والمبررات، وإنما هي القدرة على اختيار الخير الأسمى بالذات (أي المثل الاعلى الذي يعبر عن الأفكار الصحيحة).
هذه بعض المؤشرات التي من خلالها نسعى إلى تحديد بعض ملامح شخصية علال الفاسي.
رائد الحركة الوطنية المغربية المفكر المناضل، والعالم السلفي المجدد... كان إشعاعه قوياً وتأثيره بارزاً في تاريخ المغرب الحديث.
كان علال الفاسي رجلاً استثنائياً كزعيم، وقائد، ومفكر، وعالم، ومناضل... قال عنه الملك الراحل الحسن الثاني: كان علال أستاذاً للأجيال التي تتلمذت على يديه في الوطنية والعلم.
كان سلفياً بقدر ما كان مناضلاً ومكافحاً، أحب بلاده وبلاد العروبة والإسلام وناضل إلى أخر رمق في سبيلها، وكان يرفع اسم المغرب أينما كان، وحيثما حلّ.
إن التاريخ كما يرى "توماس كارليل" صاحب كتاب الأبطال إنما هو تاريخ بطولة وأبطال تجري أحداثه على مسرح التاريخ..
ومن ثمة فإن الكلام عن عظماء الرجال، وما أدوا من أدوار، وأنجزوا من أعمال جسام يعد من المباحث العويصة؛ لأن سير العظماء من صميم ولباب التاريخ.
ومن هذا المنطلق فإن دراستنا سوف ترتكز على بلورة وإبراز المقومات والخصائص التي شكلت الدور التاريخي لعلال الفاسي باعتباره أهم الوجوه التاريخية في المغرب المعاصر.
فقد جمع في بوتقة واحدة الفكر والممارسة السياسية، فانصهرت في شخصيته التاريخية المميزة دور المفكر المنظم المربي، والزعيم السياسي الذي يساهم في تغيير الواقع ويقوم بإعادة تشكيله أو توجيهه إذن هذا الحضور الواعي والفاعل في التاريخ هو الذي طبع المسار الفكري والسياسي لعلال الفاسي، وجعل منه بطلا من أبطال التاريخ.
في عصره وإذا كان الناس يتطلعون إلى الصورة التاريخية للبطولة من أجل الاقتداء والأسوة، فإننا سوف نهتم في بحثنا لبيان بعض مظاهر التجديد التي طبعت فكر الرجل وعمله..
1 ـ العصر وتحولاته :
إن النظر في الصورة التي تبلورت بها الشخصية التاريخية، واستوت، يقتضي الإلمام بالعوامل والمؤثرات التي أسهمت في تشكيل عصرها، وكذلك معرفة محيطها وأصولها ومحتدها الذي تفرعت عنه .
كيف كان العصر الذي نشأ فيه علال الفاسي، وتشكلت فيه مداركه. وتفتح وعيه وتحددت اختياراته ..
يمكن أن نقول أنه مع بداية القرن العشرين كان التمدد الاستعماري الإمبريالي الأوروبي قد بلغ أوجه ومداه مع استمرار أحكام قبضته وسيطرته على مختلف أقطار العالم.
وكان المغرب طبعاً داخلاً ضمن مخططات الهيمنة الاستعمارية وخاصة الفرنسية التي احتلت الجزائر، وتونس، وبدأت في بسط سيطرتها ، وترسيخ نفوذها على أجزاء كبيرة من القارة السمراء وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء المحاذية للمجال الجغرافي للمغرب والتي تعتبر عمقا "جيوسياسي" وثقافي واقتصادي واجتماعي لمختلف الدول التي تداولت على سدة الحكم في المغرب عبر العصور.
وبناء على علاقة الترابط والتشابك والتداخل بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء، فإن قادة الحملة الاستعمارية الفرنسية جعلوا من احتلال المغرب هدفاً استراتيجياً لا يمكن أن يستتب لهم الأمر في إمبراطوريتهم الاستعمارية المترامية الأطراف من دون إحكام السيطرة على المغرب، وفرض الحماية عليه، وشل قدراته كدولة وتطلعاته كشعب له ثقافة، وحضارة متجذرة ....
كيف إذن كانت حالة المغرب ونخبته، أمام التحدي الاستعماري الذي يهدد الكيان الوطني والهوية الحضارية والثقافية و الدينية للبلاد ؟.
إن الدقة الموضوعية في البحث عن أسباب تردي الأوضاع في المغرب، وفشل النخبة المخزنية في إيجاد الحلول اللازمة العميقة والعامة والمتفاقمة التي شهده المغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد بدت مظاهرها جلية للعيان طافية على السطح مع بداية القرن العشرين.
إن أزمة المغرب في ذلك الحين المتمثلة في تردي الأحوال العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كانت نتيجة العديد من التراكمات التي أدت إلى شلل الدولة وعجز نخبتها على مواجهة التحديات والمخاطر التي كانت تحيط بالبلاد من كل صوب..
يقول أحد شهود هذه المرحلة مولاي الطيب العلوي (1896-1964) بأنه في هذا العهد انحطت القيم الأخلاقية، وظهر التواكل..، الأمر الذي جعل الأفراد والجماعات لا تشعر بأي مسؤولية بسبب الجهل المخيم على النفوس، وعدم الاطلاع على ما يجرى عند الجيران بل في العالم .
تم يضيف أصبح المغرب عبارة عن مجتمع من الدراويش الذين لا يفكرون إلا في الرغيف..، ولم يقتصروا على العامة بل تعدوهم إلى أرباب الدولة من وزراء وولاة وقضاة وعلماء..، فأدى ذلك إلى استفحال أمر المشايخ الطرقية بحيث أصبحوا يؤثرون على السياسية العامة، وصاروا عقبة في سبيل كل إصلاح يراد إدخاله بدعوى أنه مخالف للدين..
والحقيقة أن فرنسا وإسبانيا لم تمدّ أيدهما إلينا حتى صرنا جيفة قد مرّ على موتها زمن طويل، فتعدّت رائحة نتنها حدود البلاد" .
والخلاصة أن المغرب كان يعيش في بداية القرن الماضي أزمة اقتصادية وسياسية وعسكرية ستؤدي مضاعفاتها إلى إقرار معاهدة الحماية في 20 مارس سنة 1912 أي بعد سنتين من ميلاد علال الفاسي ..
واجهت فرنسا مقاومة شرسة في جميع أنحاء المغرب وسطه إلى شرقه، ومن غربه وجنوبه، وكذلك في الصحراء.
في سنة 1914م سوف تشتعل الحرب العالمية بين الدول الأوربية .. هل تمّ انتهاز فرصة الحرب للتحرر من قيد الاستعمار الفرنسي، يرى علال الفاسي بأن العواطف في المغرب كانت تتأرجح بين الجهاد المقدس الذي أعلنه الخليفة العثماني، والذي يقضى بالثورة على الحلفاء والانضمام لألمانيا، ، وهو ما كان يتفق في حقيقة الأمر مع الرغبة التي تملأ نفوس المواطنين الذين لا ينتظرون غير سنوح الفرصة لانقضاض الكلي على المستعمر وإجلائه عن الوطن.
ولكن الدعوة العثمانية لم تكن تجد المجال ما يتيح لها الاتصال بالشعب المغربي والحديث إليه إلا من بعيد.. بينما كانت دعاوة الفرنسيين تملأ الأرجاء بأنواع من الخطب والكتب والمصورات.
وكان ليوطي يرى أن الحرب ستطول، وأنه لابد من هجوم عنيف في المشرق العربي بمهاجمة الائتلاف الألماني التركي، وضربه في نقطة ضعفه ؛ لأن جعل الأتراك غير قادرين على الكفاح ذو أثر عظيم في الإسلام الإفريقي.
لقد أسفرت الحرب العالمية الأولى عن تمزيق الإمبراطورية العثمانية، وسقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 بفعل ذلك، إلا أن هذا السقوط سيحدث شروخاً عميقة في الجسم الإسلامي. سياسية، وفكرية، سيكون لها بالغ الأثر على الأجيال المتعاقبة في العالم الإسلامي.
ومن نتائج تمزيق الإمبراطورية العثمانية صدور وعد بلفور (وزير خارجية بريطانيا) سنة 1917م الذي يعد مقدمة لنكبة فلسطين التي تشبه في بعض وجوهها نكبة الأندلس، وطرد المسلمين منها بعد سقوط غرناطة سنة 1492..ودعونا- أيها القراء - نلج عالم علال الفاسي، ونستخلص الدروس والعبر من تلك السيرة المباركة ...
مولده ونشأته:
هـو محمد عـلال بن عبـد الواحـد بن عبـد السلام بن عـلال بن عبدالله بن المجذوب الفاسي الفهري .
وُلد بمدينة (فاس) بالمغرب في (8 من المحرم 1328هـ/ 20 من يناير 1910م) ، ونشأ في أسرة عربية مسلمة، تعتزّ بعروبتها، وإسلامها، وجهادها في سبيل الله، وهي أسرة عريقة هاجرت من الأندلس إلى المغرب، واستقرّت في مدينة فاس، وإليها انتسبت، فقيل له: الفاسي، وأحياناً: الفهريّ، نسبة إلى قبيلة بني فهر العربية المجاهدة.
وهي أيضاً أسرة علم، وفضل، ودين، فأبوه عبد الواحد كان من كبار علماء المغرب، وكان مدرساً في جامعة القرويين، وكان قاضياً لعدة سنوات، ومفتياً، وكذلك كان أجداده من العلماء والقضاة والمجاهدين.
دراسته ومراحل تعليمه :
ولما بلغ سن التلقي حتى دفعه والده إلى الكتاب لتعلم القرآن الكريم ،وتعلم مبادئ القراءة والكتابة،، وحفظ القرآن على الفقيه محمد الخمسي الذي حباه الله تعالى بالخط الجميل البارع وعلى الفقيه محمد العلمي، إلى أن حفظه في سن مبكرة، ثم التحق بعد ذلك بإحدى المدارس الابتدائية العربية الحرة التي أنشأها زعماء الحركة الوطنية في فاس للتزود بعلوم اللغة العربية .
ومن ثمَّ انتقل علال الفاسي ليتعلّم بجامع القرويين حتى حصل على الشهادة العالمية عام 1932م، وجامعة القرويين هي واحدة من أهم جامعات العالم الإسلامي، تخرج فيها كل زعماء الحركة الوطنية المغربية، وحفظت لبلاد المغرب لسانها العربي وثقافتها الإسلامية، وبرزت شخصية علال في هذه الفترة وهو لا يزال طالباً، ولفت الأنظار إليه بفصاحته وعذوبة لسانه وقدرته على التأثير في مستمعيه، وجرأته في قول الحق غير هياب ولا وجل.
وهكذا نشأ المناضل علال الفاسي نشأة عصامية جمع بين العلم الديني والحماس الوطني فهو زعيم وطني منذ كان طالبـاً، ومن كبار الخطباء والشعراء والعلمـاء بالـمغرب، وكـان له دور فـي مقـارعة الاستعمـار الفرنسي ومحاربته بكل الوسائل وأهمها نشر التعليم وتنظيم قطاعات الأمة للعمل الجماعي وخوض المعارك السياسية والتصدي لكل مخططات الاستعمار.
وكان فيها من المتفوقين، ذلك أنه لم يكتف بالكتب المقرّرة، وهي مهمة وكثيرة وكبيرة، بل أضاف إلى المقرّر ما كان يجده في مكتبة أبيه العامرة بالكتب، فيدرسها بعمق، حتى تحصّلت لديه ملكة علمية قادته إلى التضلع بعدد من العلوم العربية والتاريخية، والشرعية، والفلسفية، جعلت منه عالماً دقيقاً في أبحاثه، ومفكراً من كبار المفكرين الإسلاميين، وخطيباً مفوّهاً ناصع البيان، شاعري الفكرة، عذب الأسلوب.
المؤثرات في تكوينه :
1- أبوه العالم المجاهد، وأسرته المتدينة، وأصوله العريقة في عروبتها وإسلامها وعلمها وجهادها..
لقد عُني أبوه بتربيته التربية العربية الإسلامية التي يرضى عنها الله تعالى، وتؤهلّه لخدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته، ويكون بها ماجداً وعاملاً لاستعادة أمجاد أمته وإسلامه.. ربّاه على الشجاعة والإقدام وعدم الخوف إلا من الله العزيز الجبار، وربّاه على الجود والكرم أخي الشجاعة ، وعلى الجرأة في قول الحق، والاتزان في إصدار الأحكام بعد تأنٍّ ورويّة.. ورباه على الاستقامة في السلوك، والاستقامة في الفكر، وعدم الشطط في أيّ شأن من شؤون الحياة.. ورباه على الصدق.. صدق اللسان، وصدق اللهجة والعاطفة، وعلى عفّة اللسان والقلم واليد، وعلى الأمانة والإيثار وحبّ الناس، وخاصة الصالحين منهم، والحدب على الفقراء والمساكين، والتواضع لهم، وعلى البساطة في العيش، وسعة الصدر للأصدقاء والخصوم معاً، وعلى الدأب في العمل، وإتقان ما يوكل إليه منه..
ربّاه على حبّ الوطن، والجهاد في سبيل إنقاذه من براثن الاستعمار مهما كلّفه ذلك من ثمن، وعلى مقارعة الظالمين من المستعمرين وأعوانهم وعملائهم، وعلى الإخلاص في القول والعمل، وعلى سائر مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام..
وكانت شخصية علاّل كالأرض العطشى تتشرب كل ما يُلقى فيها من غيث الله، فتشبّع الطفل والفتى والشاب علاّل، وارتوى من كل هذه المعاني، وكان كما أراد له أبوه أن يكون، وكما تريده أمته أن يكون، وبذلك كسب رضى الله عزّ وجلّ، ورضى أبناء شعبه وأمته.
2- بيئته التي تنفّس فيها طفلاً، وفتى يافعاً، وشاباَ نشأ بها في طاعة الله. بيئة (فاس) المدينة العربية المسلمة، وبيئة (القرويين) العلمية الأدبية المجاهدة التي كان يدرّس فيها أبوه، فتعاونت مع أبيه ومع علمائها الأفاضل على تكوين شخصية القائد والزعيم والعالم المجدّد، والمجاهد المقدام المستبسل في سبيل ما آمن به: علاّل الفاسي.
فعلاّل ابن (القرويين) وسليل أسرة علمية تعتز بإيمانها وإسلامها وعروبتها، وطالما كافح أبناؤها العلماء للحفاظ على عقيدة الأمة، ونشر الإسلام بمبادئه ومكارم أخلاقه.
3- عشقه للحرية عشقاً شاعرياً وعقلانياً، وكرهه للاستبداد والمستبدين، وحكم الحزب الواحد، والاستئثار بالحكم دون شورى، وبرلمان، وانتخابات..
4- التعاليم والأفكار التي نادى بها السيد جمال الدين الأفغاني، وكلّها أفكار ثائرة بالاستبداد، والتخلف، والجمود، والرضوخ للإقطاع، والحكام المستبدين.
5- الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم جاء الأفغاني لتتخذ "على يده صبغة جديدة تتسم بطابع الشمول لكل جوانب الفكر والروح والعمل، فأصبحت تهتمّ بالبناء إلى جانب اهتمامها بالهدم، وتبلورت في دعوة قوامها التجديد المطلق لكل مظاهر الحياة الإسلامية، للعقل والدين والعلم، وطريقة المعاش والحكم، وغير ذلك من المعاني".
