قارب الموت والظمأ العظيم 10
تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي
"قارب الخلود"
تحليل قصّة "القارب"
(إن خوفنا من الموت ، إنما يعبّر عن فزعنا من أن نُدفن أحياء ، وكأنما نحن نخشى ألّا يكون موتنا موتاً كاملاً ، أو كأنما نحن نتصور أننا سنظل أحياء في موتنا نفسه ، وإذن فإن خوفنا من الموت قد يرجع في جانب منه إلى أننا نتصور أنفسنا أمواتا أحياء ، وكأن الموت ليس موتاٍ محضاٍ ، بل شعوراً حيّا بالفناء)
( إدغار ألن بو )
قبل أن أتناول قصّة "القارب" أقول إنني يمكنني القول – وعذراً عن هذا التقييم الإستباقي – إنّ هذه القصة ، وقصّة "الخوف" التي سوف تأتي ، هما من عيون القصّ القصير العربي والعالمي ، تستحقّان التدريس الأكاديمي ، وهما من النصوص التي يمكن وصفها بأنّها "القصةّ الكاملة" : ثيمة وحبكة ولغة وبناءً واشتراطات فنيّة أخرى سوف نتناولها في مسار التحليل .
وفي هذه القصّة يقفز القاسمي فوق بعض الشروط التقليدية في بناء القصّة القصيرة حسبما وردت في مراجعها الغربيّة ، فهو حين يضع سطراً قصيراً يفتتح به القصّة يقول فيه :
(قاربٌ صغيرٌ توقّفتْ عليه حياتي وتعلّق به وجودي)
فإنه في الحقيقة يقفز على التسلسلات التقليدية التي تضع خطوات البناء الدرامي من عرض – Exposition ، وعقدة – Complication ، وصراع – Conflict ، والوصف الأدق هو أنّه "يدمجها" . فمع هذه الجملة يوضع المتلّقي – وسيلتزم القاص بذلك – أمام "عقدة" القصّة الأساسية تقريباً ، وهو هذا الارتباط الخطير بين الراوي – والحكاية تُسرد بضمير المتكلّم – وقارب ، إلى الحدّ الذي تتوقف فيه حياة الأول الإنسانية الحيّة بغناها وشروطها المعروفة على قارب مادّي جامد . وسوف تستند "حبكة" القصّة على هذا الحدث المحوري من خلال مجموعة الحوادث التي سوف ترتبط به . وهو أمر مثير للحيرة أن يتوقف وجود إنسان على زورق كما يعلن الراوي ؛ قارب (لم يكن يختلف عن بقيّة القوارب في شيء مميّز . مجرّد قارب صغير في حجمه ، أزرق في لونه . قارب تجديف ، بلا مجدافين ، يرسو في خليج الشاطىء الرملي ، ويحميه سيفٌ صخري من أمواج البحر الهائجة حيناً الهادئة حيناً آخر) (ص 273) .
إنّه قارب عاديّ .. بل هو متروك ، بلا استعمال كما يخبرنا الراوي . وكلّما عرض الأخير علينا "سمات" هذا القارب ، وما يرتبط به من بيئة تحيط به ، كلّما شغّل أذهاننا بدرجة أكبر مستعيدين سطر الاستهلال الأول ، متسائلين عن سرّ انشداده إلى هذا الشيء المُهمل ، وكيف تصاعد هذا الارتباط إلى الحد الذي تتوقّف عليه حياة الراوي ! وإذا أردنا توصيفاً أدق لفعل القاص فإنّ "الصراع" قد اشتعل في نفوسنا ، وراح الراوي يحكي حكايته بهدوء بعيداً عن بؤرة الصراع التي نتوقّعها . فها هو يتحدّث بهدوء عن مظاهر وحركات عاديّة جدا لا تُطمئِن هواجسنا ولا تجيب على تساؤلاتنا :
(ومع ذلك ، فهو [= القارب] يتمايل تمايلاً متواصلاً بفعل الأمواج التي تنساب تحته وحوله ، ولكنّه لا يغادر مكانه بفضل المرساة الثقيلة التي تشدّه إلى تلك البقعة . وقد يصغر ويكبر في النظر بفعل المدّ والجزر ؟ ففي المدّ تغمر المياه معظمه حتى لا يبدو منه إلّا حافته ، وفي الجزر تنحسر عنه المياه حتى يظهر هيكله كاملاً تقريباً) (ص 273) .
من مدخل مثير للتوتّر والاستغراب ، ويلخّص حياة كاملة في الحكاية المقبلة على الأقل ، إلى سرد وصفي بعين "هندسيّة" بعيدة عن إسقاطات المشاعر الفرديّة المُحتبسة ، وغير مؤنسنة لأي صفة أو مكوّن من مكوّنات القارب ، ولعلّ في التناقض بين المدخل المشحون الذي أثار توترنا وتوقّعاتنا السلبية ، وبين "هدوء" الراوي في وصف التحوّلات الطبيعية جدا (كل قارب يتمايل بفعل الأمواج ، ويصغر ويكبر مع حركة المدّ والجزر) ، هذا التناقض صبّ في جانب تصعيد التوتّر والبحث عن مبرّر في نفوسنا كمتلّقين .
وتستمر عمليّة "العرض" الهادئة في الفقرة الثانية حين يصف الراوي المرّة الأولى التي شاهد فيها هذا القارب حينما سكن لأول مرّة في هذه الدارة المطلّة على هذا الشاطئ المهجور . لا نستطيع الإمساك – بصورة أوّلية – إلّا بِسِمَةٍ مشتركةٍ تتمثل في "الوحدة" التي تشمل مكوّنات البيئة كلّها : الراوي ودارته والشاطئ والقارب . فقد كان الراوي وحيداً ، والدارة منعزلة ، والشاطئ مهجوراً ، والقارب وحيداً . ويمتزج هذا الموقف "المستوحّد" بلحظة من الزمان موحشة ، تتمثل في غروب مؤسٍ تمتزج فيه تأثيرات الشمس الراحلة ، بمشاعر الوحدة الشاملة والصمت الكلّي في "تركيب" (إذا استعرنا قواعد الجدل الهيغلي) يمثل – في حقيقة بعده النفسي - رجفة من رجفات الموت ، وممثلاً له . فالغروب – رمزيّاً – هو رحيل وغيبة وفناء وظلمة .. وبدقّة هو مرحلة انتقالية بين الموت والحياة ، هذه التحوّلات المتواشجة بين الذات والشمس والقارب برع القاص في رسمها بمهارة أروع ما فيها هو هذا الحسّ التشكيلي (هل يمارس علي القاسمي فن الرسم ؟) الذي تجسّد في تصوير الصلات اللونية خصوصا لطخات البقع الحمراء على صفحة السماء الزرقاء الصافية ، وعلاقات الضوء والظل في انعكاسها على القارب ببروز بطنه الأبيض وسط جانب قاتم وآخر أبيض تصنعه تكسّرات الأمواج . كان علي القاسمي في الواقع "يرسم" ما يراه ولا يحكيه لنا :
(لفت [= القارب] نظري أوّل مرّة ، عندما كنتُ أشاهدُ غروب الشمس في لحظاته الأخيرة ، وقرصها يغرق رويداً رويداً في أعماق البحر ، عند خطّ الأفق البعيد ، ثمّ يتلاشى تماماً ، ما عدا بعض البقع الحمر المتناثرة التي تلطّخ صفحة السماء الصافية الزرقة . وكان ذلك القارب يقع بيني وبين الشمس المودّعة ، وتنعكس عليه تحوّلات الضوء ، فيبدو جانبه المواجه لي أكثر قتامة ، ويبرز شيء من اللون الأبيض الذي طُلي به باطنه ، فيتناغم مع بياض الأمواج عند اصطدامها بالسيف الصخريّ ، أو عند معانقتها الشاطئ لترتمي في أحضانه.) (ص 273) .
ومن جديد يعود الراوي ليقدّم لنا – بعد هذه الوقفة الوصفيّة المحمّلة بالمعاني النفسيّة التي تكفّل الفن بتمويهها – تساؤلات كان من الممكن أن تكون ، وفق أسلوب القصّ التقليدي جزءاً من "العرض" الذي يشكّل جزءاً من البنية الدراميّة حسب التقسيم الأرسطي (نسبة إلى أرسطو في معالجاته الدرامية في كتابيه عن "الشعر" و "الخطابة" ) ، والذي يُمهّد لإدخال الحدث الذي يمثّل العقدة ويُصعّد الأفعال الصراعية لدى الشخصيّات وصولاً إلى "الذروة – Climax" . ولستُ مُغرماً أبداً بالمصطلحات العلميّة التي توصّف العمل السردي القصصي أو الدرامي عموماً ، ولكن ما أبغيه هو أن أتقرّب من اللعبة النفسيّة التي مرّرها القاص بمهارة خلف أستار تقنيات القصّ معزّزاً فعل حكايته بعيداً عن مُحدّدات السرد القصصي القصير التقليدية . فقد جعل السطر الأوّل "إطاراً" لكلّ الحكاية بحيث أنّ كل ما سيأتي لاحقاً من أفعال (الملاحقة اليومية لموضع القارب) ، وأحاسيس (الشعور بصلة روحية مع القارب) ودخول شخصيّات (صديقه الرسّام) .. وغيرها ستندرج ضمن هذا الإطار العام الذي سيقوم بلمً كل تلك المتغيّرات تحت جناحيه وكأننا نقف أمام " إطار" لوحة يضبط "حركة" المحتويات وعلاقاتها . والقصّة كما سنرى كلّها " لوحة " .. لوحة لمسألة فلسفية ونفسية أعمق وأخطر من كلّ خطوات "العرض" التي جعلها القاص – وبشكل مدروس - متأخرّة من جانب ، وتُقدَّم بشكل "جُرع" مُقسّطة من جانب آخر ، حيث يعود الآن ، بعد أن رسم لنا لوحة لحظة الغروب التي مثّلت لحظة "تعارفه" إلى القارب ، فيقدّم احتمالات ظنّية جديدة مرّت بخاطره حول "وحدة" القارب المتروك ، فقد ظنّه أوّل مرّة قارب صيد ، لكن الشاطئ يخلو من الصيادين ، أو قارب نزهة ، لكن لا أحد يقترب منه أو يركبه .
بعد تلك التساؤلات المتناوبة المُقسّطة كما قلتُ ، تهبط موجة الانشغال التي رفعنا على سطحها لتستقر قليلاً حين يخبرنا الراوي أنّه ، وبمرور الوقت ، قد اعتاد على رؤية القارب ، كما اعتاد على رؤية أيّ مكوّن من مكوّنات الشاطئ من صخور ورمال وأمواج . فالأمواج التي كانت تأسر بأصواتها سمعه ، والصخور والرمال التي كانت بمشهدها تشدّ بصره ، صارت مألوفة معتادة ورتيبة لا تثير فيه أيّ تشوّق كما حصل أوّل مرّة ، ومثلها صار القارب الأزرق شيئاً مألوفاً – والألفة تقتل التوق – وراحت زرقته تتماهى في زرقة البحر وتتبدّل معها انغلاقاً وانفتاحاً حتى أمسى – ويا لروعة الصورة ، القارب – موجة من موجات البحر وصارت خطوطه مجرّد قطرات متناهية في الصغر ، شديدة الالتصاق ببعضها ، مثل قطرات ماء البحر (ص 274) . ويراهن القاسمي على ذكاء القارئ وانتباهته ، وهذا شرط حداثي بخلاف القص التقليدي الذي يتكفّل بالطبخة من أوّلها إلى آخرها ، فلو عدتَ - سيّدي القارئ - إلى المشهد الرائع الذي رسم فيه لحظة الغروب والذي تحدّث فيه عن بروز شيء من اللون الأبيض لباطن القارب ، وتذكرتَ الملاحظة التي قالها في السطر الثالث من استهلال القصّة عن لون القارب الأزرق – هذا اللون الذي لم يشر إليه في لوحة الغروب – وتخيّلته وسط قتامة الغروب تحت زرقة صفحة السماء الصافية لانبهرت أيّما انبهار !