علال العالم:
كثيرون هم الذين تخرجوا في جامعة القرويين، ولكن الذين كانوا مثل علاّل قلة قليلة.
وكثيرون هم خريجو الجامعات والكليات الشرعية، وأبناء العلماء والمشايخ، ولكن الذين كانوا مثل علاّل أقلّ من القليل، ذلك أن الرجل حباه الله من المواهب ما بزّ به الأقران منذ كان تلميذاً على مقاعد الدرس، بزّهم بعلمه، ومواهبه، وأخلاقه، وأسلوبه المنطقي الجذاب، وخطابته المؤثرة، فقدّموه على أنفسهم، وجعلوه رئيساً وقدوة لهم.
وعندما كبر، كبرت معه مواهبه، واتسعت علومه، وامتدت نظراته وطموحاته وتخطيطاته إلى بعيد، فكان العالم والمصلح والمفكر والزعيم السياسي، وموقد شعلة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال.. وقد تكاملت عدّة شخصيات علمية وإصلاحية في شخصه المهيب.
نهل وعبّ من معين أبيه ومن علماء القرويين، ووقف طويلاً أمام سير عظمائنا الأولين والمعاصرين، وأفاد منهم ضروب العزة والكرامة والاستقلالية في الرأي والموقف.
اطلع على الدعوة السلفية في المشرق، وأحبّها، وأفاد منها في الحرب التي شنّها على الخرافات والبدع وكلّ ما ليس له صلة بهذا الإسلام الحنيف، ونقل الدعوة السلفية إلى المغرب الذي كان يئن تحت وطأة الخرافات والأساطير والمسائل البدعية، فدعا إلى التمسك بالكتاب والسنّة، من أجل صياغة الشخصية الإسلامية السليمة التي يرضى عنها الله ورسوله، ولتكون المؤهلّة لخوض غمار الحياة بثبات، ولمنافسة الآخرين بما امتلأت به وتمتلئ من معاني الإيمان، ومبادئ الدين القويم الصاعد في وجه الأعاصير، القادر على تأهيل الأمة من جديد، بتمسكها بعقيدتها الصافية من كل زيغ، وعملها بما يأمرها به إسلامها القوي العزيز، وباستمدادها من تعاليمه معاني الحرية والكرامة والعزّة العزيزة.
نقل الدعوة السلفية إلى المغرب، ولكنه أهمل منها بعض ما رآه غير مهم، وأضاف إليها ما رآه ضرورياً، وبهذا كانت سلفيته سلفية جديدة بعض الشيء. والذي يطالع كتبه يلحظ هذا، ويثني عليه.
وللأستاذ علاّل إنتاج غزير.. له أكثر من ثلاثين كتاباً في السياسة، والتاريخ، والشريعة، والتربية، وله مئات المقالات نشرها في الصحف المغربية، والمصرية، والسورية، والعراقية، وسواها.. ويا ليت بعض الدارسين المجتهدين من طلبة الدراسات العليا، يجمعون ما كتب، ويبوبونه تبويباً علمياً يكون بمثابة أطروحات ورسائل ماجستير ودكتوراه.. وأنا أعرف أن هذا يكلفّ جهداً عضلياً وفكرياً، ولكنهم سوف يفيدون علماً ومعرفة وثقافة متنوعة، لأنها كتابات عميقة هادفة جادّة، بعيدة الأغوار، تعطي صورة واضحة عن شخصية علاّل، بأبعادها النفسية والفلسفية، يطرح فيها مشروعاً نهضوياً ذا بعد مستقبلي.
ويطيب لي أن أشكر الذين بادروا إلى جمع بعض ما تفرق، من تلاميذه ومن رفاق دربه، وأن أعتب على المتقاعسين منهم، الذين يعرفون الكثير أو القليل مما كتب هذا العملاق الذي تناول العديد من الموضوعات الحيوية التي يحتاجها شعبه المغربي، وأمته العربية والإسلامية.
لقد جمع علاّل بين الثقافة العربية الإسلامية، وبين ألوان الثقافات الأجنبية، فقد كان نهماً في القراءة، في سائر مجالي الحياة الفكرية والثقافية والحضارية.. قرأ لعدد كبير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة الغربيين، وقام بعملية فرز ميّزت الثمين السمين من الغثّ والهزيل، فمضغ الثمين وهضمه، ونبذ الغثّ ولفظه، فانضاف ما أخذه من الغرب إلى ما كان اختزنه من العلوم العربية والشرعية، ثم قدّمه شهياً لقرائه ومحبّيه وعشّاق الأصالة والتجديد.
جهوده في الإصلاح :
دعا الزعيم علال الفاسي إلى إنشاء مدرسة يربي فيها الطلاب تربية إسلامية متينة، فأنشأ المدرسة الناصرية، وكان علاّل الفاسي أحد مدرسيها، فكان له في طلبتها أثر محمود رغم صغر سنه .
كوّن جمعية سرية من الشباب المؤمن في جامعة القرويين لمقاومة الاستعمار الفرنسي، واختاره زملاؤه رئيساً لهذه الجمعية يقود جهادها، ويدير شؤونها .
فنبه إلى مقاصد الاستعمار، وطالب بإصلاح المجالس البلدية، وإصلاح التعليم وخاصة في جامعة القرويين التي كان أحد طلابها ثم واحداً من ألمع مدرسيها، وكان لجهاده في هذا الميدان أثر ملموس .
وبصّر الناس بحقيقة الدين، وعمل على تنقيته من البدع والشعوذة .
وقاوم سياسة فرنسة التي تبنت الظهير البربري لزرع الفرقة بين العرب وإخوانهم المسلمين في المغرب .
اعتقل من قبل الاحتلال لمدة شهر، ثم أفرج عنه .
ثم عادت لاعتقاله مرة أخرى، ونفته إلى جبال الأطلس بعيداً عن الجماهير التي كانت تتأثر به، وتؤثره .
وعاد بعد النفي أصلب عوداً ، وأشد بأساً ، فلمع اسمه بين الناس .
اعتقد علاّل الفاسي اعتقاداً جازماً أن الإسلام طريق النهضة، فراح يعقد الدروس المسائية في جامعة القرويين، ويلقي فيها دروساً في التاريخ الإسلامي، تهدف إلى تربية الأمة تربية إسلامية تثير العزة في النفوس، وتبعث فيها روح المقاومة الإسلامية للاستبداد والظلم والقهر .
وحاولت فرنسة منع دروسه في التاريخ؛ لأنها تريد تشويه التاريخ الإسلامي، وإبراز مواطن الخلاف فيه .
فحاولت اعتقاله سنة 1933م، وهو عائد من طنجة إلى فاس، ولكنه علم بما يدبر له، فترك طنجة إلى أوربة حيث بدأ اتصالاته بالشخصيات الإسلامية المجاهدة التي ألجأتها ظروف بلادها إلى الهجرة هناك، وكان أبرز من اتصل بهم في هذه الفترة الأمير شكيب أرسلان .
عاد إلى أرض الوطن سنة 1934م، وتابع دروسه في التاريخ الإسلامي، فاشتد الإقبال على هذه الدروس وازداد تأثر الناس بها .
أسس مع إخوانه كتلة العمل الوطني، وبلغت هذه الكتلة ذروة نشاطها عام 1936م، فراحت تعقد المؤتمرات، وتقيم التجمعات الشعبية، وتلح على مطالبها الوطنية .
وفي الاجتماع الشعبي في الدار البيضاء تدخلت القوات الفرنسية، واعتقلت قادة الكتلة الوطنية وعلى رأسهم علاّل الفاسي .
ثم أعادت اعتقاله سنة 1937م ، ونفته إلى الغابون، واستمر نفيه تسع سنوات، وكان فيها دائم الاتصال برجال حزبه وبالمجاهدين في بلاده .
وبعد عودته من المنفى أسس حزب الاستقلال .
اتصل بجامعة الدول العربية ودعاها لتؤدي واجبها نحو المغرب، وعاد إلى طنجة عام 1948م، وأخذ يوجه حزب الاستقلال في جهاده ضد الفرنسيين .
وبعد اعتقال فرنسة للملك محمد الخامس أصدر نداء القاهرة، وفيه أعلن الجهاد المسلح ضد الاحتلال الفرنسي، وأشرف بنفسه على إعداد جيش التحرير، وعلى تزويده بالسلاح .
اختاره الملك محمد الخامس رئيساً للمجلس التأسيسي ليضع دستوراً للبلاد عام 1960م، وبالرغم من فشل المجلس لأسباب سياسية إلا أن بصمات علاّل الفاسي كانت موجودة في دستور 1962م .
اختير عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
وفي المجمع العلمي العربي بدمشق .
انتخب رئيساً لهيئة دائرة معارف المغرب العربي ( القسم المغربي ) .
جهاده وجهوده :
عارض منح الفرنسيين استغلال ماء مدينة فاس، وعارضهم حين أصدروا الظهير البربري لشقّ صفوف الأمة المغربية سنة 1930م، فاعتقلته السلطات الفرنسية، وهو طالب بالعالمية، ويعمل مدرساً في المدرسة الناصرية، ونفته إلى بلدة (تازة)، ثم عاد بعد الإفراج عنه إلى فاس سنة 1931م، فمنعته من التدريس، فانصرف إلى جامع القرويين يلقي الدروس العلمية الليلية عن تاريخ الإسلام.
وفي عام 1933م حاولت الإدارة الفرنسية اعتقاله، فسافر إلى إسبانيا وسويسرا، واتصل بالأمير شكيب أرسلان وإخوانه المناضلين العرب والمسلمين، ثم عاد إلى البلاد عام 1934م، وأسس أول نقابة للعمال سنة 1936م، وأنشأ كتلة العمل الوطني السرية سنة 1937م فأبعدته السلطات إلى (الغابون) منفياً من سنة 1937م إلى سنة 1941م، ثم نُقل إلى (الكونغو) من سنة 1941م إلى سنة 1946م، وهناك أُطلق سراحه، فأنشأ مع رفاقه (حزب الاستقلال)، ثم سافر متنقلاً بين البلاد العربية والأوروبية يدعو لاستقلال المغرب عن فرنسا، وعاد إلى المغرب سنة 1949م، فمنعه الفرنسيون من الدخول، فأقام بمدينة (طنجة)، وكانت يومئذ منطقة دولية.
وحين أُبعد الملك محمد الخامس سنة 1953م، ونُفي من البلاد، دعا علال الفاسي الشعب المغربي للثورة ضد فرنسا وحين رجع الملك، واستقرّت الأمور شارك في الحكم فترة قصيرة بعد وفاة محمد الخامس، حيث تولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961م، ثم استقال عام 1963م.
ثم انصرف من خلال الحزب (حزب الاستقلال) إلى المعارضة غير العنيفة في مجلس النواب الذي كان عضواً فيه، وبقي رئيساً للحزب من 1960م إلى عام 1967م.
ـ الوطني الثائر :
بدأ نجم علال الفاسي يلمع في سماء السياسة في أواخر العشرينات ...، ثم أصبح أحد قادة كتلة العمل الوطني ومنذ مطلع الثلاثينيات، وهو يتصدر زعامة الحركة الوطنية إلى أن توفي سنة 1974م .
ـ الوطنية المغربية هي تقدمية في الدين، والفكر، والعلم ، والأدب، وهي إبداع في السياسة، والاجتماع، والريادة رسالة يتحمل مسؤوليتها القادة ...
والماهدون بطبيعتهم ثوريون في فكرهم، وعملهم، وممارستهم، يقومون دائماً بتغيير الواقع الأسن الراكد والمتخلف، فهم عنه غير راضين ...
ثورتهم تنبع من فكرهم الخلاق، ونظرتهم التاريخية، وتنبع أيضاً من نظرتهم المستقبلية وحلمهم الذي لا حد لآفاقه.
عاش العلامة علال الفاسي حياة متحركة، أكسبته شخصية ذات أبعاد متعددة (الوطني والمناضل والمفكر والعالم والكاتب والشاعر والخطيب) فهو من نماذج زعماء الثورات الكبرى الذين لا يناضلون من منطلق عاطفي أو فلسفي، لأن فكره الوطني شمولي، ولذلك كانت الوطنية هي مفتاح شخصيته.
ولعل ما جعل وطنيته صلبة، أنه درس التاريخ، تاريخ المغرب وجغرافيته وموقعه الاستراتيجي.. فالوطنية عنده لا يحددها التاريخ وحده أو الأرض والإنسان، ولكنها مدينة لكل ذلك ولأكبر من ذلك وهو الإنسانية..
ويؤكد بأن الفكر الوطني ينبع من التحام النموذج النفسي بروح الأرض والتحامها بروح العصر.
لهذا فهو ينظر إلى المغرب العربي على أنه وطن للمغاربة وإلى الوطن العربي بأنه نموذج للوحدات الثقافية والحضارية والجغرافية
وإلى العالم الإسلامي على أنه وطن للمسلمين الذين توحدهم العقيدة، ويمكن أن يتعاونوا من خلالها سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً (23) ، وهو منظر ( النظرية عنده تسبق الفعل وهي أساسه) يدرس الموضوع، ويتعمق فيه قبل أن يصدر فيه رأياً فيأخذ الطابع المذهبي والنظري.
كان يكره التقليد في العقيدة والممارسة الدينية والاجتماعية، ويؤمن بالاجتهاد، ويمارسه في تنظيره الفقهي.
يؤصل النظريات السياسية في البناء الديمقراطي، وتحديث الدولة المغربية، وفي وحدة المغرب العربي، والوحدة الإسلامية، كما يؤصل للنظريات الاجتماعية، والاقتصادية من أجل تحرير المجتمع من كل مظاهر التخلف ..
إنما نتحراه من شخصية علال الفاسي الثرية التي تجمع في بوتقة واحدة عناصر الفكر والعلم والنضال السياسي هو أن تكون قوة حية تلهم الأجيال، وتنير لها معالم الطريق وينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن فيما تفيض به من حياة إنسانية كريمة.
وقد اضطلع الرجل بأمانة العقيدة وأمانة الفكر، وأمانة الحق وأمانة الإخلاص للخلق والخالق، فهو إذن أولى أن يأتمّ به المقتدي من طلاب القدوة الحسنة الذين يتطلعون الى تجديد الفكر والعمل في كل مجال أو ميدان من ميادين الحياة الإنسانية الخصبة المثمرة.
ـ الفكر الحر: السلفي الفيلسوف :
يتغنى علال الفاسي بالحرية، فيقول:
الحرية جهادنا حتى نراها والتضحية سبيلنا إلى لقاها
ولا غرو في ذلك باعتبار أن الحرية هي القيمة الأساسية والمتركز الذي يقوم عليه فكره كله، انطلاقا من إيمانه بأن تاريخ الإنسانية كله هو تاريخ الحرية.
وما كان كفاح قوم إلا من أجل الحرية، لأنها الغاية التي نسعى لها عن طريق العمل وبالتالي تضفي على العمل صفته وخاصيته وتجلي قيمته ولذلك فهي مرادفة للمدنية أو الحضارة.
ويرى بأن أول مظهر للحرية هو حرية الإرادة أي أن أكون حرا في أن أريد، وأن لا أريد.. ثم أن أعمل ما أريد أولا أعمل...
"ذلك هو المفهوم البدائي للحرية أي الحرية المطلقة" .
العقل يعقل الأشياء بذاته دون إلزام من الخارج. الأمر الذي يجعل من الإيمان اقتناع واطمئنان وبالتالي فإن الإيمان الظاهري ليس بإيمان فالإيمان الحق هو الإيمان الباطني.