لكن هذا الاعتياد الذي قتل روح المفاجأة البكر ، وجعل القارب وكأنه غير موجود بالمرّة ، قد أزيل في لحظة ، وتفجّر اهتمام الراوي ، من جديد ، بالقارب الذي اكتسب معنى خاصاً بالنسبة إليه ، بحيث أنّه صار يُسرع حال استيقاظه في الصباح إلى الشرفة ليتأكّد من وجوده في مكانه ، مثلما كان يلقي عليه نظرة أخيرة قبل النوم . أمّا في النهار فكان يطيل النظر إليه ، ويتوهّم أحياناً أنّه يتجاوب مع أفكاره أو يستجيب لنظراته ، وكأنّ حركاته ، الأفقيّة طوراً والعموديّة طوراً آخر ، إشارات رمزيّة ذات دلالات مفهومة (ص 274) .
صار الراوي يشعر بأنّ ثمة صلات روحية قد تأسّست بينه وبين القارب. ومن الطبيعي أن يحتجّ عقله المنطقي على مثل هذه المشاعر ويعتبرها أوهاماً ، ولو طرحها الراوي على طبيب نفسي لقام بتشخيصها كمقدّمات أو كعلامات فعليّة على حصول اضطراب نفسي يتطلّب العلاج بالعقاقير المعقِّلة أو بالصدمات الكهربائية إذا صارت مُعنّدة وتؤثر على حياته الاجتماعية والعمليّة . وهنا يتجلى جانب عظيم من جوانب أهميّة الفن في حياتنا التي صارت تتعرض لقمع قوانا العقلية المتنفّجة المشؤومة التي سمّمت كل شيء في حياتنا . سيحاول عقلنا الواعي – أو الطبيب النفسي الممثل لصحّته وسلامة أحكامه – بأنّ من المستحيل أن تنشأ علاقة روحيّة بين إنسان وجماد . هذا شيء معاكس للمنطق ! . فالقارب مجرّد مجموعة من ألواح خشبيّة جامدة انقطعت صلتها بالأشجار منذ أمدٍ بعيد ، وتشدّها ببعضها مسامير فولاذيّة صُلبة . وما تمايل القارب إلّا حركةٌ عارضةٌ بفعل الأمواج ، وليست حركة ذاتيّة بفعل إرادة عاقلة . لا رموز ، ولا إشارات ، ولا تجاوب متبادل ، ولا دلالات مفهومة ، ولا هم يحزنون ! ولكن مرحى للاشعور المُعاند ، لاشعور الراوي الذي كان يُشعره بإحساس "غريب" مفاده أنّ وجوده متوقّف على ذلك القارب في تلك البقعة . وفي العادة ، وهذا من طبائع عمل قوى اللاشعور ، أن لا نشعر بالكيفية التي تنشأ بها تلك الأحاسيس ، ولا نعرف مدى صدقها أو كذبها بصورة قاطعة . ما نعرفه فقط هو أنّها موجودة وكفى ، وهذا هو ما يجعلها غريبة تستدعي "العلاج" !! ألمْ تستيقظ من نومك مرّة بعد منتصف الليل، وتجول في البيت ثم تعود إلى النوم من جديد، وفي الصباح تُخبر أصدقاءك كيف استيقظت ودرت في البيت ثم عدت للنوم من دون أيّ سبب ؟! لا يا عزيزي .. هناك أسباب لكنك "لا تعيها" و "لا تشعر" بها . وعلينا أن نحمد الله لأنه وهب مجموعة منّا موهبة الإبداع ليوفّروا لنا منافذ تتجسّد من خلالها تلك المشاعر (الشعر والرسم) ، والأفكار (القصة والرواية) ، والأفعال (المسرح والسينما) بصورة ليست "مشروعة" فحسب ، بل وذات فعل "علاجي" هي نفسها التي يدينها الوعي المُنتفخ بالعلم ، ويقمعها بقسوة ، لتصبح مرضاً فعليّاً أو يشمّر عن ساعديه لمعالجتها فيدمّر ذاته لأّنها – بتناغمها المُنضبط مع فعله - هي مصدر صحّته وتماسكه . في الإبداع نمضي في "جنوننا" الصحّي بلا إدانات . وحين نستمع للراوي وهو يصف مشاعره الروحية تجاه القارب وحالة الاعتماد النفسي المُتبادل (!) التي صارت تنمو بينهما بالقول :
(لا أعرف كيف تنشأ الأحاسيس ، ولا أعرف مدى صدقها أو كذبها ، ولكنّ ذلك الإحساس الذي أصابني كائنٌ فعلاً ، تترجمه كلماتي التي أنطقها بصوتٍ مسموع في وحدتي ، فكثيراً ما كنتُ أقول : إنّ وجودي متوقّف على ذلك القارب . ثمّ فكرتُ : ولكنّ وجوده ، هو الآخر ، يتوقّف عليّ ، فلو لم أشاهده أنا في هذا الشاطئ المُنعزل الخالي من البشر لما كان موجوداً ، وكأني بذلك أردّد تلك القضية المنطقيّة السخيفة التي يدرسها طلّاب الفلسفة عن تلك الشجرة التي سقطت في الغابة دون أن يوجد أحدٌ بالقرب منها ، فهل أحدثت دويّاً أم لا ؟ )(ص 274 و275) .. أقول لو سمعنا الراوي وهو يقول ذلك معبّراً عن حيرته في علاقته بالقارب ، فلن نشك في قواه العقليّة لأننا نتشارك معه في قواسم دوافعنا اللاشعوريّة المكبوتة . لكننا – بطبيعة الحال – لن نشكّ في قوى المبدع العقليّة . ولأوضّح أهميّة هذه المُداخلة أقول :
( كم مرة أحرجك طفلك الصغير وهو يطلب منك – وبإلحاح – أن تُحضر له القمر ؟ ويقول شاعر أغنية ( فيروز ) : حبيبي بدّو القمر !! ، وكم مرة وجدنا أنفسنا – نحن الراشدين – على القمر ، ولكن في أحلامنا . وهناك فئة رابعة تستطيع الحصول على القمر بسهولة وتتمثل بالمتصدّعين عقليا ( الذهانيين ) . وقد يسأل سائل هنا بهدوء ساخر : وبِمَ ، في رأيكم ، يختلف الشاعر عن المجنون ؟ فنقول إن السياب يقول :
"والليل يطبق غيمة سوداء تبتلع المدينة"
ومن المعروف أن الغيوم ليست بليل، وأنها علاقة مجازية واضحة، ولكن الحلم يستخدم علاقة التشابه في الشكل الهندسي بين الغيوم الكثيفة السوداء وخيمة الليل السوداء لكي ينتهي إلى إشارة تثير حادثة من حوادث الإيحاء . ذلك أن صورة الغيوم السوداء الماثلة في المحتوى الضمني توحي بصورة الليل الأسود في المحتوى الظاهري ، والعكس بالعكس . فعلاقة التشابه تعمل أو تؤثر من غير أن تكون معروفة . أمّا في الهذيان فإن عمل العلاقة الرمزية ليس بغير مُستنكر في العقل فحسب ، بل أن هذا العقل قد انحرف هو ذاته بالدرجة التي تجعله يرى مجرد التشابه تماثلا . فعندما تهجم مريضة نفسية على كوب القهوة لتقلبه لأن اللون الأسود – برأيها – هو لون الشيطان ، فنحن نلاحظ هنا أن الإشارة – العاني ( أي اللون الأسود ) لا يثير الردّ العاطفي الذي لا معنى له اتجاه المعني ( أي الشر ) فحسب ، بل أن حسّ النقد الذاتي أصبح ضعيفا وأصبح الحكم الهاذي / الفصامي يخلط العاني بالمعني والدال بالمدلول . أما الفن فإنه يستخدم الرمز وهو يعرفه كرمز ضمنيا على الأقل ، ويقرب استخدام الرمز الفني من الحلم والهذيان . فالسياب مثلا شبّه الغيوم السوداء بالليل وبالعكس ، ويمضي إلى حدّ الكلام على الغيمة التي تشرب المقابر . فإذا أخذنا الأشياء بحرفيتها فإن هذه الصيغة خطأ . ولو أن الشاعر خُدِع بها واعتبرها صحيحة إذن لقلنا أنه مُصابٌ بالفصام . إن المبدع لا يُخدع برمزيته على حين أن الفصامي يُخدع بها) (23) .
إذاً الفارق يكمن في "الخديعة" ، الخديعة التي نرتضي لأنفسنا أن تقع فيها ونحن بكامل قوانا العقليّة ، الخديعة التي يصمّمها القاص الآن عبر الراوي الذي يخبرنا الآن بأنّ صديقه الرسّام "خالد" هو الذي فجّر مشاعر الإحساس بالعلاقة الروحية بينه وبين القارب . كان مجيء صديقه الرسّام هو الحدث الذي انعطف بالقصة وحبكتها انعطافة حادّة سيبدأ من نقطتها تصاعد الأحداث ، وتنامي "الصراع" ، وصولاً إلى "الذروة" ، وكلّ ذلك ضمن "الإطار" الاستباقي الموجز الذي لخّص جوهر الحكاية في السطر الأوّل :
(قاربٌ صغيرٌ توقّفت عليه حياتي وتعلّق به وجودي)
فقد اقترح الرسّام ، الذي كان مريضاً بالقلب ، على صديقه الراوي (وسيكون لاجتماع الكلمة مع اللون معان إبداعية هائلة) ، قبل سنتين ، أن يشاركه السكن في دارته ، نزولاً عند نصيحة طبيبه ليقلّل هواء البحر النقي من نوبات الربو التي كان يعاني منها ، وينعش شرايين قلبه المسدودة . وقد وافق الراوي على مقترح صديقه الرسّام ، ليس لأنّ أواصر المودّة تربط بينهما منذ سنوات طويلة فحسب ، بل لأن سكنه معه في الدارة سيخفّف من حدّة وحدته .
وقد قال الراوي وهو يتحدّث عن مجيء صديقه للسكن معه :
(لقد لفتَ انتباهي إلى القارب ، أوّل مرّة ، صديقي الرسّام خالد) (ص 275)
ناسياً أنّه قد اخبرنا في الصفحة الأولى من الحكاية بأنّ القارب :
(لفتَ نظري أوّل مرّة ، عندما كنتُ أشاهدُ غروب الشمس) (ص 273)
وأعتقد أنّ السبب يعود إلى العامل الكامن ، لكن اللائب ، الجوهري ، الذي تحدّثت عنه سابقاً ، والذي سأتعرض له قريباً أيضاً . هذا العامل الذي سوف يتضاعف فعله بوجود صديق ، وهذا الصديق هو ، في الحقيقة ، "مشروع موت" .. أو ممثّل مُكره للموت سوف يشاركه الدارة ، ويشاطره حياته اليومية ، بسلوكه الغريب كما يقول الراوي ، فهو قليل الكلام ، يمضي معظم وقته في الشرفة ، يطيل التأمّل ، أو النظر إلى البحر ، أو يطالع في كتاب ، أو يحرّك فرشاته بضربات متأنّية صغيرة على قطعة قماش مثبّتة على حامل الرسم . كان قليل الكلام وكثير التفكير .
لكن العامل المشترك الأكبر بين الراوي والرسّام صار هو : القارب . فقد قال الأخير للأوّل ذات يوم :
- سأرسم ذلك القارب قبل أن يرحل .
فردّ عليه الراوي :
- إنّه دائماً هناك ، وأنا أتطلّع إلى رؤية رسمك له (ص 275) .
ويكشف الحوار الموجز بين الاثنين – في الظاهر - عن "منظورين" يعكسان نظرة الرسّام ، ونظرة الحكّاء ، على التوالي . فالموضوعات بالنسبة للأوّل ينبغي أن "تتثبّت" لكي يستطيع رسمها ، وعليه فإنّ عامل الزمن مهم بالنسبة له معبّراً عنه بالثبات في المكان ، أمّا بالنسبة للثاني فإنه يعبّر عن موضوعه الأثير بـ "الكلمات" التي تتعامل مع التمثيلات "المجرّدة" للموضوعات بعد مشاهدتها . ولهذا فالموضوع / القارب دائم "الحضور" بالنسبة إليه .
وإذا راجعنا الجملة التي قالها الرسّام عن عزمه على رسم القارب (قبل أن يرحل) ، وتأمّلنا هذا التعبير (قبل أن يرحل) لتلمّسنا الشحنة الآسية القريبة من الشعور بالثكل . ويبدو أنّ الرسّام الذي يعاني من أمراض توشك على إنهاء حياته يختلف في تعبيراته عن غاياته وعن نظرته (او "منظوره" بلغة الرسّامين) عن نظرة الراوي الصحيح جسديّاً لكن المُعتل نفسيّاً بسبب الوحدة الموحشة والعزلة الموصلة إلى الاكتئاب ، إلى المتغيّرات في حياته ، بالرغم من أنّ الحالتين : التهديد بالموت ، والاكتئاب الخانق ، يوصلان إلى نقطتين داخل دائرة واحدة هي دائرة سطوة المُثكِل . ولهذا فلا يمكن أن نتّفق مع البنيويين الذين جعلوا العقل سجيناً للغة ، ثم تطرّف "ميشيل فوكو" أكثر ليجعله سجيناً للمفردة كما قلتُ في التمهيد ، ونحن نلاحظ تعبيرات الناس في النصوص (ومنها هذه القصّة الموفّقة) أو في دروب الحياة . اللغة مطيّة اللاشعور . وعليه فإنّ نَفْساً ترزح تحت مطارق الرحيل المهدّدة بتوقّف القلب يصبغ نظرتها إلى القارب المنعزل المثبّت بالمرساة سواد احتمالات الغياب (قبل أن يرحل) ، أمّا النفس المحاصرة بأشباح الحزن والوحدة ، فإنها تعاني من "ثبات" الأشياء وركودها ، وتتمنى أن تنقل "صور" تلك الأشياء "البعيدة" قريباً منها ، لتحوزها ، و "تحييها" أملاً في المواساة وكشف الوحشة . إنّها تبحث عن "رفقة" ، إذا أردنا تبسيط الأمور (إنّه دائماً هناك ، وأنا أتطلّع إلى رؤية رسمك له) .
لكن ما هو مؤكّد هو أنّ الاثنين : الرسّام والراوي ، منشغلان بالقارب بصورة كاملة في دارة ليس فيها "شيء" سواهما . وقد اتّفقا أوّلاً ، ومن دون أن يقصدا ، على "أنسنة" هذا القارب الخشبي في المراحل المُبكّرة جدا من رؤيتهما له . فالراوي قال لنا في الصفحة الأولى من حكايته :
(منذ أن سكنتُ في هذه الدارة المُطلّة على هذا الشاطئ المُنعزل ، وهو في تلك البقعة من الخليج وحيداً) (ص 273) .
في حين أنّ الرسّام قال للراوي في أول التفاتة ، مُعلنة ، منه إلى القارب :
(سأرسم ذلك القارب قبل أن يرحل)
وعلى هذين المسارين : الوحدة والرحيل ، سوف تتمظهر الانفعالات والصراعات النفسيّة العميقة لدى الراوي والرسّام ، وسبل تعبيرهما عن العلاقة الروحية التي نُسجت خيوطها بينهما وبين القارب "الوحيد" "والموشك على الرحيل" .
وإذا كانت تلك العلاقة الروحية قد انكشفت بإعلان حقيقي وصارخ من قبل الراوي ، فإنها كانت غائمة وغير مُحدّدة بالنسبة للرسام عدا إعلانه الأوّلي "العملي" عن نيته في رسم القارب قبل أن يرحل ، وكأنّه يتحدث عن إنسان موشك على الابتعاد والغياب بإرادته ، وليس عن كيان خشبي يتحكّم به الإنسان . وقد مرّت الأيام والأسابيع دون أن يرسم خالدٌ ذلك القارب (ص 275) . وقد يكون تأخّر انكشاف صلة الرسّام بالقارب عائداً إلى أنّه – كما قال الراوي – صموتٌ قليل الكلام ، منطوٍ على ذاته . لكن انتباهة من الراوي الذي – كما قلنا سابقاً في أكثر من موضع – صارت دوافعه اللاشعوريّة تحدّد أطر أحاسيسه وإدراكه والتقاطات انتباهاته ، ومنها ما حصل الآن حيث كان يرى أنّ صديقه الرسام كان كثيراً ما يجلس في الشرفة ، ويطيل التأمّل أكثر ممّا يرسم أو يقرأ . ظنّه أوّل الأمر يتأمّل البحر ، أو يسرّح نظره في أمواجه ، أو يتطلّع إلى غروب الشمس ، أو يتابع حركة الغيوم في السماء . ولكن بدا له فيما بعد كما لو أنّه كان يحدّق في القارب ، وكأنّ عينيه شُدّتا بأسلاك غير مرئيّة ، أو كما لو كان يفكّر في أمرٍ يُقلقه ويملأ نفسه بالخوف (ص 275) .
ومن المؤكّد – بالنسبة للراوي – أنّ الأمر الذي يُقلق صديقه الرسّام هو أنّه يتوجّس الموت بسبب عمره المتقدّم وقلبه المريض . أمّا الراوي فيكشف لنا موقفاً آخر من الموت ، فهو يسخر من تخوّفات صديقه من الموت الوشيك :
(سخرتُ من تخوّفاته في نفسي ، لأنّني أعتقد تماماً بالقضاء والقدر . فالموت لا يرتبط بحالة الإنسان الصحّية ، فكم من شابٍّ وافته المنيّة وهو بكامل قواه الجسديّة ، وكم من مريضٍ عاش حتى بعد وفاة طبيبه وعُوّده !) (ص 275) .
ولكن لا يغرّنّنا عرض السطوة الشخصية في التعامل مع المثكل الذي يقوم به الراوي أمامنا . فأوّلاً ، لاحظ أن المَثَلين اللذين ضربهما الراوي يعكسان – من دون أن يدري – قدرة المُثكل الهائلة على التلاعب بنّا والسخريّة من مصائرنا . فلا الصحّة ولا المرض بقادرين على أن يكونا مانعاً بوجه هذا التحكّم الجائر . وإذا كانت لا الصحة ولا المرض يمكن أن يعطّلا حكم الموت ، فإنّ الأجدر بالراوي نفسه - صاحب هذه "النظرية" - أن يقلق هو من نظريّته . فكيف يموت شاب بكامل قواه الجسديّة مثل الراوي مثلاً إذا لم يكن المثكل مستهتراً بكل القواعد ؟! لكن موقف الراوي قد يأتي ضمن قانون "التناقض الأوّلي – Primary Paradox" الذي تحدّث عنه معلّم فيينا (24) . فلا أحد منّا يقرّ بفنائه الشخصي أبدا . نحن مرعوبون من خطى المُثكل التي تطاردنا ليل نهار ، ونخضع في تعاملنا مع الموت لهذا القانون الذي فيه يُنكر لاشعورنا قابليتنا على الانجراح ، ويُتخم بمشاعر الخلود المخدّرة والبقاء العصي على الموت ، في حين يقرّ في الوقت نفسه ، ويسلّم بحقيقة أن البشر الآخرين فانون وقابلون للموت . نحن لا يمكن أن نتصوّر موتنا الشخصي برغم أننا نعرف حتمية الموت. عبّر عن ذلك "تولستوي" – مثلاً - في قصته "موت إيفان إيليتش" حين قال : "إن إيفان إيليتش كان يرى بأنه يحتضر .. في أعماق قلبه كان يعرف بأنه يحتضر ويموت ، ولكنه لم يكن غير مهيأ لتقبّل هذه الفكرة فحسب ، بل ما كان ، ولن يكون ، قادرا على استيعابها" . المبدعون الجسورون هم الذين ابتكروا لنا طرقا وآليات وألعاب للالتفاف على هذا الشعور المُرعب . وفي الإبداع فقط تتوفّر لنا فرصة للمماطلة أو اختيار طريقة موتنا ، وحتى عدم الموت ، بل التلاعب بالمثكل نفسه . الإبداع هو بلسم أرواحنا الجريحة المفزوعة . وما يقوله الراوي عن سخريّته من تخوّفات صديقه من الموت ، هو خطاب موجّه إلينا من القاص عبر الراوي ، يهوّن شيئاً من مخاوف أرواحنا الجريحة وروحه أيضاً .
وثانياً ، فإنّ ما قدّمه الراوي من تفسيرات مُحتملة عن قلق صديقه من أمرٍ يملأ نفسه بالخوف ، مبنيّ على التخمين . وفي كثير من الأحوال فإنّ "تخميناتنا" تحمل الكثير الكثير من إسقاطات مكبوتاتنا الشخصية . لم تصدر من الرسّام المريض المُهدَّد أي إشارة أو تلميح إلى "الأمر الذي يملأ روحه بالمخاوف" ، وتحديد هويّة هذا الأمر المُرعب ، وجعله مرتبطاً بالموت ، جاء من الراوي نفسه في تأويل "تخميني" مُسقط في أغلب احتمال . جاء الرسّام إلى دارة صديقه الراوي باحثاً عن عوامل مساعدة على الشفاء ، ولا نعرف لماذا اختار الراوي دارة منعزلة في مكان موحش منقطع عن البشر ! والرسّام لم يحدّث الراوي عن القارب عدا عن نيّته في رسمه "قبل أن يرحل" – وبالمناسبة ، فالناقد ، أيضاً ، قد يقع في مصيدة التأويل "التخميني" المُسقط ، وهنا قد يحتاج إلى ناقد مُحلّل آخر ! – ولذا يستدرك الراوي بالقول أنّه قد يكون واهماً في تصوّره أن صديقه يحدّق في القارب . لكنّ في الواقع كان لاشعور الرسّام يشتغل .. وعمله على القارب في مرحلة "الاختمار – Incubation" كما نسمّي هذه المرحلة من مراحل العمل الإبداعي .
ففي ذات يوم انتهى الرسام من رسم منظرٍ تبدو فيه صخور الخليج الذي يرسو فيه القارب ساعة اصطدام الأمواج بها ، فتتطاير قطراتها وتتحوّل إلى ستارة هرمية من حبيبات بيضاء ، ولكنّ القارب لم يظهر في تلك اللوحة (ص 276) .