إن العقل وسيلة وأداة للمعرفة ولكن في حركته مع الحياة أي مع معطياتها والتجربة الوجودية وسيلة للمعرفة ولكن في تفاعلها مع العمل أي مع الوعي الإنساني الباحث عن الوجود أي عن الاستقلال .
هناك إذن حرية مطلقة، لا متناهية، وهي من صفات المطلق اللامتناهية.. أي أن أعظم صفات الله قدرته على ما يشاء، وكل شيء يصدر عن إرادته...
لقد شغل الشعور بحرية النفس منذ قرون الفلاسفة والمفكرون (أرسطو، وابن سينا والغزالي، وديكارت، وكانط، ومالبرنش، وسبينوزا، وبرجسون..) وغيرهم.
الجبريون أنصار نظرية الجبر يقولون بخضوع كل شيء لناموس طبيعي، وأن النفس والضمير يخضعان لعوامل خارجية.
وهذا بالفعل ما يحقر من صفة الضمير الواعي الذي يجعل الإنسان يختار بحرية ومسؤولية، باعتبار أن الحرية أقصى درجات المسؤولية كما يرى ديكارت، مما يؤكد أن المشاحنات الفلسفية كما يرى برجسون إنما هي جهل بجوهر الحرية التي هي أعظم صفات الوجدان الإنساني.
فالحرية إذن تتحقق بالمواءمة بين المعرفة والإرادة، وليست مجرد شعور ثابت..
فالاختيار حسب ديكارت ناشئ عن بداهة فكري أو من ترتيب في باطن ذهني من الله، أما عدم الاختيار بين أحد أمرين، فهو أدنى درجات الحرية... كما أن عدم الاهتمام ما هو إلا نقص في المعرفة، وليس نتيجة كمال في الإرادة.
وكلما عرفت ما هو حق، وما هو خير يسهل الإمعان في الاختيار وفي الحكم " (27) ومن هذا المنطلق فإن إرادة الحرية الإنسانية تتجلى في مقدرة الإنسان على تكوين أحكام ثابتة على الضرورة الموضوعية.. ومن ثم فإن الحرية في الواقع حق اجتماعي وإنساني تفرضه ضرورة الحياة وحاجة الناس إلى التعايش فيما بينهم والحرية لازمة لتقدم المعرفة، وهي سابقة على الطبيعة، ولو لا ضرورة ظهورها ما كانت الطبيعة..
ومن تجليات الحرية أن القانون ما هو إلا مظهر الإرادة العامة يساهم المواطنون بأنفسهم، أو عن طريق ممثليهم في وضعه.
فالقانون لا يضع حدا للحرية، أو يقيدها كما يرى روسو، بل هو تعميم لها إذا كان فعلاً يعكس حقيقة الإرادة العامة..
ضمن هذا السياق الفلسفي يتناول علال الفاسي في كتابه "الحرية" كل القضايا والإشكاليات الفكرية بالشرح والتحليل، مع ربط كل مسألة يعالجها بالحرية باعتبار أن كل شيء يبدأ من الحرية، وينتهي إلى الحرية ..
كيف يتحقق التوازن بين المصلحة العامة والخاصة ؟
وما هي الحرية التي تضمن للناس أن يتعايشوا فيما بينهم في حدود القانون، وفي دائرة التضامن العام؟.
يجيب بأن الأمر لا يتعلق بحرية النفس التي هي مطلقة؛ لأنها خاصة بالفكر وعلاقته بالإرادة وبالواقع، ولكنها الحرية المدنية التي مناطها الحياة الاجتماعية، وهي الحريات الأساسية لأنها تتعلق بحياة الإنسان .
تم يعرض لبعض أصناف الحريات المدنية :
الحرية القومية ، وتعني الاستقلال الوطني استقلالاً تاماً من سيطرة الأجنبي أو التبعية له والحرية الوطنية حق للجميع.. وكلُّ اعتداء عليها يعتبر جرماً إنسانياً خطيراً .
الحرية الشخصية تعني أن لكل شخص الحق في أن يبقى حراً دائم الحرية لا يعتدي أحد على حريته الشخصية .
وضمان الحريات الفردية إنما يتحقق بضمان الحريات السياسية، إن مبرر نشوء الدولة هو ضمان حرية الأفراد، وتعميمها، والمحافظة عليها.. وذلك بإلزام الجميع باحترام القانون.
وحرية الفكر من أعظم مظاهر الحرية كافحت من أجلها الشعوب، وضحى في سبيلها الأبطال، ومن العبث أن يحاول أحد إلزام فرد أو جماعة برأي معين لأن الرأي شيء باطني، وكل إكراه لا يتعدى حدود الظاهر.
أما الحرية السياسية فهي حرية العمل في الميدان العام والمشاركة في تدبير شؤون البلاد، كالإدارة والأمن ووضع النظم والقوانين، وما يرجع للعلاقات الخارجية والتعليم والقضاء، والإنتاج الاستهلاك ونحو ذلك.. وللتمتع بهذه الحرية يجب أن يكون البلد مستقلاً الاستقلال التام .
-وثانياً يجب أن لا يكون هناك نظام استبدادي أو مطلق يجعل السلطة كلها في يد فرد أو جماعة لا تؤمن بحق الشعب في المساهمة في الحكم ومراقبته.
- وثالثاً يجب أن يكون الحكم.
مسنداً من الشعب لأنه نتيجة اختياره ورضاه فإذا لم تتحقق هذه الشروط فإن الحرية تصبح مجرد تنفيس كما أن سلامة الشعب من الفاقة والبؤس وسيطرة أصحاب المصالح عليه.
يمكن اعتباره من الشروط، لأنه لا أحد يستطيع التمتع بالحرية السياسية على وجهها إذا كان عيشه منوطاً برضا مجموعة من الناس، أو كان الحاكمون خاضعين في تصرفاتهم وأعمالهم لما يريده أصحاب الثراء ورجال المال.
إن كل نظام للحكم قد يأتي بإصلاحات ومنافع لكن الحرية السياسية لا تتحقق إلا في الحكم الديمقراطي أي النظام الذي يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه...
والصحافة أداة لابد منها لجس نبض الرأي العام ومعرفة توجيهاته وفي مقارعة الأفكار بعضها ببعض تنبثق النظرية الصحيحة والرأي المقبول.. والأحزاب مدرسة تثقيفية لا غنى للشعب عنها.
الحرية إذن قوام فكر علال الفاسي باعتبارها لازمة من لوازم الجماعة البشرية، وخير وسيلة لتطور الأنظمة والقوانين والانتقال من حالة إلى أخرى. في غير رجة ولا اضطراب.
فبالحرية تتطور المجتمعات، وبانتكاسة الحرية ترتكس المجتمعات.
وانطلاقاً من هذه الجدلية فإن تطور المجتمع في كل شأن من شؤون الحياة مرتبط بنمو الحرية، لأنها قيمة إيمانية، وإنسانية لا غنى عنها لمن يريد صلاح الفكر أو صلاح العمل..
وهذا هو المرتكز والأساس الذي قامت عليه الحركة السلفية الإصلاحية التي يعد علال الفاسي من أقطابها وقادتها البارزين المجددين.
الزعيم المهاجر :
ثم هاجر من بلده مطارداً من الاستعمار وأعوانه، وطاف الأقطار العربية والإسلامية والعالمية معرِّفاً بقضية بلاده، معرِّياً أساليب الاستعمار ووسائله، كاشفاً خططه ومراميه، موضِّحاً الطريق لاسترداد الحق ونيل الاستقلال وإقامة الشرع.
وقد حيّاه الأديب الكبير علي أحمد باكثير بقصيدة جاء فيها:
ذكرتك يا علال والناس هجّع
وليس سوى جفني وجفنك ساهد
وللهمِّ حزٌّ في فؤادي قاطع
ولليأس فتك في أمانيّ حاصد
تكاد الدّجى تقضي عليّ لأنها
دجى العرب تاهت في عماها المقاصد
تداعت على قومي الشعوب فما وَنَتْ
مصادرها عن حوضهم والموارد
ذكرتك يا علال فانتابني الأسى
أكابد من آلامه ما أكابد
كأني أنا المنفي دونك فاصطبر
فهذا شعور في بني العرب سائد
وددت لو اني في فلسطين ثائر
لأهلي تنعاني الظبى لا القصائد
وفي برقة أو في الجزائر قاصم
ظهور العدى والباترات رواعد
فتلك بلادي لا أفرق بينها
لها طارف في مجد قومي وتالد
وقد استجاب لنداء علال الفاسي الكثير من داخل البلاد وخارجها، والتفّ حوله الشباب واتخذوه زعيماً لهم وقائداً لمسيرتهم، فانطلق بهم مجمعاً لصفوفهم، شارحاً لهم خطوات العمل ومراحل الجهاد وأعباءه وتكاليفه. وقد استطاع في هذه الجولات أن يتصل بالكثيرين من القادة والزعماء والمجاهدين في العالم الإسلامي أمثال : الإمام حسن البنا، ومحمد صالح حرب، والحاج أمين الحسيني، ومحمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني، وحسن الهضيبي.... وغيرهم.
دوره في المجامع العلمية:
ولأن علاّلاً بلغت شهرته ما بلغ الإسلام والعربية في المشرق، وطبّقت شهرته آفاقه، اختاره المجمع اللغوي في القاهرة، عضواً مراسلاً له، وكذلك فعل مجمع اللغة العربية بدمشق (المجمع العلمي العربي بدمشق).
دوره في الإعلام:
كان الأستاذ علال الفاسي عارفاً أهمية الإعلام بأساليبه الحديثة التي تمكّنه من حمل أفكاره ونقلها إلى عدد أكبر بكثير مما يستطيعه الكتاب، على أهمية الكتاب، وكان مما أتيح له من وسائل الإعلام، الصحافة والإذاعة، فلم يضيّع فرصة أتيحت له إلا اهتبلها، وبادر إلى استخدامها، فكانت له أحاديثه الإذاعية في إذاعة القاهرة، أو الإذاعة المصرية التي شرح فيها قضية بلاده، وكل بلاد العروبة والإسلام بلاده، تحدّث عن القضية المغربية، وعن الاستعمار الغاشم الذي هو من جملة الحملات الصليبية، وامتداد لها في العصر الحديث، وعندما كانت تأتيه الفرص في الإذاعات العربية والإسلامية الأخرى، يسرع إليها، ويفضي إلى مستمعيه بما ينبغي للداعية والسياسي والمجاهد أن يفضوا به إليهم توعية لهم، وشرحاً لقضاياهم، وتوجيهاً.
كما كتب في الصحابة المصرية وغيرها من الصحف العربية والأجنبية، ولم يكتف بهذا، بل عمد إلى تأسيس مجلة باسم (التضامن الإسلامي) شرح فيها فكرة التضامن بين الشعوب المغربية والعربية والإسلامية، والفوائد الجليلة التي تجنيها الشعوب منها.
كما أسس جريدة (العلم) لتكون الناطقة الرسمية باسم حزب الاستقلال الذي أسسه ورأسه..
علال المجاهد:
منذ فتح الطفل علال عينيه على هذه الدنيا، ووعى ما يحيط به، رأى شعبه ينوء بثقل المستعمرين الغزاة الذين جاؤوا ليعتدوا على أرضه وكرامته ودينه، وينهبوا ثرواته، وينفّسوا عن أحقاد تاريخية دفينة أتاح لهم ضعف المسلمين التنفيس عنها، في مظالم قاسية لم توفّر دماً، ولا عرضاً ولا مالاً، ولا أخلاقاً، ولا شيئاًُ تطوله أيديهم وقواهم العسكرية الهمجية.
وعندما بلغ مبلغ الفتيان، وصار تلميذا نجيباً، بادر إلى تشكيل جمعية طلابية معادية للوجود الاستعماري على أرضه، وانتخبه الطلاب رئيساً لها، لما أوتي من صفات تؤهله للقيادة، فكان يقود المظاهرات ويشارك في المؤتمرات التي تندد بالاستعمار، وكان أبوه يحرّضه ويشجعه على النضال، ويرى فيه من الذكاء والصلابة ما يجعله زعيماً مجاهداً في قابل الأيام.
ثم شكّل كتلة العمل الوطني، وانتخب رئيساً لها، وعندما قرر الاستعمار إلغاءها سارع إلى تشكيل الحزب الوطني برئاسته أيضاً، وعقد مؤتمرات شعبية، خاطب فيها الجماهير الغفيرة، وشرح لها أهداف كتلة العمل الوطني، وأهداف الحزب الوطني، ولخصها بوجوب انسحاب الاستعمار الفرنسي من دياره، وبالاستقلال التام.
ومن أجل هذا الهدف النبيل، بادر إلى تشكيل جيش التحرير وهو في القاهرة، وزوّده بالرأي وبالمال والسلاح، فهو لا يرضى ولا يرتاح، إلا إذا رأى بلاد العرب والمسلمين تعيش الحياة التي ترتضيها لنفسها في جواء العروبة والإسلام، حياة عزيزة كريمة، كتلك التي كانت لأجدادها في العهود الزاهرة.
وكان يناضل الفرنسيين من أجل حماية الشخصية الإسلامية بالإسلام، من أخطار خطيرة، جاءت بها فرنسا المستعمرة، هي خطر الكهنوتية، وسلاح الإلحاد، وسلاح العهر والفجور والدعارة والخمور.. كان يقول للناس: فرنسا لا تريد لنا تقدماً إلا بالتفرنس والبعد عن العروبة والإسلام، وعن كل ما يمت إليهما بصلة من القيم والفضائل، وإلا باستبدال اللغتين: الفرنسية والبربرية باللغة العربية، وإحلالهما محلها.
كان يرى في الاستعمار أكثر من لون قاتم:
- فهناك الاستعمار السياسي المدعوم باحتلال عسكري غاشم.
- وهناك استعمار اقتصادي لعله أخطر من الاستعمار السياسي أو لا يقلّ عنه خطراً.
- وهناك الاستعمار الثقافي الذي يستهدف هوية الإنسان المسلم في دينه، وعروبته، وتاريخه، ولغته، وسائر قيمه.
لقد كان علاّل عدواً لدوداً للاستعمار بشتى أشكاله وألوانه، وخصماً عنيداً للمتعاونين معه والمهادنين له، وكان المستعمرون يعرفون هذا منه، ويقفون في وجهه بقوة، ولكنه ما كان يبالي بما يصيبه من أذى في سبيل تحقيق الهدف الرئيس له، ألا وهو الاستقلال.
الاعتقال والمنفى:
من أجل ذلك، تعرّض علال للاعتقال مراراً، وكان في كل مرة يخرج من معتقله أشدّ إيماناً بقضيته، واستمساكاً بها، ورفضاً لأيّ تفاوض مع المستعمر إلا بعد الجلاء والاستقلال.
في عام 1930م اعتقلته السلطات الاستعمارية، على أثر المظاهرات التي قاد بعضها، وشارك في بعضها الآخر ضدّ مشروع (الظهير البربري)، وضربوه، وعذّبوه، ثم نفوه إلى بلدة (تازة) وعندما أفرجوا عنه، عاد إلى مدينته (فاس) عام 1931م، وحاول العودة إلى التدريس، فمنعته السلطات الاستعمارية، فصار يدرّس الناس في بيته، ويتابع دراسته في القرويين.