لماذا لم يرسم الرسّام القارب وهو في مركز المشهد ؟
هل أهمله لأنّه وعده بأن يرسمه "قبل أن يرحل" ؟
ثمّ لاحظ "انفتاح" هذا الوعد ، فهل يعرف الرسّام متى يرحل قارب مُهمَلٌ متروكٌ على الشاطئ ؟
هل رسم الرسّام كيف تصطدم الأمواج مهما كانت عاتية بالصخور وتكسّرها على حافاتها المسنّنة ، ثمّ تلاشيها كحبيبات بيض ، كناية عن مصيره الوشيك ، وممثلاً لمصائرنا المُقرّرة في سجلات الأقدار التي يرفضها الراوي ؟
هنا نعود إلى القول إنّ أي تأويل لا يمكن أن يحصل على مبرّراته من خلال الإسقاطات والتأويلات المفتوحة لـ "استجابة القارئ – Reader’s Response" التي بلا ضوابط كما يرى بعض نقّاد الحداثة ، ولا بدّ أن تكون لاستجابات القارئ ، ولتأويلات النقّاد أيضاً ، حدود تلجمها ، وهذه الحدود مُرتبطة بالنص ومجرياته وسلوكيات الشخصيات وأفكارها . وأنا لم أستطع أن أكون من أنصار القائلين بأطروحة أن القارئ يعيد كتابة النصّ ، فهي أطروحة مضلّلة إذا لم تخضع لضبط . فهذه الإعادة تتم في إطار منفصل ، وخارج قراءة النصّ ، وبعد أن يطوي القارئ صفحتها الأخيرة . وهذا لا علاقة له بالنص ككيان مستقل ولا بالكاتب كمؤلِّف يجب عليه الموت !! الأمر مرتبط بتخييل القارئ المرسوم بقدراته ومكبوتاته . وإذا أراد القارئ نشر تخييله الجديد هذا – إعادة الكتابة – فسوف يكون نصّاً جديدا خاضعاً للتقييم والفحص النقدي كنصٍّ أصيل أو مسروق . أمّا أن هناك كتّاباً للنص بعدد القرّاء فهذه أخدوعة مثل الكثير من أخاديع البنيويين والتفكيكيين . والأهم والأخطر الذي ينقض هذه الأخدوعة هو أن معنى أي نصّ هو معناه الأصيل ، وليس غيره ، مهما كانت محاولات التأويل :
(فلا بدّ أن يرتبط التأويل بالسياق العام ، وبالمعقولية الشعرية ضمن إطار الصورة الكلّية . فمهما حاول البنيويون أو التفكيكيون ونقاد منهج استجابة القارئ ، اللعب على أوتار التأويل ، ولعبة فصل الدال عن المدلول .. إلخ ، فإن ما يمكن لأي أحد - حتى لو كان من سكّان المريخ - أن يلاحظه هو تماثل المعنى الشديد ويقينيّته . فلو قرأ مليون قارئ الرواية الجاسوسية ذاتها (مثل العميل رقم 7 لإيان فليمنغ) ، لافترض كل واحد منهم أنها قصة عن الجواسيس . ولن يخطئ أحد منهم فيخلط بينها وبين كتاب في الكيمياء الكهربائية . أمّا لو كان المعنى نتاجاً للتأويل لتوقّعنا أن نجد بعض النقاد ممن يرون أن "الدكتور لا" كتيّب في الكيمياء الكهربائية ، وأنّ جيمس بوند اسم مادة كيمياوية . وما يمكن للمريخي أن يقوله هو أن للنصوص سمة مميزة تتمثل في أن لها معان متقنة ومحددة مرتبطة بها ، وأن هذا واحد من الأشياء التي تميزها عن الأشياء الثقافية الأخرى ، مثل أحجار البناء والناس ، التي ليس لها مثل هذه المعاني . ويبدو أن المعنى المُتاح للعموم في نص من النصوص يحدّده موضوعيا ترتيب محدّد للكلمات التي يشتمل عليها هذا النص ، واللغة التي كُتب بها ، والأعراف التي تقرّر كيفية قراءته ، والإحالات السياقية (إلى أوضاع واقعية ، أو إلى نصوص أخرى) التي يمكن لهذا النص أن يطلقها في أزمنة محدَّدة وفي سياقات قراءة محدَّدة . (أحد الأمثلة على سياق من "سياقات القراءة" هو استشارة دليل الهاتف ، ومثال آخر هو قراءة المرء قصيدة من أجل المتعة) . وعليه يمكننا أن نصرف النظر ودون ضرر عن ذلك التناول الذي يرى أن كل قراءة هي تأويل وحسب ، وأن ما من قراءة موثوقة أكثر من غيرها ، كما لو أن من الممكن ومن المشروع أن نقرأ "مرتفعات وذرنج" بوصفها دراسة رصينة في الحبّ السحاقي في الصين في القرن الرابع عشر . فهذه النظرة إلى التأويل هي طريقة الشخص ذي العقل الكسول في التأكيد على أن ما من شيء مهم لكي يتم تفسيره) (25) .
وعليه ، علينا أن نبحث عن العوامل التي تقف وراء عدم رسم الرسّام للقارب في لوحته الأولى ، واكتفائه برسم الصخور التي تحيط به وتتكسّر عليها الأمواج . هذه الصخور إذا عدنا إلى استهلال القصّة كانت تشكّل سيفاً صخريّاً يحميه من أمواج البحر الهائجة . وقد أزاحه الرسّام عن المشهد في محاولة أولى تنطلق من إيمان عميق بلا جدوى حضور القارب .. وحتى وجوده . فهو يرى أنّ الحياة - هكذا أظنّ – يحكمها صراع أزلي عاتٍ نحنُ بعيدون تماماً عن التأثير فيه أو تغيير مجراه . هذا الصراع هو صراع تحت خيمة الموت وراياته السود ، ولا أثر لأي جهد من جانبنا نحن الضحايا الذين علينا التسليم بأقدارنا المحتومة . وعلى الرغم من اعتراف الراوي ، حين عرض عليه الرسام اللوحة ، بأنّها لوحة رائعة ، لكن ينقصها القارب ، إلّأ أنّ الرسام أبعد القارب من لوحته الثانية أيضاً . فقد رَسَم :
(لوحة تبدو فيها غيوم سود كثيفة متتابعة تتحرّك نحو الخليج ، كما لو كانت طائرات حربيّة مُخيفة تنقضّ واحدة تلو الأخرى على السيف الصخري القريب من الشاطئ ، تماماً على البقعة التي يرسو فيها ذلك القارب . وصُمّم المنظور بحيث يبدو كأنّ الناظر إلى اللوحة يقبع تحت ذلك الهجوم القادم من السماء . لكن القارب نفسه لم يظهر في تلك اللوحة) (ص 276) .
لقد تقدّمت الرؤيا بثقة وهدوء لتتصالح مع الحقائق المحتومة ، بل الحقيقة الوحيدة المحتومة ، وهي حقيقة فنائنا الشخصي المؤكّد . وها هو الرسّام يجسّد ، وببراعة أثنى عليها الراوي ، حركة الغيوم والأمواج بصورة واضحة تماماً ، كما لو أنّ الناظر في عين العاصفة . لكنه أغفل القارب كما ينبّهه الراوي إلى ذلك ناسياً أنّ الرسّام قد وضع ذاته ناظراً – أو أي ناظر آخر للمشهد – في المركز الذي كان ينبغي أن يحتله القارب ، فتدمّره الغيوم السود الكثيفة المُنقضّة كالطائرات الحربيّة . الراوي في عمق ذاته "يُنكر" هذه المفارقة التي هي بديهية بالنسبة للرسّام الذي ينتظر موته . وهو حين يرد على الراوي الذي ينبّهه إلى أنّه لم يرسم القارب في اللوحتين ، ويعده بأنه "سيرسمه ذات يوم" (ص 276) ، يحاول ألّا يزعج صديقه من جانب ، ولا يُدخل نفسه – هو المعروف بصمته وسلوكه التأمّلي الثابت - في مناقشات مفروغ منها بالنسبة له من جانب آخر . فبخلاف ما يتوقّعه الراوي ، فإنّ الرسام في الحقيقة قد رسم القارب في اللوحتين ، معبّراً عنه بمكانه الفارغ ، لأنّه قد "تماهى" مع القارب ، فأصبح رمزاً لحياته ولمصيره المُنتظر ، واقفاً ناظراً خارج لعبة الحياة . وهذا يعكس حقيقة أنّ تعلّق الرسام بالقارب وصلته الروحية به و "تماهيه" معه ، هو أقوى بكثير مما لدى الراوي ، وأنّ الرسام أكثر وعياً بمعنى هذا القارب ودلالاته الرمزيّة من الراوي الذي كان يتساءل عن سرّ تعلّق نفسه بهذا القارب ، ويعتبر إحساسه بأن وجوده متوقِّف على وجود القارب إحساس غريب عليه. لم يكن يعرف كيف تنشأ الأحاسيس ولا مدى صدقها أو كذبها . في حين أنّ الرسّام قد ارتبط بالقارب بوعي حادٍّ لمعانيه في وحدته وعزلته ، وبمقدرة عالية قائمة على رؤية ثاقبة في توظيف إيحاءاته الرمزيّة . وهذا هو الفارق بين الفنان وغيره من البشر في النظر إلى دلالات الأشياء والموجودات الرمزيّة . الفنّان يستطيع النظر إلى مكنونات لا شعوره وارتباطاتها وكيفية التعبير عنها .. الفنان هو من أصحاب اللاشعور العاري إذا جاز التعبير ، لديه "إستعداداته" التي تؤهّله لاستقاء واستثمار الدلالات الرمزيّة في المكوّنات التي تحيط به حتى الجامدة البكماء منها ، بخلاف الراوي – الذي هو مثلنا – ينفعل ، ولا يستطيع أن يستثمر ما ينفعل به في التعبير عن هواجسه وصراعاته التي "تُعمَّم" من خلال التعبير عبر الفنّ لتصبح تعبيرات جمعيّة . والفنان يستميت في تحقيق مشروعه بالرغم من كل ما يشعر به من آلام أو يعانيه من صعوبات وأمراض مهما كانت جسيمة . كان الرسّام خالد يشعر ، بين آونة وأخرى ، ببوادر أزمة قلبيّة : ألم في الصدر سرعان ما ينتشر إلى الفكّ والكتف اليسرى ، ارتفاع في خفقان القلب ، صعوبة في التنفّس ، فيسرع في تناول قرص من دوائه ، ويستلقي على ظهره في الأريكة الموجودة في الشرفة . لم يمنعه أيّ عائق عن الإنهمام بمشروعه .. بقاربه الذي يخاطبه بالقول :
(سأرحل يوم ترحل ، أو ترحل يوم أرحل)
وقد ظنّ الراوي أوّل الأمر أنه يخاطبه ـ ولكنه أردف قائلاً :
(ولا فائدة من رسمك . سيرحل الأصل وتبقى الصورة)
فتأكّد من أنّه كان يخاطب القارب .
هكذا نتأكّد من أن "توحّد" الرسّام مع القارب هو أشدّ قوّة ووثاقة من تعلّق الراوي به . وحتى الآن لم يُدرك الراوي طبيعة علاقة الرسّام بالقارب فاعتبرها نتاج سقوط الأخير في الوساوس بسبب إحساسه باقتراب الموت منه ، فلذلك علّق حياته على وجود القارب في الخليج (ص 277) ، في حين أنها علامة على انسحاب الفنّان مع "قاربه" إلى الداخل ، أمّا الراوي فإن "قاربه" في الخارج ، وشتّان بين القاربين . فاللوحة التي يرسمها الفنّان هي شرارة تنتج عن احتكاك الروح بالمادة (26) ، وما اللوحتين اللتين رسمهما خالد سوى شرارة نجمت عن احتكاك روحه بمادة موضوعه : القارب ، وهذه الشرارة قد تحرق الأصل فلا تجده في اللوحة ، وتجد إيحاءات الروح التي تحوّلت إلى فراغ في اللوحة في حين أنّها انتقلت إلى الأبد . فيمكننا القول بثقةٍ إنّ أكثر ما كان ينغّص على الرسّام هو تطفّلات صديقه الراوي وذروتها البليدة والمفارِقة تتمثل في تساؤلاته عن أين القارب . كيف يقنعه الرسّام ، يا ترى ، بأنّ القارب موجود في اللوحتين وأنّه في غاية الوضوح ؟
لقد سمع الشاعر الشهير "ريلكه" ذات مرة زقزقة عصفور ، هذه الزقزقة جمّدت اللحظة التي خلقتها ، وسمّرت جريانها . تجاوزت نظام البدن ووقفت بينه وبين الروح ، لافتة انتباهه إلى السماء المكوكبة بالنجوم والمترائية من خلال شجرة زيتون . فأغمض عينيه كي لا يمنعه أيّ حسّ خارجي أو عامل جسدي من الاستغراق في نشوته . عندئذ غمرته النهاية من كل جهة بصورة حميمة لدرجة أنّه أحسّ على صدره ثقل كل تلك الكواكب المُشعّة فوق رأسه ، وأخذته حاجة مُلحّة إلى الخلق . ثم تذكّر إشراقات من هذا النوع حصلت له أيام طفولته : الحماس الذي كان ينتابه أحياناً إبّان العواصف حين كان يخترق السهول الواسعة محطّماً جدار الريح المُتجدّد أمامه دون انقطاع ، الأشكال الغريبة التي كان يتأمّل الغيوم وهي ترسمها في الفضاء كمسيرات بطوليّة ، ونشوات أخرى كانت تمسّ قلبه كصوت القدر . حتى ليشعر الآن أنّه منذورٌ لتحقيق هذا النوع من العلاقات بين السماء والأرض ، واللحظات من التلاقي بين المادّة والروح . وإنّ هذه اللحظات المهنوءة التي يمرّ بها تعزله وتميّزه عن بقية الناس ، وترفعه عن مستواهم حتى ليشعر بالتفوّق حين يقارن بين ثقالة حياتهم والخفّة الملائكيّة التي يتمتّع بها ، بين الهموم والأوهام التي يغرقون فيها وبين الطمأنينة والنعمة المُباركة التي يستأثر بها . إنّهم عاجزون عن بلوغ القمم الروحية التي يتبوأها ، إنّ حالة التجرّد المُطلق عن أغراض هذه الدنيا التي توصّل إليها ناتجة عن أسباب لامرئية يسمّونها "الفراغ" هم المحرومون من ثماره المُسكرة ، المسجونون في عالمهم الضيّق ، الراسفون في أغلال الأرض ، وأن يعطيهم بعض الإيضاحات عن علاقاته مع الطبيعة ، وكل تلك الأمور التي يهملونها ، أو لا يلقون إليها سوى نظرة عجلى لاهية . في مثل هذه اللحظات الشعريّة يولد ما يسمّيه ريلكه :
"... فضاء العالم الداخلي" ... ) (27) .
وخالد الرسّام كان يبدو للراوي صموتاً منعزلاً في حين أنّه كان منشغلاً بفضائه الداخلي مقابل انشغال الراوي بفضائه الخارجي ، فضاء دارته وعالمه . كان الرسام منشغلاً وشغولاً بقاربه يريد أن يصوّره بأروع شكل في لوحاته ، شكل يحمل بلاغة الحضور في الغياب ، وغنى التجلّي عبر التخفّي الآسر الذي يشبه الاستدلال على امرأة حبيبة من بقايا عطرها العالقة في فضاء اللوحة . ولم يكن الرسّام يشعر – كما كان يُهيّأ للراوي – باقتراب الموت ، بل كان يعيشه ، ويعمل على تعرّف ملامحه وهي محاولة مُعجزة أن نتعرّف على وجه فنائنا وأن نعمل على تجسيد العدم . وفي انشغاله هذا بفضائه الداخلي لم يكن يشعر بأي شيء خارجي . لم يكن يشعر حتى بالراوي وهو يمر بالقرب منه ، لأنه مهموم بمهمّة عظيمة يبغي منها الإمساك بلحظة الأبديّة التي لا تتحقّق إلّا بالموت . و"الموت عمل شاق ، وهو لا يحدث مرّة واحدة في ختام حياة البشريّة . إنه يتم في كل لحظة . يبدأ ويعيد نفسه دون انقطاع إلى أن تحصل الوفاة النهائية . لكن البشر – مثل الراوي - يرتكبون خطأ التفريق الحازم بين الحياة والموت وكأنهما أمران متعاكسان متناقضان لا يمتان إلى بعضهما بأي علاقة . في حين أن عمر الإنسان هو بالفعل مزيج من بقاء وزوال يقطعه متنقلاً دون توقف بين هاتين المملكتين) (28) .
والفنان هو الوحيد الذي يعيش موته في حياته ، بإدراك عميق ، ويحاول تثبيت حركة الزمان من خلال الإبداع والعزلة (الانسحاب) . ولهذا فحين كان الرسّام يخاطب القارب قائلاً :
(سأرحل يوم ترحل ، أو ترحل يوم أرحل)
فإنّه كان يعبّر ببلاغة عالية عصيّة على فهم الراوي عن حالة التمازج الوجودية هذه ، والسعي إلى تثبيت حركة الزمان في محاولة يائسة وعظيمة للظفر بالخلود والاقتراب من الله .. ولا يقترب من الله سوى الصامتين المطأطئين المنسحبين إلى ذواتهم . وحين سمع الراوي صديقه الرسّام المُتعب يخاطب القارب بالقول :
(ولا فائدة من رسمك ، سيرحل الأصل وتبقى الصورة)
إعْتقَدَ أن الرسّام قد سقط في قبضة الوساوس الناجمة عن الإنهاك والتمزّق النفسي ، لكنه في الحقيقة لم يكن مسلّحاً باشتراطات الرؤيا التي تتيح له فهم مقاصد الفنّان ، لأّنّهما - كما قلتُ - ينظران إلى المعضلة من منظورين مختلفين . ويأتي الردّ من الراوي نفسه ومن دون أن يدري ، وذلك حين يتذكّر ، وهو يعتقد أنّ صديقه يعلّق حياته على وجود القارب في الخليج ، قصّة للكاتب الأمريكي "أو هنري" :
(عن تلك الفتاة الفقيرة التي غدر بها حبيبها ، فمرضت حتى كادت تُشرف على الموت . ولم تكن تملك حتى ثمن الدواء فتبرّع جارها الرسّام العجوز بشراء الدواء لها . وكانت وهي في سريرها تراقب رياح الخريف تعبث بوريقات غصن شجرة في الشارع يستند إلى شباكها ، فكانت تردّد وهي في هلوسة الحمّى أن أيام حياتها تتساقط كما تتساقط تلك الوريقات من الغصن ، وأنها ستفارق الحياة عندما تسقط الوريقة الأخيرة . ولكنها ، في الصباح ، فتحت عينيها ، فرأت الشمس مشرقة ، تتسرّب إليها دافئة من الشباك ، والوريقة باقية في موضعها ، وقد ازدادت اخضراراً ، ورونقاً ، وتفتّحت إلى جانبها براعم صغيرة ، فعاودها الأمل في الحياة . ولم تعلم أنّ جارها الرسّام العجوز قد أمضى شطراً من الليل تحت المطر والريح ، وهو يرسم الوريقة والبراعم على زجاج شباكها ، وأنّه سقط في الفجر ميّتاً متأثّراً بالبرد) (ص 277) .
هذا استخدام موفق من قبل القاص لما يسمّى في لغة النقد الحديث بـ "القص الماورائي أو ما وراء السرد – Metafiction" ، وهو من سمات السرد الحداثوي وما بعد الحداثوي على الرغم من أن جذوره ترجع في بعض الدراسات إلى "أوديسة" هومير أو "دون كيخوتة" سيرفانتس . يحاول القاسمي هنا أن يثبت معطيات قصّة من خلال معطيات قصّة أخرى ، أن يضع حكاية ثانوية في أحشاء الحكاية الرئيسية ، وباختصار فإن العمل السردي الماورائي هو الذي يلفت انتباه القارىء إلى أوالياته قصداً . هو العمل الذي يلفت الاهتمام إلى ذاته كعمل فني . إنها أشبه بالمسرح التمثيلي الذي لا يتيح للمشاهد فرصة نسيان أنه يشاهد مسرحية . والسرد الماورائي لا يتيح للقارئ فرصة نسيان أنه يقرأ قصّة أو رواية . ويجب أن يتمتّع النصّ "الجنيني" الذي تمّ احتواؤه تحت عباءة الحكاية الأمّ بالوظيفة والقصديّة ، كي يكون له معنىً وموقعاً في بناء الحكاية الأم ، وكي لا يهشّم وحدتها ويتحوّل إلى "فجوة" بدلاً من أن يكون استمرارية وإثراءً . إنّه نظرية في كتابة القصّة من خلال ممارسة كتابة القصّة ، إنّه محاولة لردم الخط الفاصل بين الواقع والحكاية (29) . وقد أدخل القاسمي هذا النص القصصي ليعزّز لحمة قصّته بقصّة مُحتواة في رحم حكايته ، ويوفّر مساراً مُضافاً يساعد على تأكيد آراء الراوي حول صراعات صديقه الرسّام وإحباطاته الدفينة . فقد كان الراوي يرى – كما أخبرنا – بأنّه مقتنع بأنّ صديقه الرسّام قد وقع فريسة للوساوس بسبب إحساسه باقتراب الموت ، فبدأ يعلّق حياته على وجود القارب في الخليج .
لكن دعونا نتأمل قصّة "أو هنري" "الورقة الأخيرة – The last leaf" التي قرأتُها بلغتها الإنكليزية ، وفق الخلاصة التي قدّمها الراوي مع الإضافات التي سأراها ضرورية لإعطاء صورة أدقّ تعيننا على المقارنة والاستفادة الناجزة . فالفتاة الفقيرة "جونسي" – في القصة الأصلية لم يهجرها حبيب ولم تتمتع بعلاقة عاطفية كما يقول الراوي – قد أصيبت بداء "ذات الرئة – Pneumonia" الذي اجتاح المنطقة مع موجة العواصف الثلجية الشديدة . كان لديها دواء تتناوله ، وتُفحص من قبل طبيبٍ يتابع حالتها باستمرار ، ولم يكن جارها الرسّام العجوز "برمان" قادراً على شراء الدواء لها ، فقد كان فنّاناً فاشلاً لم يحقق المكانة المطلوبة بالرغم من مرور أربعين عاماً على ممارسته لفنّ الرسم ، فأغرق نفسه بالخمرة ، وصار يعيش من عمله كنموذج للفنانين الشباب ، ومنهم "سو" زميلة جونسي في الغرفة . لكن الفتاة وهنت كثيراً جداً ، فاستسلمت للمرض ، وصارت تشعر بأنّ نهايتها وشيكة . ولأنّ الإنسان حين يضعف ويتهدّده المُثكل ، "ينكص" إلى طرائق التفكير السحري ، وهو يبحث عن أيّ وسيلة للنجاة ، فقد ربطت الفتاة مصيرها بأوراق شجرة لبلاب متهالكة ومتّكئة على الجدار المقابل لنافذتها ، وهي ممدّدة بيأس على سريرها . صارت الفتاة تعدّ أوراق الشجرة التي تصفرّ وتذبل وتتساقط بفعل الثلج والبرد والريح ، تعدّها عكسيّاً : 12 .. 8 .. 2 .. ولم تبق أخيراً سوى ورقة واحدة آمنت بقوّة بأنها ستكون ورقة حياتها الأخيرة ، وأنّها ستودّع هذا العالم إلى الأبد حين تسقط هذه الورقة الأخيرة . وعرَضيّاً تُخبر "سو" الرسّام العجوز الذي يعمل نموذجاً لها ، عن تدهور حالة الفتاة الصحّية ، وأنّها صارت تربط موتها بسقوط ورقة شجرة اللبلاب الأخيرة ، فيستنكر الرسام مثل هذه التخيّلات الحمقاء ويصيح :
(عجيب ! هل الناس في هذا العالم على هذا الغباء الأحمق ، فيموتون لأن الأوراق تسقط عن كرمة بلهاء ؟ إنّي لم أسمع بمثل هذا .. لا .. لن أجلس كنموذج لناسكٍ أحمق .. كيف تسمحين بمثل هذا الحُمْق يتسرب إلى عقل تلك الفتاة البائسة ، مس " جونسى " ؟) (30) .
كان "برمان" يعلن دائماً أنّه سوف يرسم لوحة حياته الكبرى في يومٍ ما ، واستمر على هذا الحال أربعين عاماً ، وقد شاهدتْ "سو" حين نزلت إلى غرفته لوحة من الجنفاص موضوعة على حامل للوحات ينتظر منذ خمسة وعشرين عاماً اللمسة الأولى من الرائعة المُختارة التي لم تولد بعد ، والتي يتوعّد بأن تكون عمل حياته الأعظم ، الذي سيبيعه بثمن كبير يحقق له ثروة ، ويرحلون جميعاً – هو والفتاتان – عن هذا المكان الخانق المُمرض .