وفي عام 1937 م أعادوا اعتقاله، ونفوه إلى الغابون في إفريقيا الاستوائية، وبعد أربع سنوات (1941) نقلوه إلى الكونغو خمس سنين أخرى، فكان مجموع سني نفيه تسع سنوات أمضاها مقطوعاً عن العالم الخارجي، فلا صحف ولا زيارات، ولا لقاء بأحد سوى سجّانيه الفرنسيين القساة العتاة الذين كانوا يمارسون ألواناً من التمييز العنصري، كما رأى الظلم الذي يوقعه الفرنسيون بالأفارقة السود.
وأفاد السجين المنفي علاّل من عزلته هذه، وانطلق يفكر في الأساليب التي يجب أن ينتهجها من أجل تحرير وطنه وشعبه من ربقة الاستعمار، وكان يهتبل فرصة وجود بعض الضباط السجانين والزائرين، ليشرح لهم قضية شعبه، ويحاورهم في ضرورة استقلاله بكل جرأة وصراحة ووضوح، فيلقى الصدّ والتعنيف حيناً، والاحترام والقبول حيناً آخر، وكان بعض أولئك الضباط والمحاورين ينقلون إلى رؤسائهم آراء علال، وكان بعضهم يتعاطف معه.
قال له المسيو لوارنسييه يوماً:
"إن وزارتي الخارجية، الإنكليزية والأمريكية طلبتا من الجنرال ديجول إطلاق سراحك رسمياً، وأن تدخل مع جيوش الحلفاء، مع قبول شرطك في إعلان الاستقلال... ولكن الجنرال ديغول غضوب مثلكم، فقد كان يريد وضع حل للقضية المغربية بالاتفاق معكم، ولكن طلب الإنكليز والأمير كان إطلاق سراحكم، وإعلان استقلال المغرب، أحدث في نفسه تخوّفات، وبعث فيه روح الرجل الذي لا يحب أن يعمل تحت الضغط".
وهكذا كان علاّل ملء السمع والبصر والعقل والقلب، يحاربه أعداؤه والمستعمرون، ويضيقون بأفكاره الوطنية والعربية والإسلامية، فيعتقلونه، وينفونه، ويعذّبونه، ولكنهم يحترمونه، ويعرفون أنه الناطق الرسمي باسم الشعب المغربي، والممثل الشخصي له، وكلمته هي الكلمة الفصل، وحزبه هو الحزب الذي يجب أن يتفاوضوا معه، فمسيرة الرجل المجاهد علاّل، وشخصيته الفذّة، ومواقفه الصريحة الجريئة التي كلفته الكثير من الأذى، وأقنعتهم أن علالاً هو الرجل الجدير بالتفاوض والاحترام، لأنه ما كان يعمل لمجد شخصي، أو مصلحة ذاتية أو قبلية أو حزبية، وإنما كانت كل تلك التكاليف ثمناً لمبدأ آمن به وناضل من أجله، هو إنجاز الاستقلال لأرضه وشعبه.
أسفاره:
كان علاّل كثير الأسفار، وسيع الاتصالات والعلاقات بالحركات التحررية والاستقلالية والعربية والإسلامية، وكانت صلاته بالمشرق العربي وثيقة عميقة، وكنا، ونحن صغار، لا نكاد نعرف من المغرب العربي سوى علال الفاسي، يقيم في القاهرة، ويزور دمشق وبغداد، ويكتب في صحفها، ويحاضر في منتدياتها، ويتحدث في إذاعاتها، ويحاور قادتها، ويعقد الصداقات والمودات مع رجالاتها، فعرفناه معرفة جيدة وعن كثب، وأحببنا منطقه ولهجته المغربية، وحاولنا تقليده فيها، كما كنا نعرف ونقلّد ونحبّ مشايخنا: البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني من الجزائر، ومحيي الدين القليبي من تونس، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وعبد العزيز علي، وعز الدين إبراهيم، وسعد الدين الوليلي من مصر.
زار العواصم العربية والأوروبية وأمريكا من أجل تحرير بلاده واستقلالها، ومن أجل تحرير سائر بلدان المسلمين، وخاصة فلسطين التي كانت تتمركز في عقله وقلبه، والقدس الشريف، فقد أولاهما جلّ اهتمامه، لأنهما قضية الإسلام والمسلمين في العصر الحاضر، ولا ينبغي للعرب والمسلمين أن ينشغلوا عنهما لحظة من زمن، ولا ينبغي لهم أن يقدّموا عليهما أيّ قضية أخرى، فهما الأولى في سلّم الأولويات.
لقد بذل علاّل كثيراً من أجل فلسطين والقدس، حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة
القائد الجماهيري:
كان علاّل زعيماً حقيقياً، نال الزعامة عن جدارة، فقد تجمّعت لديه كلّ مقوّمات الزعامة والقيادة، وجعلته يمتلك ناصية الشارع السياسي في بلاده، فكان الأبرز بين سائر الزعماء الوطنيين، وكان الأقرب إلى قلوب الناس، فأقبلوا عليه يستمعون له، ويتحاورون معه، ويخرجون من عنده وقد ازدادوا به ثقة، وله سمعاً وطاعة، فقد قرؤوا في عينيه وفي قسمات وجهه كلّ الصدق والإخلاص، ووجدوا عنده الدفء، الذي طالما افتقدوه لدى الوجهاء والعلماء.. كانوا يسمعون كلماته العذبة التي تحمل لهم جوانب من عقله الكبير، فتنفذ إلى عقولهم، وتلتقي قلوبهم قلبه الكبير العامر بالحنان والحبّ، فيرونه واحداً منهم، ولكنه يكبرهم فيحنو عليهم حنوّ الكبير على الصغير.
كان شعوره كشعورهم، يجلس إلى الفقراء والبسطاء منهم.. إلى العمال والفلاحين، ويستمع إلى همومهم ومشكلاتهم، ويسعى في حلّها كأيّ أخ كبير مع إخوته الذين يصغرونه.. يقدّم لهم العون، ويفرح لأفراحهم، ويترح لأتراحهم، ويتسع صدره لسلبياتهم وإيجابياتهم ويقدّم لهم من ذات نفسه وراحته وماله بأريحية ورضى لكل من الخصم والنصير.
علال القائد الحركي :
كان علاّل منظّراً ومنظّماً.. ظهرت هاتان فيه منذ صغره عندما أسس جمعية طلابية ضد الاستعمار الفرنسي، وتسلّم رئاستها، ثم في كتلة العمل الوطني، ثم في الحزب الوطني، ثم في حزب الاستقلال ثم في جيش التحرير، ثم في تأسيس نقابة للعمال، وعندما كان مدرساً في المدرسة الناصرية التي أسهم في تأسيسها، والتخطيط لمناهجها وبرامجها.
ثم وهو وزير للشؤون الإسلامية، ثم وهو وزير للعدل، ثم وهو رئيس للمجلس التأسيسي الذي وضع دستور المغرب عام 1960، وترك علاّل بصماته بوضوح عليه. ثم في مجلس النواب الذي اختير عضواً فيه عام 1963 وكانت بصماته ظاهرة في قراراته، ثم وهو رئيس منتخب لهيئة دائرة معارف المغرب، ثم وهو عضو في رابطة العالم الإسلامي.
حزب الاستقلال:
شكّل علاّل حزب الاستقلال بعد عودته من منفاه عام 1946م، ودعا في دستوره إلى انضمام بلاده إلى الجامعة العربية الوليدة، بدلاً من (الاتحاد الفرنسي) الاستعماري.
وقد وضع لهذا الحزب نظامه الخاص، ووضح رؤاه للحاضر والمستقبل، ولعل أهم ما نادى به:
- الاستقلال.. فهو الشرط الأساسي لإقلاع المغرب، والنهوض به، وهذا الاستقلال يعني وحدة سائر التراب المغربي، وتحرره من الاستعمار البغيض.
- الحرية بسائر أشكالها الفردية والجماعية.. حرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية العمل الحزبي.. الحريّة التي لا يحدّها سوى حدود حرية الآخرين، ولا تقف إلا عند تخومهم فلا تتعدّاها.
- وهذه الحرية جزء من الديمقراطية التي تتفق في بعض جوانبها مع مبادئ الإسلامي وتعاليمه، لأن المغرب عربي مسلم وجزء من الأمة الإسلامية.
- ولهذا طالب بدستور ديموقراطي يعترف بحقوق الإنسان.
- ورأي أن يُنصّ في الدستور على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وعلى أن الإسلام هو دين الدولة.
- وأن ينص على أن المغاربة متساوون أمام القانون، ولا امتياز لأحد على أحد.
- وأن يكون القضاء عادلاً مستمداً من الشريعة الإسلامية، ومن مبادئه رفعُ المستوى الأخلاقي للشعب.
- وأن يكون التعليم مجانياً وإجبارياً.
- وأن تكون الرعاية الصحية للجميع، وفي تحسّن مطّرد.
- وأن ينص على تحسين أحوال العمال والفلاحين وسائر الفقراء.
- وأن تكون السياسة الخارجية منسجمة مع المصالح العربية التي تربطنا بها روابط دينية وتاريخية وثقافية، وبالانضمام إلى جامعة الدول العربية، يبني المغرب مع العرب صرح سلام عالمي، يكون لصالح البشرية جمعاء.
داعية الوحدة :
كما علاّل داعية التحرير والاستقلال، هو داعية الوحدة والتوحيد، والوحدة عنده محصورة في أربع دوائر:
الأولى: وحدة التراب المغربي، أو الوحدة الوطنية، وكان علال رمزها الكبير، والمنافح عنها، والمستميت في سبيلها، المتصدّي لمن يعمل من أجل زعزعتها، استعماراً كان أومن أصحاب الأهواء والمصالح الشخصية الضيقة، أو المنافقين والعملاء في الداخل.
الثانية: الوحدة المغاربية التي تجمع وتوحّد الأقطار الثلاثة: المغرب، والجزائر، وتونس، بل إنه يجعل القطر المصري مشمولاً بهذه الوحدة، لأنه امتداد طبيعي وتاريخي لأقطار المغرب العربي.
دعا إلى هذه الوحدة بقوة، وعدّها ماهدة للوحدة العربية الكبرى.
الثالثة: الوحدة العربية الشاملة لسائر أقطار العروبة، ويعدّها مقدمة للوحدة الإسلامية. ويرى أن مقوّمات هذه الوحدة موجودة بقوة، وأهمها الإسلام، واللغة العربية، والتاريخ المشترك، وسواها من المقومات الطبيعية والبشرية.
الرابعة: الوحدة الإسلامية.
ألقى علاّل محاضرة قيمة ومرتجلة في (رابطة العالم الإسلامي) في مكة المكرمة في الرابع عشر من ذي الحجة عام 1388-5/3/1969م بعنوان: (نحو وحدة إسلامية) دعا فيها إلى الاتحاد الإسلامي، أو إلى التضامن الإسلامي الذي كان الشغل الشاغل للعديد من المفكرين والقيادات الإسلامية، كالملك فيصل، والرئيس أحمدو بيلو وسواهما، وكان علاّل من أشدّ المتحمّسين لها، الداعين إلى قيامها، وكان جمال عبد الناصر ومن معه من القوميين واليساريين والعلمانيين من أشدّ المعادين لها في تحركاتهم ومؤامراتهم وإعلامهم البذيء وهذه الدعوة أثمرت (منظمة المؤتمر الإسلامي) عام 1969 بعد إحراق المسجد الأقصى.
دعا إلى وحدة المصالح في الأمة، وإلى التضامن الإسلامي، فهو وحده الكفيل بتحرير الشعوب الإسلامية الرازحة تحت الاستعمار في فلسطين وكشمير، والفلبين، وتشاد، وسواها.
ولهذا وقف بقوّة ضدّ مؤامرة فصل بنغلادش عن باكستان عام 1971.
وقد حدّد علاّل مقوّمات هذا الاتحاد أو التضامن بأربعة وحدات:
1- وحدة العقيدة.
2- وحدة الربوبية. أي التزام الشريعة المنبثقة من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلقاء القوانين الوضعية، وهي قوانين أجنبية دخيلة.
3- وحدة المواطنة، بحيث يكون المسلم أخا المسلم حقيقة، فإذا أصيب مسلم أو بلد إسلامي، فالمسلمون كلهم مدعوّون إلى الجهاد في سبيل الله ، من أجل إنقاذه.
ووحدة المواطنة تعني حبّ سائر أقطار الوطن الإسلامي، وأن جميع المسلمين يتمتعون بجميع الحقوق، ويقومون بجميع الواجبات في سائر بلاد الإسلام، وكأنهم في أوطانهم الصغيرة.
4- وحدة اللغة: وهي اللغة العربية التي دعا إليها الإسلام، وجعلها من مقاصده، وأنزل بها القرآن، وهي لغة المسلمين جميعاً، وليست لغة العرب وحدهم. ولهذا يراها أكبر مقوّم من مقوّمات الوحدات الأربعة، بعد الإسلام.
5- وحدة الجنسية: وجنسية المسلم عقيدته، ولا فرق بين عربي وحبشي ورومي وصيني وفارسي إلا بالتقوى.
سمّى الأستاذ علاّل هذه المقومات والعناصر بتواحيد الإسلام التي يمكنها توحيد المسلمين ، إذا تحرّك القادة، وخلصت النيات.
أهم أفكاره:
1- إذا تعذر قيام الوحدة الإسلامية فلا أقلّ من وحدة الفكر، ووحدة الكلمة، ووحدة الموقف، فالله وحده يدعونا إلى هذه الوحدة التي لا تتعارض مع الوحدة الوطنية، ولا مع الوحدة العربية، والأفريقية، بل إنها تتلاقى في الأهداف والغايات، وتشترك في المنطلقات والمرتكزات. وكلها تعمل من أجل الإنسان وكرامته والنهوض به مادياً ومعنوياً. وهذه الوحدة إنما تقوم على أساس العقيدة النقية الصافية من أوشاب الخرافات والمصالح الشخصية، أما تمزّق الأمة، فأسُّ البلاء فيها.
2- يرى أن تستجيب الحركة الوطنية لحاجات الأمة ورغباتها "لأن الغاية من كل حركة وطنية، هي تحقيق الآمال التي تختلج بأفكار الشعب… وكل مجهود لا يتضمن هذه الغاية وإنجازها، هو مجهود لا قيمة له" لأن الشعب في مسيس الحاجة لمن يهتم بدراسة أمانيه الحقيقية كما يفكر بها، وكما يريدها في أعماقه.
3- كان يقول:
"ما أحوج المسلمين اليوم إلى الرجوع للدين كما أُنزل غضّاً طريّاً، وما أحوجهم للتحرر من عقدة النقص التي ركّبها المستعمر الأجنبي في بلادهم، حتى أصبحوا لا يفهمون ولا يقدّرون إلا بمقاييس المستعمرين".
وكان يندد بالغزو الفكري، والثقافي، والتأثر بالثورة الفرنسية، وبسائر الأفكار الأخرى، في تركيا العلمانية، وفي سواها من بلاد المسلمين.
4- يجب أن تكون السياسة في خدمة الدين، وليس العكس.
5- الإسلام هو الحل لسائر مشكلاتنا، فهو دين الحياة، ومن أجل الحياة، ونزعته الإنسانية تشمل الإنسان والحيوان والنبات.
6- يرى أن الاستعمار لم يحدث من الخراب في الأرض والأجسام، مثل ما أحدثه في العقول والقلوب والأفهام، فكان عاقبة أمرهم أن تسلطت عليهم هذه الحكومات البوليسية في كل مكان، تصليهم ظلماً، ولا تألوهم اضطهاداً وهضماً… وسيبقى المسلمون كذلك، ما داموا ينشدون العدل من غير الإسلام، والصلاح من غير القرآن.