في الليلة الأخيرة نامت الفتاة اليائسة محاصرة بقلق مُريع من أن تستيقظ صباحاً ، فتجد الورقة الأخيرة قد سقطت ، فتسقط أوراق سنيّ عمرها معها بين يدي الموت . لكن المفاجأة كانت حين استيقظت متوجّسة لترى الورقة صامدة لم تسقط فيتغيّر مزاجها السوداوي بصورة جذريّة وسط دهشة صديقتها وهي تقول لها :
(لقد كنتُ فتاةً سيّئة يا سو .. فقد دعا شيءٌ ما تلك الورقة الأخيرة أن تظل حيث هي لتكشف لي كم كنتُ شريرة . إنّها لخطيئة أن يريد المرء أن يموت . آنَ لكِ أن تحضري لي بعض الحساء الآن ومعه بعض اللبن .. لا .. أحضري لى مرآة يدٍ أوّلاً .. ثم ضعى بعض الوسائد من حولي حتى أستطيع أن أعتدل فى جلستي فأرقبك وأنتِ تعملين) ..
ووسط دهشة الطبيب أيضاً الذي قال لصديقتها ، عندما استفحل مرضها ، بأنّ فرصتها في الحياة هي واحد من عشرة :
(حسناً .. إنّه الضَعْف إذن .. سوف أفعل كل ما يستطيع العلم أن يزوّد به جهودى فتنجزه ، ولكن عندما تبدأ مريضتي في عدّ العربات التي ستسير فى موكب جنازتها .. فأنا أطرح خمسين في المائة من قدرة العقاقير على الشفاء ، وإذا استطعتِ أن تجعليها تلقى سؤالاً واحداً عن الموضة الشتوية الجديدة لأكمام المعاطف ، فسوف أعدك أن تكون الفرصة بنسبة خمسة ، لا واحد إلى عشرة) .
ولاحظ ، سيّدي القارئ ، "يباس" المنطق الطبّي الذي يعتمد على حرفيات العلم المنطقيّة الجافّة حتى لو كانت علم النفس ، ولو قالت المريضة للطبيب أنّها تنتظر مصيرها المعلّق على غصن اللبلاب لسقط على قفاه من الضحك . وفي حسابات الروح المُحاصرة يكون كلّ شيء - مهما صغر - طريقاً للحياة والشفاء ، إذا تأسّس على إيمان فردي راسخ وعميق . ولعلّ في هذا وشيجةً عميقة مع جوهر عمل الفنّان . وقبل أن يخرج الطبيب أخبر المريضة بأنّه ذاهب لفحص الفنّان المسكين ، العجوز الضعيف ، الذي أُصيب بنوبة برد شديدة ، وقال لها إنّ حالته خطيرة والأمل في شفائه معدوم .
في اليوم التالي قال الطبيب بأنّ المريضة قد شُفيت وأنّ الخطر قد زال عنها ، و"إنّ الغذاء الطيّب والعناية هما كلّ ما تحتاج إليه" ، وفى عصر اليوم ذاته ، جاءت " سو " إلى المخدع حيث ترقد " جونسى " تعمل فى هناءة بال في نسج شالٍ وغطاءٍ من الخيوط الصوفية ، ووضعت حول ذراع المريضة الوسائد ، ثم قالت :
"عندي شيء أقوله لكِ أيّتها الفأرة الصغيرة .. لقد مات اليوم مستر " برمان " فى المستشفى من أثر إصابته بنزلة رئوية . لقد مرض يومين فقط . وجده البواب فى صباح اليوم الأول فى غرفته فى الطابق الأرضى لا يلقى رعاية من ألم يعذّبه ، وكانت حذاؤه وملابسه مبتلة كلها ، وكان باردا كالثلج ، ولم يكن أحدٌ يتصور أنّه أمضى ليلةً مُروعة كهذه . ثم وجدوا مصباحاً لا يزال يضيء ، وسلّماً قد سُحب من مكانه ، وبضع أدوات للرسم ، وحوض ألوان اختلط عليه اللونان الأخضر والأصفر .. انظري خارج النافذة يا عزيزتي .. انظرى الى ورقة اللبلاب الأخيرة على الجدار .. أوَ لمْ تعجبي كيف أنها لم تهتز ولم تتحرك عندما هبّتْ الريح ؟.. آه .. يا حبيبتى .. إنها تحفة الفنان العجوز الرائعة .. لقد رسمها هناك ليلة سقطت الورقة الأخيرة) .
شُفيتْ الفتاة البائسة من ذات الرئة ، ومات الفنّان العجوز بنفس المرض ، وكأنّ الموت يُعطي بيد ليأخذ باليد الأخرى . وقد قام الفنّان بتضحيته العظيمة بلا تصريح أو إعلان ، زرع الأمل في روح الفتاة ، وعزّز إرادة الحياة في روحها المهزومة ، وخلّصها من براثن الموت ، أمضى الليل يعمل تحت البرد والريح الثلجية العاصفة .. عمل على لوحته .. لوحة الحياة ، حتى الموت . ولم نسمع من الفتاة أي كلمة أسف ولا أيّ نأمة ألمٍ عليه هو الذي أنقذها . كما لم يخبرها بما فعله . لقد كان يشتغل لذاته في الواقع .. للوحة حياته التي انتظرها طويلاً .. إنجازه الذي يؤمّن له خلوده .. وقد فجّرت محنة الفتاة مشاعره بضرورة التصدّي لدوره "الإنقاذي" الضائع ، خصوصاً أنّه كان يعتبر نفسه وبرغم ضعفه وهزاله - الحارس الشخصي للفتاتين الوحيدتين . لقد تعّطلت "اللحظة الفائقة" للإنجاز ، كما تُسمّى في علم النفس ، أربعين عاماً ، وتأخّر تنفيذه للوحةِ عمره الكبرى خمساً وعشرين سنة ، لأنّه لم يجد الموقف / عود الثقّاب ، الذي يُشعل حطب التجربة الذي كان يتجمع حسب تعبير "غوته" . وجاءت الشرارة من تعلّق الفتاة المريضة بأوراق شجرة اللبلاب المُتساقطة . لم يكن طبيباً يعطي الأدوية أو يصفها ، بل فنّاناً "خالقاً" يدفعنا ما قام به إلى التساؤل بأي قدرة تشكيليّة عظيمة استطاع رسم ورقة شجرة لبلاب وحيدة على الجدار هي من الدقّة والحيويّة بحيث أنّها أقنعت الفتاة بأنّها ورقة لبلاب حقيقية ولا تختلف عن ورقة اللبلاب التي تراها كلّ يوم .. أي إعجاز يحقّقه الإنسان – مدعوماُ بالموهبة - حين تُستثار فيه الروح ، وتُستنهض قواه الخلّاقة ، ويشعر بأن لديه دوراً في هذه الحياة العابرة الزائلة ؟! وهذه الورقة التي كانت متآكلة متهالكة ، هي التي كانت السبب في عودة الروح إلى الفتاة ، ولكنّ خلقها عبر اللوحة هو الذي كان سبباً في موت الفنّان . يبدو أن الإنسان الذي "يخلق" يجب أن يموت لأنّ الكون لا يتحمّل سوى إلهٍ واحد ! ولن تكون هناك قيمة لورقة اللبلاب الحقيقية أبداً تُضاهي قيمة ورقة اللبلاب التي "خلقها" الفنّان . فقد خرجت عن " سياقاتها " التي أقرّتها الطبيعة ، فهي ، الآن ، بلا تربة ولا جذور .. ولا عوامل بقاء أخرى معروفة . إنّها "مزروعة" الآن في طابوق الحائط .. حيّة ، مرّة واحدة وإلى الأبد . وهذا "الخروج عن السياق المُقرّر" المُبتذل هو من أخطر عطايا الفنّ . وهذا ما سيتكرّر مع القارب حين يخرجه خالد عن "سياقه" خروجاً لم يقنع عقل الراوي الذي يريد أن يراه عياناً ، ويلمسه بيديه .
قد يقول السادة القرّاء بأنني قد خرجتُ كثيراً عن حدود تحليل النصّ المطروح لعلي القاسمي ، لكنني أذكّر دائماً أنّ عمل الناقد يختلف تماماً عن عمل الكاتب بالرغم من أنّ الكثير من الاتجاهات الحداثية تحاول المساواة بينهما ، ليس مطلوباً من القاص أن يأتينا بالنص القصصي كلّه ، هنا سوف يحطّم نصّه ويثقله ويرهّله . كما أنّ النص المُقتبس لا يطابق النص المطروح أصلاً . لكن على الناقد أن "يُفسّر" ، أن يعمل كـ "مُفسّر" و"مُحلِّل" .. أن يكشف كل خفايا النصّ ، وأن يضئ أمام بصيرة القارئ وبصره كل الزوايا المُعتمة . ومن دون أن أعود إلى قصّة "أو هنري" الأصلية ، لن يكون بإمكاني أن أكشف للقارئ "المصلحة" النفسية للراوي في اقتباس هذه القصّة .
أراد الراوي من الاستعانة بمضمون قصّة "الورقة الأخيرة" أن يوفّر دعائم لوجهة نظره في أنّ صديقه الرسّام ، الذي تعلّق بالقارب ورسم عنه لوحتين أزاحه فيهما من مكانه المتوقع قرب السيف الصخري ، كان قد تماهى تماماً مع القارب بحيث أوصله هذا التماهي إلى الوقوع فريسة الوساوس بأنّ رحيل أحدهما يعني رحيل الآخر . لكن مَن يضمن أنّ القارب سوف يرحل إذا رحل الرسّام ؟ كانت الفتاة تعتقد أن حياتها تتوقف على الورقة الأخيرة : إذا رحلت الورقة فمعناه أنّها سوف ترحل كإنسانة ، ولم تكن تحكم على الورقة بالعكس ، أي أن ترحل الورقة إذا رحلت الفتاة . لم يكن هذا وارداً في فكرها . ولم تكن قد رسمتْ لوحة لشجرة اللبلاب التي رهنت مصيرها بأوراقها التي تساقطها الريح .
وحين نريد إجراء مقارنة ، حقيقية ومتكاملة ، فإنّها يجب أن تجري بين الرسّام خالد والرسّام برمان . كلاهما عجوزان ومريضان ، لكنّ الأوّل كان قد حقق الكثير من الإنجاز في مسيرته الفنّية في حين بقى الثاني يراوح منتظراً فرصة عمره الاستثنائية التي يرسم فيها لوحة حياته المُؤجّلة . كان القارب شرارة خالد ، أمّا شجرة اللبلاب فكانت شرارة برمان ، أمّا الراوي والفتاة فهما وسيطان ليس إلّا . والوسيط في الفنّ يستخدمه الفنان كغطاء لتحقيق غاياته الخلافية ، فلأنّ الراوي كان ينتظر رسم القارب ، أبدع خالد لوحتين تضمّنتا القارب ، ولكن الراوي لم يستوعب معانيهما ، ولا كيفية "حضور" القارب لحظة "غيابه" . هذا لا يتحقّق إلّا حين يلتحم الفنّان بموضوعه بصورة كاملة . كان الرسّام قد قرّر البقاء في الواقع إلى الأبد . وحين يثبّت خلوده ، يركب قاربه ويرحل عن عالمنا المادي ، ليبقى في مكانه سواءً على السيف الصخري أو في مركز المنظور ، سواء بسواء ، ولكن في اللوحة وليس خارجها ، وأيّ محاولة لفهم هذه العلاقة على أساس القوانين الفيزيائية : كتلة لحم جسد الرسّام ، وكتلة خشب القارب ، المُقاسة والمُحدّدة ، سوف تبوء بالفشل .
لم يرسم خالدٌ الراوي ، بل "القارب" ، مثلما لم يرسم برمان الفتاةَ ، بل ورقة اللبلاب ، وكلّ منهما اختار الطريقة التعبيرية التي تناسب رؤياه في تحقيق خلوده ومواجهة الموت . خالد جعل القارب رمزاً لحياة كلّ إنسان .. لكلّ الحياة التي نُخدع في أنها عصيّة على الفناء في حين أن الموت يتلبسها . فنهاية الإنسان كما يقول – هيدجر – مُتضمّنة دائماً فيه . لا بمعنى أنّها تحدث مرّة واحدة في آخر العمر وتضع حدّاً لمغامرة الحياة ، بل بمعنى أن الإنسان هو كائنٌ من أجل النهاية ، وأن حالة الموت المستمر التي يعيشها ، هي طريقة الوجود التي يتبنّاها منذ أن يخرج إلى النور :
"... فما أن يأتي الكائن البشري إلى الحياة حتى يكون قد شاخ بما فيه الكفاية كي يموت "
ولهذا فإن قول خالد وهو يناجي القارب :
"لا فائدة من رسمك . سيرحل الأصل وتبقى الصورة"
لم يكن كلام مواساة للذات ، ولا هلوسة أو وسوسة ، بل نظرة أصيلة إلى عمليّة مواجهة الفناء الشخصي عبر الخلق ، الخلق الفنّي الذي هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه الفنّان في حربه الشعواء والطويلة بقدر عمره هذه . كان عليه أن يرسم القارب بطريقة غير مألوفة ، أن يأخذه معه إلى الأبديّة .. أن يغيبا سويّة ، وقد انرسما سويّة على ذاكرة الزمان وفي لوح الخلود . ولهذا كانت النتيجة الطبيعية لهذه الحبكة ، هي أن تكون الخاتمة "غرائبية" ، حيث يموت خالد بنوبة قلبية تداهمه في الليل من دون أن يستطيع الراوي نجدته أو مساعدته ، كما أن خالداً كان يتحاشى مضايقة الآخرين ، فغادر هذه الدنيا دون أن يزعج أحداً (ص 278) .
ولاحظ نضج الشخصيّة العظيم لدى خالد حين يقرّر الموت بهدوء وبلا ضجيج .. لاحظ النفوس الكبيرة التي لا تريد إزعاج الآخرين حتى في موتها ، وهذا لا يتحقق إلّا حين يشعر الإنسان بأن الموت قد أصبح "مشكلة" في حياته كما يقول د. عبد الرحمن بدوي :
(إن شخصية الإنسان تنضج عندما يشعر أن الموت قد أصبح مشكلة . فالموت يكون مشكلة حينما يشعر الإنسان شعورا قوياً واضحاً بهذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة ، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ، ومن حيث إشكاليته هذه ، ويحاول أن ينفذ إلى سرّه العميق . إن الإحساس بأن الموت مشكلة يتطلب الشعور بالشخصية أولا . فكلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح ، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت كمشكلة . فالموت ليس مشكلة بالنسبة إلى ضعيفي الشخصية . والنتيجة أن اللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى أي إنسان ، هي اللحظة التي تؤذِن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية ، وبالتالي على أن يكون الموت عنده مشكلة .. وبالتالي فإنه قد بدأ يتحضّر ... ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة ، وما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات . وقد فصّل ذلك "اشبنجلر" ، ولهذا كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت . وهذا الإضعاف للشخصيّة أظهر ما يكون في حالتين : حالة لإفناء الشخصية في روح كلّية ، وحالة لإفناء الشخصية في الناس) (31) .
أمّا برمان – وهو الذي يجب أن نقارن به خالد وليست الفتاة كما قلتُ – فقد آثر أن "يرسم" طريق خلوده عن طريق إنقاذ حياة الفتاة من خلال منح الورقة الأخيرة "حياة" مُضافة مديدة ، تكون سبباً في إحياء فتاةٍ توشك مخالب الموت الباشطة على نهشها . لم يأخذ ورقة اللبلاب الحقيقية معه ، بالعكس لم تكن تهمّه ، كان ما يهمّه هو أن "يخلق" ورقة لبلاب بأنامله المُعطّلة ، وينفخ فيها من روحه المُبدعة التي احتبست فيها نسمات الإلهام طويلا ، ثم تفجّرت في تلك الليلة الليلاء ، أنقذ الفتاة من مرض خطير كان يحصد الناس بالعشرات ، ليموت جسده بالمرض الفتّاك نفسه ، وتحيا روحه في ورقة الخلود على طابوق الجدار . كانت هذه الورقة كما ختم "أو هنري" قصّته :
(هي اللوحة التي لم تبدأ بعد .. وعندما بدأها الفنان العجوز انتهت حياته . فكانت لوحته الوحيدة . كانت اللوحة التي لم يرسمها أحد بعد . وكانت هذه نهاية حكاية "الورقة الأخيرة" ..) .
لقد رسمها كما قالت الصديقة ليلة سقطت الورقة الأخيرة ، أي الليلة التي تعني موت الفتاة التي ربطت بقاءها بورقة اللبلاب الأخيرة هذه ، الليلة التي حكم فيها الفناء على الطبيعة ، فقرّر أن يمنحها البقاء ، أي أن الفنّان عموماً يشتغل عكس الآلهة في الحقيقة ، فالآلهة تقرّر عادة "فناء" الطبيعة وتهدّدنا به ، والفنّان يكتب لها الخلود ! ولم يركّز القاص الفذّ "أو هنري" على الفتاة وردود أفعالها في القصّة ، عاملها كفتاة ضعيفة مفسودة الإرادة ، لا قيمة لها ، ولا لحياتها ، كانت "وسيطاً" لعرض إعجاز الرسّام وألوهيته ، ومن ورائه القاص ، وفي الرسام الكثير منه ، لأن "أو هنري" كان أيضاً رسّاماً ، ومدمناً دمّرت كبده الخمرة . أقول لم يؤكّد أو هنري على الفتاة في حين انشغل القاسمي في الواقع بالراوي من خلال نهاية ثانية وضعها لحكايته بعد النهاية الأولى الرائعة التي كان يمكن الاكتفاء بها ، وذلك عندما نهض الراوي ذات صباح ، ووجد خالد في غرفته ساكناً ، وجسده باردًا بصورة مُريعة ، وحين تأكّد من أنّه قد فارق الحياة ليلاً إثر نوبة قلبية ، هُرع إلى الشرفة بصورة تلقائية كما يقول ، وألقى نظرة على الخليج ، فلم يرَ القارب هناك :
"لقد رحل القارب . أذهلني اختفاء القارب ، وأدخل شيئاً من التوجّس في قلبي" (ص 278) .
ولاحظْ أنّ الراوي هو الموسوس ، هو الذي يحقّ لنا وصفه بأنّه (يحسّ باقتراب الموت ، ما يجعله فريسة سهلة للوساوس ، فيعلّق حياته على وجود القارب في الخليج)
تلك العبارة التي وصف بها صديقه الرسّام حين شاهده يناجي القارب . هو الموسوس "تأريخياً" ليس من خلال جملة الاستهلال المُعبّرة :
"قاربٌ صغير توقّفت عليه حياتي وتعلّق به وجودي"
بل من خلال الفعل الأوّل الذي ورد على ذهنه ، وفي أي ظرفٍ طارئ يكون ردّ فعلنا الأوّل محكوم بما اختزنّاه طويلاً تجاه الخطر الرمزي الذي انشغلنا به كثيراً . وقد ترك الراوي صديقه المُتوفى وهُرع إلى الشرفة ليتأكّد من وجود القارب . هو المحاصر بنيران قلق الموت ، وهو العاجز عن التصالح مع حقيقة فنائه ، وهو الذي يعتقد بأنّه لا يمثّل أكثر من "قارب" وحيد معزول مستوحش مفزوع من مجرد التفكير في أزْف وقت الرحيل . ولهذا – ولكي يداري الراوي أو القاص أوجاع قلقه – وضع القاسمي نهاية ثانية للقصّة :
"وفي المساء ، عندما عدتُ من مراسم الدفن في المقبرة ، كان قاربٌ هناك في مكانه المعتاد" (ص 278) .
إنّها لبّ وجهة نظر الراوي الذي يعتقد أنّ الفناء قد لحق بصديقه الرسّام فقط ، ولم يلحق به ، وأنّ هناك دورة "قارب" رحيل جديدة تنتظره ؛ "قارب" رفع عنه "أل" التعريف ليوحي بأنّ القارب المُعرّف رحل مع الرسّام ، وها هو قارب جديد مجهول سيُعرّف من خلال تعلّق إنسان جديد به .
ألهذا اقتبس الراوي من قصّة "أو هنري" تعلّق الفتاة بورقة اللبلاب ، وقارنه بتعلّق خالد بالقارب ، ولم يقارنه بالرسام برمان كما تفترض سياقات الأمور المنطقيّة ؟ ألهذا "أنكر" الراوي جهد صديقه خالد ، ومنح ذاته دوراً موازياً لدور الرسّام برمان ، وفيه يحاول منح صديقه الحياة مثلما منح برمان الحياة للفتاة ؟! .
يقول الراوي :
(وفكرتُ أنا الآخر في وسيلة تضمن بقاء القارب في الخليج ليتبرعم الأمل في نفس صديقي خالد ، فدوام النبض في القلب رهين بدوام نبض الأمل في النفس . لم أعرف ما أفعل لأضمن بقاء القارب راسياً في الخليج . فالقارب هناك ولا أعرف له صاحباً ، كما أنّي لا أجيد الرقم على الماء) (ص 277) .
تشترك الفتاة في قصّة "أو هنري " والراوي في قصّة علي القاسمي مع معظم الناس في أنّهم :
(يتجاهلون قضيّة الموت . ولكن هذا لا يعني أنّها ليست مهمّة ، وأنّها ليست قائمة . بل إنّهم يتهرّبون من مواجهتها ، ولا يفطنون إليها إلّا في غمرة الهمّ ، الذي هو تربة خصبة لمثل هذه الخواطر الكالحة . إنّهم يعرّفونها بأنّها حادث يقع كلّ يوم . فلان وفلان من ذويهم قضى نحبه ، مجهولون يتوارون كلّ ساعة ، ونحن ذاتنا سنلاقي حتفنا يوماً ما . ولكن بانتظار ذلك فإنّنا سنبقى سالمين . إنّ الموت لم يحصل بعد وهو ليس بالتالي تهديداً يُخشى منه . الجميع يموتون ، ولكن هذا الجميع ليس أحداً بالذات . إنّنا نضيع فيه ونحتمي داخله من خطر المنيّة التي تحيق بنا شخصياً ، والتي نزوغ من تحمّل مسؤوليتها وحدنا . إن هذا التنصّل من تبعة الموت يهيمن هيمنة تامة في مجال الابتذال اليومي حتى أن الأقارب يحاولون إقناع المُحتضر بأنه لن يموت . إنّ شاغل "الهمّ" الأوّل هو أن يقدّم لنا المسكّنات ضد الموت ، وهذه المسكّنات لا تُسعف فقط المُحتضر بل أيضاً الذين يعزّونه ويشدّون من أزره . الناس يشيعون أنّ التفكير بالموت جبنٌ وشكٌ في الحياة ، إنّه يأس من الواقع وهرب خارج الكون غير جدير بإنسان واثق بنفسه . لكنّهم ينسون أنه بالعكس يلزمنا شجاعة كبيرة كي نعيش قلق الموت وندرك أنّنا نفنى كلّ لحظة ، وأنّ العمر منذ بدايته الأولى رحلة نحو نهايته المحتومة . إنّهم لا يفكّرون بموتهم الخاص . الآخرون يتجندلون من حولهم وهم يعلمون ذلك . لكن هذا نفسه يمنحهم نوعاً من الطمأنينة والأمان إذ يؤكّد لهم أن غيرهم قد هلك بينما لا يزالون هم على قيد الحياة . إنّهم منغمسون في واقع الابتذال اليومي ، مشغولون بهمومهم المُلحّة . التفكير في الزوال يعني بالنسبة لهم التعب واللافعل . إنّه عقبة يجب اقتلاعها من الطريق ، ومشكلة يعلّمهم الرأي العام ضرورة تأجيلها إلى ما بعد . لكن الموت يمكن أن يحدث في أيّة لحظة . إنّنا نموت في حياتنا وهكذا دون انقطاع إلى أن تحدث الوفاة الفعليّة . إنّ التهرّب من هذه الحقيقة هو وجود زائف . بينما الوجود الأصيل هو أن تكون أنتَ ذاتك رافضاً كلّ الأوهام والأضاليل والتمويهات المفروضة عليك من خارج ، قلقاً على مصيرك ، حرّاً في مواجهة الموت الذي هو استحالة كلّ نوع من أنواع الوجود ، والذي يعزل الكائن البشري ويسجنه في حالة من الوحدة المُطلقة) (32) .