7- يرى أنه لا بدّ من القدوة الذي يقتدي به الناس، ويهتدون بهديه فكرياً وسلوكياً.. ذلك الإنسان المسلم النقي الذي يكون فوق الشبهات، يزهد بما في أيدي الناس، يعطي ولا يأخذ، ويتسامى عن ألوان الحطام، الذي يقتتل حول الناس.
تركيزه على طلاب الجامعة :
وكان الأستاذ علال الفاسي خطيباً مفوّهاً وفقيهاً عالماً وسياسياً بارعاً وداعيةً عاملاً يهتم كثيراً بطلاب الجامعة، يركز على إصلاح النخب الثقافية، يشدّ القلوب والعقول إليه، ويستجيب لنداءاته الشباب، فكانوا يستضيفونه بالحلقات العلمية والتجمعات الطلابية والندوات الفكرية، ويطرحون عليه كل تساؤلاتهم ومشكلاتهم والطريقة المثلى لتحرير بلادهم من نير الاستعمار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية التقى مع الدكتور حسن الترابي، والأستاذ إبراهيم الوزير مدعوين لحضور المؤتمر السنوي لاتحاد الطلبة المسلمين سنة 1968م كانت فترة من أجمل الفترات وأياماً من أسعد الأيام حيث امتدت زيارته وتطوافه في الولايات المتحدة قرابة شهر وظهرت فيها الكثير من جوانب شخصيته الفذّة التي تمثّل الرجولة والعصامية في أجلى صورها.
يصف المستشار عبد الله العقيل إحدى تلك اللقاءات مع الطلبة، فيقول : (ولقد سعدت بلقائه مرات ومرات، واستفدتُ من دروسه ومحاضراته وندواته، حين كنا ندرس في مصر في أوائل الخمسينيات الميلادية.
وكنا نحن الطلاب الوافدين نشكّل جنسيات مختلفة من أنحاء الوطن الإسلامي ولكن رباط الإسلام وأخوته كانتا الأساس المتين الذي يقوم عليه تجمّع طلبة البعوث الإسلامية بمصر، وقد جرى حوار طويل معه أثاره بعض إخواننا الطلبة المغاربة المعارين الذين طالبوا الزعيم الفاسي بأن يُعنى حزب الاستقلال بالجانب التربوي بحيث لا يطغى الجانب السياسي على معظم نشاط الحزب، وقد تلقّى الزعيم الراحل هذه المناقشات بروح الود والإكبار واعتبرها بادرة طيِّبة من الشباب المغربي الذين استفادوا من وجودهم بمصر في الاتصال بالحركة الإسلامية المعاصرة..).
مواقفه ورجولته:
كان الأستاذ علال الفاسي وثيق الصلة بالدعاة الإسلاميين والعاملين في الحقل الإسلامي، ينسّق العمل معهم ويقف إلى جانبهم في محنهم ويتصدى للذود عنهم والدفاع عن أهدافهم، وقد اضطلع بمهمة تصعيد الحملة ضد طغيان السلطة الحاكمة بمصر أيام عبد الناصر التي أقدمت على زج العاملين للإسلام ودعاته في السجن وتعليقهم على أعـواد الـمشانق أمثـال الشهداء: عبد القادر عودة، ومـحمد فـرغلي، وسيّد قطب، ويوسف طلعـت، وإبراهـيم الطيب، وهنـداوي دويـر، ومحمود عبـداللطيف، وعبد الفتاح إسماعيل، ومحمد يوسف هواش.
وقد أصدر علال الفاسي العديد من البيانات والتصريحات وعقد الكثير من المؤتمرات لتفنيد مزاعم السلطة واستنكار أعمالها وسطر المقالات الطويلة التي تتحدث عن جهاد هؤلاء الدعاة في (جريدة العلم) المغربية لسان حزب الاستقلال، كما أقام الحزب المهرجانات لاستنكار تلك المجازر البشعة لأولئك الدعاة المجاهدين في أرض الكنانة.
ولن أستطيع الاسترسال في تسجيل المواقف البطولية الرائعة التي كان يقفها المجاهد المرحوم علال الفاسي فهي أكثر من أن تحصى.
ومرَّت الأيام تجري سراعاً ثم التقيتُ به في زيارة قام بها إلى الكويت قبل سنوات وكان بيننا وبينه أحاديث عن هموم المسلمين ومشكلاتهم وطرائق العمل الناجح لإخراجهم من محنتهم.
وكانت أحـاديث وخطب ومحاضرات ونـدوات خـرج منها الفقيد رحمه الله بضرورة توثيق العمل مع الشباب المسلم باعتبارهم الركائز الأساسية لحمل دعوة الإسلام كما أيقن بأهمية البناء التربوي العقائـدي للشباب حـتى يكونوا طلائع البعث الإسلامي المرتقب لهذه الأمة التي طال أمد رقادها واستكانتها لوعود الحكام وخداعهم، أولئك الذين لا يهمّهم إلاّ البقاء على كـراسي السلطة ولو هلكت الشعوب بكاملها ولو ضاعت المقدسات وديست الكـرامات، ومن هنا أخذ رحمه الله يبحث عن العناصر المؤمنة الشابة ليوطد الصـلة بهـا ويكسبها من خبراته وتجاربه في ميدان السياسة والعلم والجهاد والكفاح.
وهكذا كان الزعيم الراحل لا يدع مجالاً من مجالات العمل الإسلامي إلاّ أسهم فيه وبذل من الجهد ما يستطيع، ورغم أننا نخالفه في بعض اجتهاداته السياسية فإنه ليس لنا إلا أن نعترف بأن مواقفه كانت تنبع من اقتناعه بأن الإسلام هو طريق الخلاص لهذه الأمة من كل ما تشكوه من ويلات وما تعانيه من محن وكوارث.
آثاره ومؤلفاته:
لعل الكثير من الناس لا يعرفون عن المرحوم علال الفاسي إلا أنه رجل من رجال السياسة وزعيم من زعماء الوطنية بينما هو علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وداعية من دعاة المدرسة الإصلاحية التي بدأها المرحوم محمد رشيد رضا، كما أن له باعاً طويلاً وقدماً راسخة في الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي والفقه المقارن، وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس، ولكن غلبة الطابع السياسي والوطني جعلتْ انصرافه للأمور الفقهية يحتل المرتبة الثانية من اهتماماته.
وللأستاذ علاّل إنتاج غزير.. له أكثر من ثلاثين كتاباً في السياسة، والتاريخ، والشريعة، والتربية، وله مئات المقالات نشرها في الصحف المغربية، والمصرية، والسورية، والعراقية، وسواها..
و يا ليت بعض الدارسين المجتهدين من طلبة الدراسات العليا، يجمعون ما كتب، ويبوبونه تبويباً علمياً يكون بمثابة أطروحات ورسائل ماجستير ودكتوراه.. وأنا أعرف أن هذا يكلفّ جهداً عضلياً وفكرياً، ولكنهم سوف يفيدون علماً ومعرفة وثقافة متنوعة، لأنها كتابات عميقة هادفة جادّة، بعيدة الأغوار، تعطي صورة واضحة عن شخصية علاّل، بأبعادها النفسية والفلسفية، يطرح فيها مشروعاً نهضوياً ذا بعد مستقبلي.
ويطيب لي أن أشكر الذين بادروا إلى جمع بعض ما تفرق، من تلاميذه ومن رفاق دربه، وأن أعتب على المتقاعسين منهم، الذين يعرفون الكثير أو القليل مما كتب هذا العملاق الذي تناول العديد من الموضوعات الحيوية التي يحتاجها شعبه المغربي، وأمته العربية والإسلامية.
لقد جمع علاّل بين الثقافة العربية الإسلامية، وبين ألوان الثقافات الأجنبية، فقد كان نهماً في القراءة، في سائر مجالي الحياة الفكرية والثقافية والحضارية.. قرأ لعدد كبير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة الغربيين، وقام بعملية فرز ميّزت الثمين السمين من الغثّ والهزيل، فمضغ الثمين وهضمه، ونبذ الغثّ ولفظه، فانضاف ما أخذه من الغرب إلى ما كان اختزنه من العلوم العربية والشرعية، ثم قدّمه شهياً لقرائه ومحبّيه وعشّاق الأصالة والتجديد.
وأصدر كتباً كثيرة منها:
1-دفاع عن الشريعة ـ
2-الحماية في مراكش ـ
3-السياسة البربرية في مراكش ـ
4-النقد الذاتي ـ
5-الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ـ
6-الحرية ـ
7-الحماية الإسبانية في المغرب ـ
8-واقع العالم الإسلامي ـ
9-مهمة علماء الإسلام ـ
10-منهج الاستقلالية ـ
11-رأي مواطن ـ
12-نحو وحدة إسلامية ـ
13-دائماً مع الشعب ـ
14-أناشيد وطنية ـ
15-حديث عن التبشير المسيحي ـ
16-كي لا ننسى ـ
17-المدخل لعلوم القرآن والتفسير ـ
18-المثل الأعلى ـ
19-الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها ـ
20-مقاصد الشريعة ومكارمها ـ
21-المدخل لدراسة النظرية العامة للفقه الإسلامي ـ
22-المدرسة الكلامية وآثار الشيخ الطوسي ـ
23-المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم ـ
24-أساطير مغربية ـ
25-عقيدة وجهاد ـ
26-ديوان علال الفاسي (أربعة أجزاء) ـ
27-حديث المغرب في المشرق ـ
28-التقريب: شرح مدونة الأحوال الشخصية ـ
29-معركة اليوم والغد ـ
30-بديل البديل ـ
31-نضالية الإمام مالك ـ
32-دفاع عن وحدة البلاد ـ
33-لفظ العبادة وهل يصح إطلاقه لغير الله؟ ـ
34-نداء القاهرة ـ
35-الجواب الصحيح والنصح الخالص ـ
36-المختار من شعر علال الفاسي ـ
37-رياض الأطفال..
38- الكتاب الأحمر ( بالفرنسية ) .
وغيرها كثير لم يطبع بعد.
وكتب عنه :
الأستاذ عبد الكريم غلاب - "ملامح من شخصية علال الفاسي"
المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي .
من أقوال علال الفاسي:
«تستطيع القوة أن تنال من جسم المسلم، وتستطيع أن تسلبه ماله وحياته أو تخرجه من أرضه وعشيرته، ولكنها لا تستطيع أن تسلبه الإيمان أو تزيل عنه اعتزازه بنفسه واعتداده بعقيدته».
«ما أحوج المسلمين اليوم للرجـوع إلى الـدين كما أُنزل غضـاً طرياً، وما أحـوجهم للتحرر من عقـدة النقص التي ركّبهـا الاستعمار الأجـنبي في بـلادهم حتى أصبحـوا لا يفهمون ولا يُقـدِّرون إلا بـمقاييس المستعمرين».
وكان آخر عمل مشكور قام به هو جهوده في حمل حكومة المغرب على التخلي عن موقفها في المساهمة بإخراج فيلم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي تكمن وراءه جهات تريد الإساءة لرسول الإسلام ودين الإسلام وأمة الإسلام.
ولقد كنت في زياراتي للمغرب العربي ألتقي العلماء والدعاة والمفكرين ورجال السياسة والأدب فأجد أن الجميع متفق على أن الأستاذ علال الفاسي من أفذاذ رجال المغرب المكافحين ضد الاستعمار والمنافحين عن العروبة والمجاهدين في سبيـل الإسلام. فقد جمع من الصفات وتوفّـر له من الإمكانات مـا جعلـه في طليعـة الرجال ومقدمة الأبطال الـذين أرخصوا الغالي والـنفيس في الذود عن حيـاض الإسلام ومقارعـة الاستعمار والتصدي للتغريب والفرنسة.
ومن هنا كان له هذا الرصيد الضخم من التقدير والإجلال والمحبة في قلوب الجماهير فكان العلم المبرّز والفارس المقدام والداعية الواعي والسياسي القدير والقائد المُحنك الذي استقطب الجماهير الإسلامية والنخب المثقفة بالاحترام والإجلال من الجميع.
ولقد كان هدفه الأساس هو خدمة الإسلام والمسلمين والعمل الجاد الدؤوب لرفع المعاناة عن المظلومين وإحقاق الحق ومـحاربة الفسـاد والطغيان وتربية النشء على منهج الإسـلام وانتظام الدعاة في صف واحد للعمل الجاد لإنقاذ الأمة من آثار الاستعمار ومناهجه في التعليم والتربية والسلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع.
ولقد رأيت ثمار جهوده وجهود إخوانه وتلامذته في المغرب العربي في جيل الصحوة الإسلامية المباركة التي شملت المغرب كله في المدن والأرياف والمؤسسات والجامعات والمدارس والمساجد والنقابات المهنية والبلدية والنيابية وغيرها.
وفاته – رحمه الله تعالى - :
وشاء الله أن توافي علال الفاسي منيته، وهو في ميدان العمل والجهاد، حيث توفي في بوخارست عاصمة رومانيا، وهو يعرض على رئيسها انطباعاته عن زيارته التي قام بها وفد حزب الاستقلال المغربي برئاسته، ويشرح قضية المغرب وصحراء المغرب، ونضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حريته وأرضه، وخرجت روحه الطاهرة بعد ظهر يوم الإثنين20 ربيع الثاني 1394ه/13 مايو 1974م.
نقل جثمانه إلى المغرب ، ثم ووري الثرى في الرباط ..
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجزاه الله خيراً عن كل عمل صالح قدمه وتجاوز عن أخطائه وسيئاته وغفر الله لنا وله.
شخصية المجاهد علال الفاسي في الشعر الإسلامي المعاصر
شهد العالم الإسلامي في القرن العشرين زعامات وطنية كثيرة، قادت حركات التحرر ومقاومة الاحتلال، وألهبت حماس الجماهير، وسيطرت على أفئدتهم، وقليل من هذه الزعامات من جمع إلى جانب العمل السياسي والجهاد الوطني زعامة الفكر، وأصالة الرأي، والقدرة على الكتابة والتأليف والمعرفة الواسعة بالإسلام، ومن هؤلاء علال الفاسي داعية الإصلاح، وزعيم حركات التحرر في المغرب العربي.
علاّل الفاسي شخصية عربية إسلامية كبيرة، وداعية إلى الله على بصيرة، كان وما يزال ملء السمع والبصر، علماً، وخطابة، وفصاحة، وأدباً، وشعراً، وجهاداً دؤوباً في سبيل الله تعالى، من أجل نصرة دينه، ورفع الحيف والظلم عن أمّة نبيّه، صلى الله عليه وسلم، ومن أجل تحرير وطنه المغربي، وسائر أوطان المسلمين الرازحة تحت نير الاستعمار الأوروبي الغاشم، وخاصة فلسطين التي كانت في قلبه وعقله وضميره، فلسطين التي اغتصبها الإنكليز أعداء العروبة والإسلام، ثم سلّموا جثمانها الطاهر المبارك إلى أوباش البشر، وأوشاب الخلق، بني صهيون.
علاّل الفاسي عالم مجدّد، وشخصية شمولية متعددة المواهب والجوانب، ومفكر إسلامي رحب الآفاق، بعيد الرّؤى، واضح الرؤية والأسلوب والتفكير والتنظير والتقدير، عليم بأبعاد الفكر الإسلامي وأطواره، وهو واحد من روّاد جيل العمالقة: حسن البنا، والمودودي، والندوي، والسباعي، وسيد قطب، وسعيد النورسي، بنزعته الإنسانية، وتوجّهه الفكري، وأسلوبه العلمي الأدبي، وقدرته الفائقة على الخطابة والبيان، وبسلفيته الممزوجة بالحركة والسياسة والتنظيم.
ولكل ما تقدم، كان من الصعوبة بمكان، الإلمام بشخصيته الفذّة في مقال مهما طال، فقد كتب الكاتبون عنه كتباً ولم يوفّوه ما يستأهل من مكانة في سائر مجالي الحياة السياسية والجهادية والفكرية والدينية والاقتصادية والثقافية.
وقد أسهم رحمه الله بنصيبه في ميدان الشعر الفسيح ونبغ في قرضه في سن مبكرة فنظم كثيرا من القصائد الطوال والمقطعات والأراجيز في مختلف الموضوعات ، من دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية ووطنية ثائرة وحماسية نارية مما أهله لأن يلقب بحق وعن جدارة شاعر الشباب، ويتوج بتاجه الرفيع. وكان الأستاذ علال الفاسي متبحراً باللغة والأدب ، وكيف لا وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة.
يقول رحمه الله في قصيدة "إما حياة ، وإما ممات":
إلى كم نعيش بدون حياة وكم ذا ننام عن الصالحــــــات؟
فـوا حسرتاه على حـــــــــــــالـنا وماذا استفـــدنا من الحســرات؟
عــرانا الذهـــــــــــــــــول وياليتــنا عرانا الذهـــــول عن المهلكات؟
أنبقـى بلا عمــــــــــــل نافــــــــــــــــــع ونرضى جميعـــــــــاً بهــذا السبـــات؟
والأستاذ علاّل شاعر مجيد، وله ديوان كبير من أربعة أجزاء، وشعره فيه كشعر سائر الشعراء الثائرين أصحاب القضايا الوطنية والتحررية والرسالية؛ إنه شعر خطابي استطاع به إلهاب العواطف، وإثارة لمشاعر نحو القضايا التي تهمّ الشعب والأمة... شعر ملتزم بالإسلام وقيمه، دعا إلى أن يكون الإسلام محور حياة الأمة، فهو صاحب رسالة في شعره، يوظّفه لحملها إلى الناس، وكان أداة ماضية في مسيرة الحياة، يعبّر عن همومه وأشجانه، وعن تطلعاته في مستقبل زاهر لهذه الأمة الماجدة التي نام عن أمجادها كثير من أبنائها الشعراء الذين باتوا يحلمون بالفراش الدافئ الوثير، مع غانية لعوب، وشعوبهم تضوى وتجوع وتعرى، وشبابهم وقود للثورات، ومع ذلك، ما كان كثير من أولئك الشعراء ليرتقوا عن المستوى الهابط، غافلين عما تعانيه أمتهم من لأواء الحياة، وفي مضامير الكفاح الدامي، وميادين العيش البائس التعيس.
لقد حفل شعر علاّل بقضايا أمته العربية والإسلامية وشعبه المغربي، فكان يفرح لفرح المسلمين، كفرحه باستقلال إندونيسيا، ويحزن لأحزانهم، ويرثي قادتهم العظام من أمثال: شكيب أرسلان، وأحمدو بيلو، وسيد قطب، وبعض شعرائهم مثل: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وسواهم، ويدعو إلى وحدة العرب والمسلمين، ويأسى لما أصاب فلسطين على أيدي الغربيين الذين قدّموها إلى اليهود لقمة سائغة؛ لقد بكى واستبكى ودعا المسلمين إلى ثورة فكرية وتحررية عارمة على أولئك الأنذال بحيث لا تبقي منهم ولا تذر، وتعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين.
والشاعر علاّل اتباعي الأسلوب، ولكن (كلاسيّته) لم تمنعه من ارتياد رياض الشعر الحر، فنظم فيه، ولم يقف منه موقف العداء، مثل كثير من شعراء (الإسلامية) الذين نسوا أن أول من نظم واخترع هذا النمط الجديد من الشعر، هو الشاعر العربي الحضرموتي الإسلامي الكبير: علي أحمد باكثير، وليس سواه كما يزعم الزاعمون.
وقد أدرك شاعرنا علال بوعيه السياسي والاجتماعي والثقافي أن العدو المحتل بات مؤكداً عنده أن مأتى الاحتلال ومدخل الغزو في الأمة الإسلامية كافة هو ضربها في دينها وقرآنها ولغتها، وإحداث قطيعة بينها وبين هذه الأصول التي بها ترتبط حضارتها وقوتها وكيانها. فراح يصرفها عن ذلك ويربطها بنواقضه، مستعملاً في ذلك كل ما يملك من الوسائل والإمكانات، ومجنداً له كل طاقاته. ومن ثم فإن شاعرنا لم يفته أن يعي بهذا المخطط الرهيب، ويتفطن لهذه المؤامرات المرعبة، فجعل ضمن صرخاته الجهادية الثورية: الدعوة إلى الحفاظ على القرآن واللغة العربية، لأن حفظ اللغة العربية يضمن حفظ القرآن، وحفظ القرآن يضمن حفظ الدين، وحفظ الدين يضمن حفظ شخصيتنا وهويتنا الحضارية وكياننا الآدمي وسيادتنا الإسلامية العليا. يقول ـ رحمه الله ـ في قصيدته ”اضطهاد لغة القرآن :
إلى متى لغة القرآن تضطهدُ أما دروا أنها في الدهر عُدَّتُهم ولن تقوم لهم في الناس قائمة إن لم تتم لهم بالضاد معرفة إن العقيدة في الأوطان ناقصة وكيف يصغون للأعداء تذكرها تـآمــروا وأعــدوا كــل مـدرســـــــــــــــــــــــــــــة ويستبيح حماها الأهل والولد وما لهم دونها في الكون ملتحد أو يستقيم لهم في العيش ما نشدوا أو يكتمل لهم في الضاد معتقد ما لم تكن للسان الشعب تستند وأصل ما وصفوه الحقد والحسد بـها قـواعـــــــــــــــــــد الاسـتعـمـــــــــــــــــــــــــــار تـقـتـعد تعلم الجهل بالماضي الذي صنعت وتنكر اللغة الفصحـى وما نظـــــــمـت يد العروبة والآتي الذي تعد مــــــــــن المعــــــــــــــــــــاني وفيـها العـلـم والرشـــــــــــد
ويستمر في صرخته هذه مندداً بالعدو الكائد، موعياً بمخططاته ومؤامراته على لغة الإسلام، ناعياً على المتقاعسين العاجزين الذين ماتت فيهم الغيرة على دينهم ومقدساتهم، ثم يوجه فيها خطابه إلى الحكومة ويحملها مسؤولية حماية اللغة العربية والدفاع عنها من ضربات العدو وأتباع العدو :
قل للحكومة والأيام شاهدة عودي إلى خطة ترضى البلاد بها وحرري الضاد حتىيستبين لها عار رواسب الاستعمار نكلأها عار قد استعجمـت أقوالنا وغــدت عودي إلى الحق لا يصددك منتقد ويستقيم بها للملة الأود مجالها الحر لا قيد ولا صفد وعندها الجهل والإذلال والكمد أفـكـارنـا بمعـــــــــــــــــانـي الخصــــــــــم تـتحــــــد
ولم يكن يغيب عن شاعرنا أن مسؤولية حماية اللغة والدفاع عنها، وجعلها لغة التعليم والتدريس والإدارة، غير مقصورة على الحكومة بل هي مسؤولية الشعب أيضاً وأمانة في عنق أبنائه عليهم أن ينهضوا بها ويطالبوا بحقوقهم فيها ويقوموا لها قومة رجل واحد :
الأمر للشعب فليعلن إرادته إنا بني الوطن الأسمى الأُساةُ له من لا يؤدي إلى الأوطان واجبه هبوا بني الوطن الأسمى إلى عمل وناصروا الضاد في كل المواقـــف إذ وكلنا طاعة للأمر يعتمد والجند للضاد نحميها ونجتهد فهو العدو فما ترضى به البلد من شأنه الفوز للأوطان والرَّغَدُ مــــــــــن فـوزها غــــــــــــــايـة التحريـر تـمتـهـد
وبهذه الروح نفسها يطلق صرخاته دفاعاً عن القرآن، ودعوة إلى الاستمساك به والحفاظ عليه، لأن في ذلك حفظ الدين وإقامة شرائعه وأحكامه. فالقرآن دستور المسلمين، وأصل تشريعهم الرباني. يقول ـ رحمه الله ـ ضمن قصيدته الطويلة التي نظمها بمناسبة مرور أربعة عشر قرناً على نزول القرآن الكريم :
يا أمة قرآنها دستورها عودي إلى الدين الحنيف عقيدة ما في سوى القـرآن خـير يـجتـبـى الله خَارَكَ للرسالة فانهضي ميراث أحمد دينه وكتابه قل للذين رضوا ثقافة غيرهم أيليق أن تبقى العروبة بيننا جربـتــم دعـــــــــــــــوات غــيـر مـحمــــــــد وزعيمها كان النبيَّ المرسلا وشيعة وتخلقاً وتعقلا أو في سـوى الإسـلام نهـج يبتلـى لتواصلي عمل الجدود الأولا لك عدة تغنيك عما أعملا وتصوروا الإسلام عهداً قد خلا جسدا بلا روح ولفظاً عطلا ماذا جنيتـم هــــــــــــل عقدتـم مـوصـلا؟
وفي نفس هذه القصيدة التي كتبها بمناسبة «ذكرى مرور أربعة عشر قرناً على نزول القرآن الكريم»، يقول معرجاً إلى قضية فلسطين المسلمة التي هي أرض وقف إسلامي ، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين :
هذي فلسطين الجريحة أصبحت بيد اليهـــــــــــــود أســــــــيرة لن ترسلا
والقدسُ أولى القبلتين يُعِـــــــــــــــــــــــدُّه أعداءُ أحمد كي يقيموا الهيكلا
عودوا إلى الإسلام يصلح شأنكم ويُنِلْكم نصــــــــــــــــــــــــــراً مبيناً في الملا
رثاء الشهيد سيد قطب :
كان للأستاذ علال الفاسي موقف مشرف من قضية الإخوان في عهد عبد الناصر حيث وقف إلى جانب إخوانه المستضعفين، وها هو يكتب قصيدته في رثاء الشهيد سيد قطب، فيقول:
في ظـــــــــلال القرآن دوماً مشيتا فعليكَ الســـــــــــــــــــــــــلامُ حيّاً وميتا
قد أنرت السبيل للسالك الحر وفي نــــــــــــــــــــــــــورك البهيّ احــــــــــــــــترقتا
لم تزل في ضمائر الناس هدياً نبويَّاً آيــــــــــــــاته مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا شرحتا
دعــــــــــــــوة الدين لم تخنها ولكن لم تطق عن خؤونها قط صمتا
وقال يوم انهزم عبد الناصر في نكسة حزيران كلمته المشهورة : ما كان الله لينصر جيشاً يقوده قاتل الشهيد سيد قطب .
هكذا إذاً عاش الشاعر علال مجاهداً بشعره كما جاهد بعلمه ونضاله، وجعل من شعره الصادق الواضح أداة من أدوات رسالته التي عرف وزنها وقيمتها وقدرها حق قدرها. إنها رسالة العالم في حياته وواقعه ومجتمعه وأمته، إنها أمانة الجهاد والإصلاح والتغيير والبناء الحضاري، التي أناطها الله بالعلماء ورثة الأنبياء. ولقد أدى الرسالة وبلغ الأمانة ما وسعه ذلك، وجاءت رسالة العالم في شعره مشتملة على الأصول الآتية:
1 ـ الدعوة إلى الحفاظ على الإسلام والاستمساك به والالتزام به عقيدة وشريعة .
2 ـ الدعوة إلى الحفاظ على القرآن واللُّغة العربية .
3 ـ الدعوة إلى الاستقلال والتحرر من التبعية والغزو الغربي المادي والمعنوي .
4 ـ الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية وترصيص صفها .
5 ـ الدعوة إلى الصبر والثبات والرسوخ على قيم الإسلام ومبادئه .
6 ـ الدعوة إلى شحذ العزائم، والتربية على العزة الإيمانية والاستعلاء في الحق .
7 ـ الدعوة إلى رد الحقوق إلى أصحابها المهضومين المستضعفين .
تحية للمجاهد علال الفاسي :
يتذكر الشاعر علي أحمد باكثير ( اليمن ) صديقه المجاهد المنفي علال الفاسي الذي قاسى من مرارة الغربة والإبعاد، وأرق، وحزن، وعانى على ما حلّ بوطنه المغرب ، ويعبر الشاعر عن همومه ويأسه القاتل، فيقول :
ذكـرتــك يـــا عــــلاّلُ والــنــاسُ هُــجَّــعٌ وليـس سـوى جفنـي وجفنـك سـاهـدُ وللهم حــــزٌّ فـــــي فـــــؤاديَ قــاطــــــــــعٌ وللـيــــــــــــــــــــــــأس فـتــكٌ فـــي أمـانــيَّ حـاصــدُ تـكـاد الـدجــى تـقـضـي عـلــيّ لأنـهــا دُجى العٌربِ تاهت في عماها المقاصد تداعت على قومي الشعوبُ فمـا ونـت مـصـادرهـا عـــن حـوضـهــم والــمــواردُ
إذا خانـنـا وغــدٌ مـــن الـغــرب سـافــلٌ تخيَّـفـنـا نـغــلٌ مـــن الـشــــــــــــــــــــرقِ حــاقــدُ
فهو يشكو من تغول الغرب وطمعه في خيرات المسلمين ، لقد تكالبت الأمم على بلاد العرب فصرنا كالفريسة للكلاب ، ولكن الشاعر يعاوده الأمل بقدرة الأمة على دحر الأمة ، فيقول :
لعـمـرُ معـالـي الـعـرب حلـفـة صـــادقٍ يـعـززهـا صــبــرٌ مــــن الــعُــرب نــافــدُ
لأن (لــــواءً) قُــــدَّ مــــن أرض يــعـــربٍ لـيــومــاً إلــيــهــا لا مــحــالــةَ عـــائـــدُ
أيـطـوى لـســانُ الـذكــرِ بـيــن ربـوعــه ليخـلـفـه لـغــوٌ مـــن الــقــول فــاســدُ
وتُـطـردُ عـنــه أمـــةُ الـمـجـد والـهُــدى لتـسـكـنـه تــلــك الــوحــوشُ الأوابــــدُ
والويل للمستعمرين إذا استيقظ العملاق من نومه ، وواجه الظلم والاستبداد والإلحاد ورمى به خلف المحيطات ، لأن تربنا طهور لا يستقبل الفساد ، يقول الشاعر :
إذا استيقـظ العمـلاقُ مـن طــول نـومـه وراع الـــــورى مــنـــه نــبـــيٌّ ومـــــاردُ
فـيــا ويـــل بــاريــسَ ورومــــا ولــنــدنٍ و يـــا ويـــل قـــزمٍ بــــات فـيـنــا يـعـانــدُ
رجوعاً إلى مـا خلـف طـوروس وارحلـوا إلــى حـيـث ألـقـت رحـلـهـن المـكـايـدُ
خـــذوا مـعـكـم إلـحـادَكــم وفـجـورَكــم فلـيـس بـنــامٍ فـــي ثـرانــا المـفـاسـدُ
لنـا ديننـا الأسمـى لـنـا مجـدنـا الــذي تتـيـه بـــه الـدنـيـا وتـزهــى المـحـامـدُ
سنلفـظـكـم مـــن جـوفـنــا ونقـيـئـكـم كمـا قـئ مسـمـومٌ مــن الــزادِ فـاسـدُ
نفي الإمام المجاهد :
ويستطرد الشاعر ويعرج على نفي المجاهد علال الفاسي من قبل قوات الاحتلال حيث عاش في ( الغابون ) ، وعذب ، واغترب :
ذكـرتـك يــا عــلاّلُ فانتابـنـي الأســـى أكــابـــدُ مــــــــــــــــــن آلامـــــه مـــــا أكــابـــدُ
كـأنـي أنــا المـنـفـي دونـــك فاصـطـبـرْ فهـذا شعـورٌ فـي بـنـي الـعـربِ سـائـدُ
يـــودون لـــو يـفــدون مــنــك مـصـمـمـاً تـلـيـنُ - ويـأبــى أن يـلـيـن- الـجـلامــدُ
صبوراً على البلوى شديداً على العدى تـهـونُ علـيـه فــي الـجـهـاد الـشـدائـدُ
فضح جريمة المستعمر :
ويفضح الشاعر المسلم علي أحمد باكثير جريمة المستعمر الذي نفى الأحرار من أوطانهم ، فقال مصوراً ذلك الوجه الصفيق :
نـفـتــك إلــــى (جــابــون) ألأمُ دولـــــةٍ لـهـا عـضـدٌ فــي المـخـزيـاتِ وسـاعــدُ
تــذلّــلُ لـلـبـاغـي فـتـنـقـض حـــــــــــــــــلـفـهــا وتُسـلِـمُ مــن غــدرٍ بـهـا مـــن تـعـاهـدُ
وتضـطـهـد الأحــــرارَ ظـلـمــاً وتــدَّعــي بــــــأن ثـــــــــــــــــــــــــــــراهــــا لـلــكــرامــة والـــــــدُ
سنـعـلـمـهـا يــومـــاً بــــــأن بــغــــــــــــــــــــــــــاءَهــا غـدا وهـو فـي أسواقنـا الـيـوم كـاسـد
ستـصـبـغُ خـديـهـا فيـحـصـبُ وجـهُـهــا ويـنـعـــــــــــــــــــل فــيــه المـفـلـسـون الأبــاعــدُ
فـقــد نـخــر الـــداءُ الـعُـقـامُ عـظـامَـهـا فـمــن نـحـرهـا لـــم يـبــق إلا الـقـلائـدُ
لـقــد خـالــت العـجـفـاءُ انّــــك واحــــدٌ أجـل أنـت فـي قــدس البطـولـةِ واحــدُ
ولــــم تـعـلــم الـعـجـفـاءُ أنّــــك أمـــــــــــــــــــــةٌ تجـــــــــاهـدُ فــي استقلالـهـا مــا تـجـاهـدُ
ثـمـانــون مـلـيـونــاً يـبــاهـــــــــــــــــــون كـلــهــم بـخـيـر لـغــاتِ الأرض والـذكــرُ شـاهــدُ
ألا كـــل شـــيء مـــا خـــلا الله بــاطــلٌ ألا كــل شـعـبٍ مــا خــلا الـعُـرب بـائـدُ
لقد أقدمت دولة الاحتلال والإجرام على اضطهاد الأحرار، وهي التي تتبجح بحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير المصير، وظنّ الطغاة أن المجاهد يمثّله شخصه الكريم، ونسوا أنه قائد يمثل طليعة الأمة التي زادت على الثمانين مليوناً في ذلك الزمان ، ويؤكد على حقيقة بشكل قاطع :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلٌ ألا كلّ شعبٍ ما خلا العُرب بائدُ
فأمة الحقّ باقية بقاء الحقّ والشبع الشداد ، أما أمم الطغيان فإلى الدمار والبوار وإلى جهنم وبئس القرار ...
تصوير عذابات المجاهد ومعاناته :
لقد تعرض المجاهد علال الفاسي للمحن القاسية، وهذه ضريبة يدفعها كلّ الأحرار والشرفاء، ويصور الشاعر الحالة النفسية التي آل إليها المبعد الحزين ، وكان شعاره في تلك المحنة : ولكن دمعي في الحوادث غالي :
كـأنــي بـدمــعٍ فـــي جـفـونــك حــــــــــــــــــــــــائــرٌ تــراوده الشـكـوى سُـــدىً مـــا تـــراودُ
و مـا أنـت مـن لا يعـرف العطـفَ دمـعُـهُ ولكـنـه فــي مـوقــف الـخـطـبِ جـامــدُ
وفــي دمـعِـك الغـالـي خــــــــــــــــــــلاصٌ لأمـــةٍ يـسـيـر بـهــا مـنــه إلـــى الـعــــــــــــــز قـائــدُ
يـجـيـش بـهــا بـــدرٌ وأُحْــــدٌ وخــنـــــــــــــــــــــدقُ وتـمـريـه حـطـيــنٌ وتــلــك الـمـشـاهـدُ
لقد نلتَ يا عـلاّلُ مـا رمـتَ فـي العُلـى وجــــدُّ نــــزارٍ بــالــذي نــلــتَ صــاعــدُ
إن مواقف المجاهد الصامد أصبحت مصدر عزّ وفخار للأمة العربية والإسلامية، فهكذا يكون الأبطال، وهكذا يكون الصمود والثبات .
مقارنة :
يعزّ على الشاعر علي أحمد بكثير أن يقارن بين حاله المأساوية وبين حال المجاهد علال الفاسي، فكلاهما شاعر، ولكن شتّان ما بين الرجلين، أحدهما صامد يمتلك كل أسباب القوة والشجاعة، وآخر لا يمتلك سوى الدموع والأحزان، وسوى كلمات منظومة موزونة يسمونها شعراً، وأنى للكلمات أن تحيط بكمالات المجاهد العظيم :
وشـتّـان مــا حـالــي وحـالــك: حـالــمٌ صـــريـــعُ أمــــــــــــــــــــانــيــه وقِــــــرمٌ مــجــالــدُ
فــــآهٍ كــلانــا شــــــــــــــــــــــاعــرٌ غــيـــر أنــنـــي مـــــــقـيـمٌ عـلــى ضـيــمٍ وأنـــت مـجـاهـدُ
ولــكــن كــلانــا ديــنُــه ديــــــــــــنُ يــعـــربٍ وفـــي دمـــه ســــــــعــدٌ وعـمــروٌ وخـالــدُ
وددتُ لــو أنــي فــي فلسـطـيـنَ ثـائــرٌ لأهـلـيَ تنعـانـي الـظُّـبـى لا القـصـائـدُ
أو أنـنــي فـــي اسكـنـدرونـةَ شــاهــرٌ حسامي عليه من دمِ الوحـشِ حاسـدُ
وفــي بـرقـةٍ أو فـــي الـجـزائـرِ قـاصــمٌ ظــهــــــــــورَ الــعِــدى والـبـاتــراتُ رواعـــــدُ
ولكن الشاعر باكثير ينتفض، وتسري في عروقه دماء الأبطال الصناديد سعد وعمرو وخالد، ويتمنى لو حملته الرياح إلى الأراضي المحتلة في فلسطين واسكندرونة وبرقة والجزائر ليجاهد ضد الأعداء الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد .
ويؤكد الشاعر على وحدة التراب العربي، وعلى وحدة الأمة التي وصفها الله بالجسد الواحد والبنيان المرصوص، ويهدي المجاهد سلامه، فيقول :
فـتــلــك بـــــلادي لا أفـــــرِّقُ بـيـنــهــا لـهـا طــارفٌ فــي مـجـدِ قـومـي وتـالـدُ
عـلـيــك ســــلامُ الله مــــا ثــــار ثــائـــرٌ ومــــــــــا ذاد عـــن مـجــدِ الـعـروبـةِ ذائــــدُ
جهاده ونضاله :
كتب الدكتور محمد الروكَي المدرس في كلية الآداب ـ الرباط ، قصيدة يحيي فيها جهود المجاهد علال الفاسي، ومكبراً جهاده ونضاله وبطولته :
صَرَخْتَ... فَأَسْمَعْتَ كُلَّ بَعِيدٍ وَغَذَّيْتَ بِالفِكْرِ مَنْ قَدْ أَتَى وَأَعْدَدْتَ جِيلاً سَوَاعِدُهُ فَنَمْ آمِناً بِدِيَارِ البِلَى ويـُـبْــصِــــــــــــــــــرُ كُـــلٌّ نِـهَـــــــــــــــــــــــــــــايَــتَــــهُ وَنَادَيْتَ بِالقِيَمِ السَّامِيَه يُجَلْجِلُهَا صَرْخَةً عَالِيَه تُلَوِّحُ بِالرَّايَةِ الْقَانِيَه غَداً نَلْتَقِي الفِئَةَ البَاغِيَه وَتَـرْجِـــــــــــــعُ أَنْـفُــسُــــــــــــنـــا رَاضِــــــــــــيَــــه
رثاء الزعـيم علال الفاسي :
وكتب الشاعر المغربي (إدريس بن الحسن) قصيدة رثى فيها الزعيم علال الفاسي ، يقول فيها :
تَــبَــوَّأْتَ فِـي الـمَـجْـدِ أَعْــلَى الـقِــمَـمْ وَ خُــلِّــدْتَ يَــــوْمَ رَفَــعـْـــتَ الْــعَــلَــمْ
وَ أَرْسَـلْـتَـهـَا صَــيْـحَـةً أَيْــقَــــــظَــــتْ مِـنَ الـنَّوْمِ شَعْـبـاً عَــرِيقَ الـشَّـمَـــمْ
فَــزُلْـزِلَــتِ الأَرْضُ تَـحْــتَ الـدَّخِـــيـــــــلِ حِـيـنَ ازْدَهَـى بِــرُسُــوخِ الـقَــــدَمْ
وَ خَـالَ الــبِـــلاَدَ عَــنَــتْ لِــقُـــــوَاهُ فَــمَــا الـسَّـيْــرُ إِلَّا عَـلَـى مَـا رَسَـــمْ
وَ مَـا شَــرْعُــهَـا غَــيْـرَ مَـا سَـنَّــــهُ بِـأَمْــرِهِ يُــقْــضَـى وَ لاَ يُـخْـــتَـــصَــمْ
لقد احتلَّ المجاهد علال الفاسي قمة المجد ، وخلّد التاريخ اسمه وجهاده ، وأطلق صيحة موية ما زال يتردد صداها : الإسلام هو الحل ..لقد جربتم الإسلام فكان فيه صلاحكم ونجاحكم ، فلم َ لا تعيدون الكرّة من جديد ، وفضح أسلوب المستعمر وسياسته ( فرق تسد ) حيث دعا إلى (الظهير البربري) في 16 ماي 1930م والذي بمقتضاه يمنع تطبيق الشريعة الإسلامية من أحكام الزواج والطلاق والإرث ...على القبائل البربرية التي أخضعها الظهير البربري لأحكام العرف ، وسعى المستعمر من وراء تلك السياسة بشكل حثيث إلى تقسيم البلاد، فوقف المجاهد علال الفاسي ضد تلك المخططات :
فَـــفَـــــرَّقَ بَــيْــنَ قَــبَــائِـــلِــــهَــــــا وَ أَجْــرَى مِــقَــدَّهُ فِــيـمَــــا الْــتَـحَـــمْ
وَ قَـالَ : بَـنِي يَـعْـرُبٍ شَـرْعُـكُــمْ عَـلـَـى بَــرْبَـــرِي أَبَــــداً قَـــدْ حَــــرُمْ
لَـكُـمْ دِيـنُـكُـمْ وَ لَهُـمْ عُـرْفُـــهُـــمْ بِــذَاكَ كِـتَــابِـي عَـلَـيْـكُمْ حَـكَـمْ
ويشيد الشاعر بذلك الموقف الحازم الذي اتخده الزعيم علال الفاسي ومعه نخبة الشعب لمناهضة الظهير البربري بدروس التوعية والوعظ التي كان رحمه الله يلقيها في جامعة القرويين. ومن هذه الجامعة خرجت مظاهرة وطنية تهتف وتردد : << اللهم يا لطيف الطف بنا فيما جرت به المقادر، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر >>، و كان ذلك في أوائل الثلاثينات الميلادية من القرن العشرين.. يصور الشاعر دور علال الفاسي في قمع تلك الفتنة، فيقول :
فَـمَـا رِيعَ إِلَّا لِــصَـوْتٍ عَـــــــلاَ وَ لـَـمَّــــا يَــجِـــفَّ مِـــــدَادُ الـــقَـــلَــمْ
بَـنِـي يَـعْــرُبٍ و الْأَمَـازِيــغِ نَـحْــــــــنُ نـُسِـجْـنَـا فَـكُـنَّا الـسَّـدَى وَ اللُّحَـمْ
أَلاَ إِنَّــنَـــا جَــسَـــــدٌ وَاحِـــــــدٌ فَـــكَــيْــفَ تَــفَــــارُقُ لَـحْــمٍ وَ دَمْ
وَ مَـنْ رَامَ فُـرْقَــتَـنَـا يَـحْــتَـــرِقْ بِـنَـارِ الإِبَـــاءِ وَ حَــــرِّ الــنَّـــدَمْ
تَــرَدَّدَ فِـي الـقُـطْــرِ عَـبْـرَ السُّـهُـــولِ وَ بَـيْـنَ الـشِّـعَـابِ وَ فَــوْقَ الـقِــمَــمْ
يُـلَــقِّـــنُ لِـلــشَّـــعْــــــبِ سِــيـــرَتَـــهُ عَــلَى سَـنَـنٍ مِـنْ كـَرِيـمِ الــشِّــيَــــمْ
وسلك الأستاذ علال الفاسي جميع السبل لتوعية الناس ، حيث فسّر القرآن ، ونشر السنة الصحيحة ، وكتب الأشعار ، ودبّج المقالات البليغة ، وربى الأجيال على قيم العروبة والإسلام ، ومحبة السلف الصالح ، والدعوة إلى النهضة والإصلاح والتجديد وبعث الأمة من جديد لتؤدي رسالتها بين الأمم :
فَــطَـوْراً بِـتَـــدْرِيـسِ آيِ الـكِــتَـــابِ وَ ذِكْــرِ الـرَّسُـولِ الـبَـلِــيغِ الـحِـكَـــــمْ
وَ سِـيــرَة أَسْــلاَفِـــنَــا الصَّــالِـحِــيــنَ وَ بَـعْـثِ مَــفَــاخِـرِهـِـمْ مِــــنْ رِمَــــمْ
وَ طـَـوْراً بِـشِـعْـــرٍ شَـــدَا بِـالْـبِــــلاَد وَ أَجْـرَى هَــوَاهـَــا عَـلَى كُــلِّ فَـــــمْ
فَـأَنْـشَــأْتَ جِـيــلاً نَـبِـيــلَ الـشُّـعُـــورِ وَ ثِـيـقَ الـعُـرَى بِـرَفـِـيــعِ الــقِــيَـــمْ
شَـغُـوفـاً بِـإحْـيَــاءِ مَـجْـــدِ الـجُـــدُودِ يَـصُـونُ الـتُّـرَاثَ وَ يَـــرْعَى الذِّمَـــمْ
طَـمُــوحـاً إِلَـى الـمُـثُـلِ الـعـالِــيَــــــاتِ يَــشُــقُّ طَــرِيـقَـهُ فِـي الـمُــزْدَحـَــــمْ
عَــزِيـــزاً أَبِــيّــاً ذَكِــيَّ الــفُـــــــــؤَادِ مَـشُـوقـاً إِلَـى النُّـورِ يَـمْـحـُو الـظُّـلَـــمْ
أَبَــــادَ الـقُــيُـــودَ وَدَكَّ الــسُّـــــــــدُودَ وَ شَــادَ مَــكَــانَـــهُ بَــيْــنَ الْأُمَـــــمْ
أَبَـا الــوَطـَـنِـيَّــــةِ مِــنْــــكَ تَــلَــــــقَّــــــــنَ مَـعْــنَى الـفِـدَى وَ احْـتِـقَـارِ الْأَلَـــمْ
بِـعَــزْمِـــكَ ثَــارَ عَـلَى الـغَـاشِـمِـــيـــنَ وَ مَـا شَـيَّـــدُوا مِــنْ حُـصُـونٍ هَــدَمْ
وَ قَــــوَّضَ مَـغْـــنَــى أَمَــانِــيِّـــهِـــــم وَ بَـــدَّدَ مَــا غَــازَلُــوا مِــنْ حُــلُـــمْ
وَ حَــرَّرَ مَـا اسْـتـَعْـمَـرُوا مِـنْ تُــرَابٍ وَ مَـا اسْــتَـعْـبَـدُوا مِـنْ رِقـَابِ النَّـسَــمْ
وَ هَــبَّ يُــطَـهِّــرُ رَمْــلَ الـصَّـحَـــارِي بِــنـَارٍ لَـهِــيــبُـهـَا مِـنْـكَ اضْـــطَــــرَمْ
وأشاد بشاعرية علال الفاسي وبلاغته التي سحرت قلوب الشباب المثقف، فأسرته بجمالها ، وقوة تأثيرها :
وَ شِعْــرُكَ مِــلْءَ الـنُّــهَـى وَ الْجَـنَــانِ يَـحُــثُّ خُــطَــاهُ إِلَـى مَــا اعْـــتَــــزَمْ
أَيَـا بُــلْـبـُـلَ الشِّـعْــرِ مِـنْــكَ نَـشِـيــدِي وَ مِـنْـكَ تَـلَـقَّــنْـتُ صَـــوْغَ الــنَّــغَــــمْ
وَ مِـنْــكَ غِـنَــائِي بِــأَرْضِ الـجُـــدُودِ وَ مِـنْــكَ صُـرَاخِــي لِـبَـعْــثِ الـهِــمَـمْ
لقد كان علال الفاسي بحراً لا يحدّه ساحل ، تنوعت معارفه ، وتعددت مناقبه ، وهو وإن غادرنا جسداً فإن روحه وفكره وكتبه وتعاليمه باقية فينا إلى أبد الدهر :
أَيَـــا بَـحْـــرُ كَــــــمْ فِـيــكَ مِـــنْ دُرَرٍ بِهَا سِـمْـطُ أَغْـلَى العُــقُــودِ انْــتَـظَـمْ
أَيَـا كَـنْــزَ أَغْــلَــى الـمَـكَــــارِمِ قَـــــدْ فَـقَــدْنَـــا بِـمَــوْتِـــكَ ذُخْــــــــــرَ الأُمَــــــمْ
وَ لَـكِــنَّ رُوحَـــكَ فِــيــنَــــا سـَــــرَتْ فَـعَـلاَّ لُــنَــا بَـيْـنَـنَــا مَــــــــــــــــــا انْــعَـــــدَمْ
فَـأَبْـقَــى مِـثَــالَـكَ رَبِّــي سِـــرَاجـــــاً يُــنِــيــرُ الـطَّــــــــــــــــــرِيقَ إِذَا مَـــا ادْلَــهَـــــمْ
وَ أَسْـكَـنَــكَ اللَّــــهُ أَعْــلَــى الجِــنَـــانِ مَــعَ الـفـــــــــــــــائِــزِيـنَ بِخَــيْــرِ الــنِّــعَــمْ
بِــجَــاهِ الـنَّـبِـيِّ الـكَـرِيــمِ الـشَّــفِــيــعِ وَمَـــــــنْ بِــهِ وَحْـيُ الإِلاَهِ اخْـــتُـــتِــمْ
عَـلَـيْــهِ الصَّــلاَةُ وَ أَزْكَـى الــسَّـــلاَمِ مَـعَ الآلِ وَالصَّـحْــبِ أُولِـي الـكَــــرَمْ
وسيبقى علال الفاسي منارة تضيء درب الأجيال ، ونسأل الله جل وعلا أن يمنحه أعلى الجنان جزاء لما قدّم من خير لأمته ودينه .
وكان زعيماً :
وكتب الشاعر المغربي المعاصر (محمد فريد الرياحي) قصيدة يثني فيها على جهود الزعيم علال الفاسي ، وهي بعنوان ( علال الفاسي وكان زعيماً )، وكأني به يقول : هكذا فليكن زعماء الأمة وإلا فلا :
لعلال يزف الشعر أوزانا ومن كالشعر أنغاماً وألحانا وأحلاماً من الرؤيا مرفرفة وإلهاماً من الجنات ريانا؟ هو العلال من وهج ومن شرف يقيم العدل بالميزان ميزانا وللحرية الحمراء مشيته شديد البأس كالضرغام غضبانا له الحسنى بما وفـّى ومـــــــا وهبت يداه من الندى روْحاً وريحانا إنه البطل علال الفاسي وكفاه فخراً ، لقد سعى لإقامة ميزان العدل في الأمة ؛ لأن العدل أساس الملك، وبذل جهوداً جبارة لتستعيد الأمة حريتها المسلوبة، وكان كريم النفس، سخيّ اليد، ثم يسترسل الشاعر في تصوير أخلاقه وسجاياه، فيقول :
له البشرى ألم تشهد لغرته مقامات من الإحسان إحسانا ؟ هو العلال لا روع يروعه إذا جهلت جموع الروم طغيانا تراه وقد مضى فحلا لغايته يروم من الجنى القدسي تبيانا تراه إذا تداعى القوم من طمع يعف فلا يروم الفضل إمعانا بنو فهر وهم من هم على غـُرر من الأمجاد في البأساء فرسانا
هدوا للنصر في يوم بذي رهج ونالوا بالتقى فضلاً ورضوانا وللعلال منهم ألف مكرمة وفيهم منه ما أعلاه بنيانا
لقد تحلّى المجاهد علال الفاسي بالشجاعة فلم يخف جباراً ولم تركع جبينه لغير الله ، وكان عفيفاً شريف النسب ، كريم الخصال ، ينتمي إلى أسرة عريقة الأرومة ، اتصفت بالتقى والفضل ، وورّثت تلك الخصال النبيلة لابنها البارّ علال الفاسي .
ويبين الشاعر خصاله وصفاته، فيقول :
هو العلال في علم وفي كرم ومن ذا يجحد العلال نكرانا؟ هو العلال ما هانت مواعده وما دانت لعلج الروم كفرانا هو العلال أعرفه ويعرفني ونسعى للعلى يا نعم مسعانا لحب الله قبلتنا على سنن من العلياء أرواحا وأبدانا؟ فمن في السلم كالعلال داعية ومن في الحرب كالعلال يقظانا؟ ومن كبني رياح في ملاحمــــــــهم ومن كالشاعر المقدام طعـّانا؟
لا ندري عن أي خصلة من خصال الأستاذ علال الفاسي نتحدث ، هل نتناول علمه وكرمه ، أم نتحدث عن صموده وثباته في محنة السجن والنفي والتشرد ، إنه شاعر مقدام ، وفارس لا يشقّ له غبار . ويخاطب الشاعر ذلك الجنرال ألفونس جـُوان الذي كان مقيماً عاماً بالمغرب خلال المرحلة الاستعمارية ، فيقول له :
جـُوان ألا ترى أن اللظى قدر وأنك في اللظى قد نلت خذلانا وأن المغرب الأقصى على قدر يهد من الهوى الغربي أركانا؟ أليس المغرب الأقصى إذا وقعت رباطا للهدى نورا وفرقانا؟ الإشادة بشاعريته :
ويشيد محمد فريد الرياحي بشاعرية علال الفاسي، وفصاحته وبلاغته، فيقول : إذا العلال رام المجد منزلة تسامى المجد في العلال إنسانا جمال الشعر في يده مقصّدة تجلت في جلال الحرف ديوانا وهل في الشعر إلا روعة طلعت من الوجدان بالوجدان وجدانا؟ أهازيجا مموسقة وأخيلة تغنت بالهوى الشرقي أوطانا؟
ويعلن الشاعر حزنه على تلك القمة الشعرية السامقة، ويبين رسالة الشعر التي كان الراحل يدعو إليها :
أيا علال هذا الشعر يجمعنا وفيه من الهوى الشعري ما كانا وما كانت مواسمه مقصّدة تسامت في ذرى الإلهام تيجانا هو الإلهام إشراقا وموهبة تنزّل مــــــن عيون السحر سلطانا فمن في الشعر بعدك يا أخا مضر وبعدي يكتب الأشعار بركانا؟ لقد كان علال الفاسي شاعراً ملهماً يفيض الشعر على شفتيه إشراقاً وسحراً، ويرجو الشاعر من الشعراء الإسلاميين أن يكملوا الطريق الذي خطّه علال الفاسي بقلمه وسيفه، بلسانه وسنانه، بالكتاب والكتيبة معاً . إسلامية المنحى والنهج : وكان علال الفاسي يؤمن بدعوة الإسلام التي تجمع ولا تفرّق، توحّد، ولا تبدد، وكان يدعو إلى شمول الإسلام، وأسلمة المجتمع والعلوم والمعارف :
أيا علال هذا الدين يجمعنا وفيه من الهدى العلوي محيانا هو الإسلام ليس كمثله نبا أليس الدين عند الله قرآنا؟ ومن لم يبتغ الإسلام شرعته هوى في لجة الخسران خسرانا هو الحق الذي من هديه ظهرت عيون الحق بالبرهان برهانا لك الفتوى وأنت لها على غـُرر تجلت بالهدى وزناً ورجحانا
ومن بالشرع شرع الله مقتدرا يقيم الحق أفئدة وآذانا وحكما بالهدى في كل نازلة ورأيا بالنهى سرا وإعلانا
ويشكو الشاعر مواجعه للمجاهد علال الفاسي ، ويبثه الهموم ، لأنه يرى طغيان الجهل على العلم ، والظلم على العدل ، ويشاهد انقلاب الموازين ، واختلال القيم ، فيقول : وعلما لا يضل إذا مضاعفة من الطغوى علت بالجهل بهتانا؟ أيا علال إني في مضاعفة من البلوى أرى صمـّا وعميانا أبو جهل يعود وفيه من دمه جهالات بغت في الليل عدوانا فهل من ضحوة التنزيل صحوتنا وهل في ضحوة التنزيل مرسانا أيا علال هذا الشرع يجمعنا على السراء والضراء إخوانا وتجمعنا أيا علال ملحمة ركبناها شواهينا وعقبانا
ويدعو للإمام بالرحمة والإكرام ، ودخول الجنان : لك اليسرى وفي الجنـّات منزلة لمن أوفى بعهد الله إيمانا ولي بالصحبة الغراء مرتفق من الأخيار أقرانا وخلانا وأدعو الله لي في كل آونة وللعلال إنعاما وغفرانا ألا إن الجنى لمن اتقى سعرا وليس لمن طغى في الأرض غيانا
سوف يحيا علال :
أنهى الأستاذ أحمد عبد السلام البقالي هذا الجزء من ديوانه القيم "أيامنا الخضراء" بقطعة في رثاء الأستاذ الكبير المرحوم علال الفاسي تحت عنوانه : ( سوف يحيا علاّل )، بين فيها أن حياة العظماء لا تنتهي بموتهم، ومطلعها : إن دفنا جثمانه ما دفنــــــا علمه أو كفاحه او جهـــــاده
وفي الختام نقول :
شخصية السيد المجاهد علال الفاسي شخصية مؤثرة لعبت دوراً كبيراً في شرح حقائق الإسلام والدفاع عنها، لقد ضحى في سبيل الله والوطن، أسس حزب الاستقلال، وكان له دور مشهود في السياسة ، ألف الكتب ، وجاهد ضد الاحتلال الفرنسي، واعتقل ، ثم أبعد ، ومن ينسى دوره في مؤتمر القدس، بل من لا يذكره يوم بطش الاستبداد بأبناء الحركة الإسلامية في مصر، فقد صرّح للصحافة بتصريح مدوي بعد نكسة حزيران : كيف ينصر الله جيشاً يقوده قاتل سيد قطب
إن العلاّمة المجاهد والزعيم الكبير علال الفاسي رجل من رجالات الإِسلام المعاصرين الذين حملوا دعوته، وجاهدوا في سبيله، وأمضوا حياتهم يقارعون الظلم والاستبداد، ويحاربون الاستعمار، وهو رئيس حزب الاستقلال المغربي الذي اضطلع في بواكير إنشائه بالتصدي للاستعمار الفرنسي، ومحاولته لنيل حقوق الشعب المغربي.
وكان الأستاذ علال الفاسي العالم المبرّز الذي قاد المسيرة نحو استرداد الحقوق للشعب المغربي العربي المسلم، وشارك في المقاومة الوطنية بلسانه وقلمه وبدنه، وصار يتحرك في طول البلاد وعرضها مشجعاً الناس على الجهاد ومقاومة الاستعمار والتصدي لأعداء الإسلام الذين احتلوا البلاد، وأذلّوا العباد، ونهبوا الخيرات، ونشروا الفساد.
هذا غيض من فيوضات هذا القلم العالم العامل المجاهد الذي افتدى دينه وشعبه وأمته بكل ما يملك من مال، ووقت، وراحة، وحرية، وكان من العلماء المجددين، تجاوزت سمعته الطيبة حدود المغرب، إلى المشرق، وإلى سائر بلاد المسلمين، فكان قطباً من أقطابهم في عصره، وما زال تأثيره في الأجيال التي تلته..
لقد كان الإسلام هو الحادي لمسيرته منذ نعومة أظفاره، إلى التحاقه برحمة الله تعالى، لم يحد عنه، ووقف شامخاً في وجه الأعاصير التي أرادت أن تعصف به، كفعل سائر المجاهدين الغيورين الشامخين بهذا الدين العظيم، لا يطأطئون لعاصفة هوجاء، ولا يرزحون لنير ظالم مستبد، جذوره ضاربة في أعماق أرضه، وهامته تناطح السحاب.
فإليك يا علال مني التحية، فالسلام عليك يوم ولدتَ، والسلام عليك يوم أعلنت الجهاد، والسلام عليك يوم اعتقلتَ، والسلام عليك يوم نفيتَ، والسلام عليك في الخالدين .
مصادر البحث :
1-موقع علي أحمد باكثير على الشبكة العالمية للتواصل الاجتماعي ( نت ) .
2-مقالة الأستاذ الأديب عبد الله الطنطاوي – علال الفاسي العالم الداعية المجاهد - رابطة أدباء الشام
3-من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة – عبد الله العقيل .
4-علال الفاسي المفكر السلفي والزعيم السياسي – مقالة أحمد بابانا العلوي – شبكة نت.
5-المضمون الإسلامي في شعر علال الفاسي- تأليف: د. حسن الوراكلي- عرض: صدقي البيك .
7- جريدة (العلم) المغربية- عدد 27/1/1420هـ.
8- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين. للدكتور محمد رجب البيومي – ج3 .
9- ملامح من شخصية علال الفاسي. للأستاذ عبد الكريم غلاب.
10- رجال عرفتهم. للأستاذ أبي بكر القادري.
11- مثقف الحرية والإصلاح. للأستاذ محمد شكري سلام.
12- الأعلام. للأستاذ خير الدين الزركلي.
وسوم: العدد 719