القصة التي تمّ تحليلها :
القارب
______
د. علي القاسمي
قاربٌ صغيرٌ توقَّفتْ عليه حياتي وتعلَّق به وجودي.
لم يكُن يختلف عن بقيَّة القوارب في شيءٍ مميّز. مجرَّد قارَب صغير في حجمه، أزرق في لونه. قارَب تجديف، بلا مجدافيْن، يرسو في خليج الشاطئ الرمليّ، ويحميه سيفٌ صخريٌّ من أمواج البحر الهائِجة حينًا الهادئة حينًا آخر. ومع ذلك، فهو يتمايل تمايلاً متواصلاً بفعل الأمواج التي تنساب تحته وحوله، ولكنَّه لا يغادر مكانه بفضل المرساة الثقيلة التي تشدُّه إلى تلك البقعة. وقد يصغر ويكبر في النظر بفعل المدّ والجزر. ففي المدّ تغمر المياهُ معظمَه حتّى لا يبدو منه إلا حافته، وفي الجزر تنحسر عنه المياه حتّى يظهر هيكله كاملاً تقريبًا.
لا أذكر متى رأيتُ ذلك القارَب أوَّل مرَّة هناك. فمنذ أن سكنتُ في هذه الدارة المطلَّة على هذا الشاطئ المنعزل، وهو في تلك البقعة من الخليج وحيدًا. لفتَ نظري أوَّلَ مرَّة، عندما كنت أشاهد غروب الشمس في لحظاته الأخيرة، وقرصها يغرق رويدًا رويدًا في أعماق البحر، عند خطِّ الأفق البعيد، ثمّ يتلاشى تمامًا، ما عدا بعض البقع الحمراء المتناثرة التي تلطّخ صفحة السماء الصافية الزرقة. وكان ذلك القارَب يقع بيني وبين الشمس المودِّعة، وتنعكس عليه تحوّلاتُ الضوء، فيبدو جانبه المواجه لي أكثر قتامةً، ويبرز شيءٌ من اللون الأبيض الذي طُلي به باطنه، فيتناغم مع بياض الأمواج عند اصطدامها بالسيف الصخريّ، أو عند معانقتها الشاطئ لترتمي في أحضانه.
ظننتُه أوَّلَ الأمر قارَبَ صيد، بَيدَ أنّ ذلك الشاطئ يخلو من الصيّادين، ولم أَرَ إنسانًا يقترب منه، كما أنّه لم يبرح مكانه، على ما أذكر. وقلتُ في نفسي لعلَّه قارَبٌ للنزهة أرساه أحدهم هناك ليتنزَّه به في أيام العطل. غير أنّني، على كثرة جلوسي في شرفة الدارة المطلّة على البحر، لم أشاهد شخصًا ركب ذلك القارَب أو اقترب منه.
وبمرور الوقت، اعتدتُ على رؤية القارَب، كما اعتدتُ على رؤية صخور الشاطئ ورماله، فلم يعُد يُشكّل عائقاً لامتداد بصري، أو كما اعتدتُ على سماع هدير الأمواج، فلم تعُد تأسر سمعي. وراحت زرقة القارب تتماهى في زرقة البحر وتتبدّل معها انغلاقًا وانفتاحًا، حتّى أمسى مثل موجة من موجات البحر وصارت خطوطه مجرَّد قطراتٍ متناهيةٍ في الصغر، شديدة الالتصاق ببعضها، مثل قطرات ماء البحر.
وشيئًا فشيئًا لم أعُد أَلحظ وجود القارَب، ولم أَعُد أعيره اهتمامًا، كأن لم يكُن موجودًا بالمرّة. ولكن حدث أمر ذات يوم أعاد اهتمامي بالقارب، واكتسب وجودُه معنًى خاصًّا بالنسبة إليّ، بحيث إنّني كنتُ أُسرعُ حال استيقاظي في الصباح إلى شرفة الدارة لأتأكَّد من وجوده في مكانه. وقبل آن آوي إلى فراشي في منتصف اللَّيل كنتُ أعود إلى الشرفة لأُلقي نظرةً أخيرةً عليه. وفي أثناء النهار، كنتُ أطيل النظر إليه،وأتوهَّم أحيانًا أنّه يتجاوب مع أفكاري أو يستجيب لنظراتي، وكأنَّ حركاته، الأفقيَّة طورًا العموديَّة طورًا آخر، إشاراتٌ رمزيّةٌ ذات دلالاتٍ مفهومة.
وأُلقي في روعي أنّ ثمّة صلات روحيّة بيني وبين القارَب، على الرغم من أنّ عقلي لا يجد منطقًا مقبولاً في تلك الأوهام. فكيف يمكن أن تنشأ علاقةٌ روحيّةٌ بين إنسانٍ وجماد؟ إنَّه مجرَّد مجموعةٍ من الألواح الخشبيَّة الجامدة التي انقطعتْ صلتها بالأشجار منذ أمدٍ بعيد، والتي تشدُّها ببعضها مساميرٌ فولاذيَّةٌ صلبة. وما تمايلُ القارب إلا حركةٌ عارضةٌ بفعل الأمواج، وليست حركةً ذاتيَّةً بفعل إرادةٍ عاقلة. وبالرغم من تفكيري المنطقيِّ ذاك، فإنَّ إحساسًا غريبًا سيطر على نفسي مفاده أنّ وجودي متوقِّفٌ على وجودِ ذلك القارب في تلك البقعة.
لا أعرف كيف تنشأُ الأحاسيس، ولا أعرف مدى صدقها أو كذبها، ولكنَّ ذلك الإحساس الذي أصابني كائنٌ فعلاً، تترجمه كلماتي التي أنطقها بصوتٍ مسموعٍ في وحدتي، فكثيرًا ما كنتُ أقول: إنّ وجودي متوقِّفٌ على ذلك القارَب. ثُمَّ فكّرتُ: ولكن وجوده، هو الآخر، يتوقَّف عليّ، فلو لم أشاهده أنا في هذا الشاطئ المنعزل الخالي من البشر لما كان موجودًا، وكأني بذلك أردِّد تلك القضية المنطقيَّة السخيفة التي يدرسها طلاب الفلسفة عن تلك الشجرة التي سقطت في الغابة دون أن يوجد أحد بالقرب منها، فهل أحدثت دويًّا أم لا؟
لقد لفتَ انتباهي إلى القارب، أوَّل مرَّةٍ، صديقي الرسّام خالد أو بالأَحرى سلوكُه الغريب. لقد اقترح خالد قبل سنتيْن أن يشاركني السكن في هذه الدارة، نزولاً عند نصيحة طبيبه الذي شرح له أنَّ هواء البحر النقي سيقلّل من أزمات الربو الذي كان يعانيه، وبأنَّ الفضاء الواسع سيتيح له التمشِّي واستنشاق الهواء ما يخفّف من مرض انسداد الشرايين في قلبه. وتلقيتُ اقتراحه بالقبول، إذ فكّرت أنَّ سكنه معي في الدارة سيخفِّف من حدَّة وحدتي، إضافة إلى ما يربط بيننا من أواصر المودَّة منذ سنواتٍ طويلة.
كان خالد قليل الكلام، يمضي معظم وقته في شرفة الدارة، وهو يطيل التأمُّل، أو النظر إلى البحر، أو يطالع في كتابٍ، أو يحرِّك فرشاته بضرباتٍ متأنيةٍصغيرةٍ على قطعة قماش مثبّتة على حامل الرسم. وكانت تغلب على رسومه مناظرُ البحر والشاطئ والأمواج والغيوم، ومعظم ألوانها داكنة وتخلو مناظره من الشمس. قال لي ذات يوم:
ـ سأرسم ذلك القارَب قبل أن يرحل.
قلتُ له:
ـ إنّه دائمًا هناك، وأنا أتطلَّع إلى رؤية رسمك له.
وراحت الأيام والأسابيع والشهور تنفلت دون أن يرسم خالد ذلك القارَب.
كان خالد كثيرًا ما يجلس في الشرفة، ويطيل التأمُّل أكثر مما يرسم أو يقرأ. ظننتُه أوَّل الأمر يتأمَّل البحر، أو يسرّح نظره في أمواجه، أو يتطلّع إلى غروب الشمس، أو يتابع حركة الغيوم في السماء. ولكن بدا لي فيما بعد كما لو كان يحدِّق في القارَب، كأنَّ عينيْه شُدّتا إليه بأسلاك غير مرئيّة، أو كما لو كان يفكِّر في أمرٍ يقلقه ويملأ نفسه بالخوف. وقلتُ في نفسي لعلّه يتوجَّس الموت بسبب عمره المتقدّم وحالته الصحية الصعبة. وسخرتُ من تخوفاته في نفسي، لأنّني أعتقد تمامًا بالقضاء والقدر. فالموت لا يرتبط بحالة الإنسان الصحيّة، فكم من شاب وافته المنيّة وهو في كامل قواه الجسديّة، وكم من مريض عاش حتى بعد وفاة طبيبه وعوَّده!
لم يحدّثني خالد عن القارب كثيرًا، ما عدا إشارته إلى نيَّته في رسمه، لذا لم أسأله عن سبب تحديقه فيه، فقد أكون واهمًا. إضافة إلى أنّه كان قليل الكلام كثير التفكير، وكنتُ أخشى أن أقطع عليه سلسلة أفكاره.
وذات يوم انتهى خالد من رسم منظرٍ تبدو فيه صخور الخليج الذي يرسو فيه القارب ساعة اصطدام الأمواج بها، فتتطاير قطراتها وتتحوَّل إلى ستارة هرميّة من حبيبات بيضاء، ولكنّ القارَب لم يظهر في تلك اللوحة. وعندما فرغ من وضع اللمسات الأخيرة على تلك اللوحة، علّقها على الجدار وجرَّني برفق إلى الخلف قليلاً، وهو يتأمل اللوحة ويقول لي:
ـ ما رأيك فيها؟
قلتُ بنبرةٍ حاولتُ أن تبدو مخلصة وطبيعيّة:
ـ رائعةٌ حقًّا، ولكن يعوزها القارَب.
فصمتَ ولم يعلّق بشيء فلم أتابع الحديث في الموضوع.
وذات يوم أتمّ خالد لوحةً تبدو فيها غيوم سوداء كثيفة متتابعة تتحرّك بسرعة نحو الخليج، كما لو كانت طائراتٍ حربيّةً مخيفةً تنقضُّ واحدةً تلو الأخرى على السيف الصخريّ القريب من الشاطئ، تمامًا على البقعة التي يرسو فيها ذلك القارب. وصُمِّم المنظور بحيث يبدو كأن الناظر إلى اللوحة يقبع تحت ذلك الهجوم القادم من السماء. ولكن القارَب نفسه لم يظهر في تلك اللوحة. وضعَ خالد اللوحة على الطاولة متكئة على الجدار، وقال:
ـ هل تبدو حركة المنظور واضحة؟
ـ حركة الغيوم والأمواج واضحةٌ تمامًا، كما لو كان الناظر في عين العاصفة. ولكنك نسيتَ القارَب.
تردَّد قليلاً قبل أن يقول:
ـ سأرسمه ذات يوم.
كان خالد يشعر، بين آونةٍ وأخرى، ببوادر أزمةٍ قلبيّةٍ: أَلَمٌ في الصدر سرعان ما ينتشر إلى الفك والكتف اليسرى، ارتفاعٌ في خفقان القلب، صعوبةٌ في التنفّس؛ فيسرع إلى تناول قرص من دوائه، والاستلقاء على ظهره في الأريكة الموجودة في الشرفة، وأُسرعُ أنا إلى الاتصال هاتفيًّا بطبيبه ليوافينا، ثمُّ آخذ بتدليك صدره بلطف.
مررتُ ذات يوم بالقرب منه، وهو مستلقٍ على الأريكة في الشرفة ، وكان يحدّق في البحر ولم يحسّ بوجودي بالقرب منه، فسمعته يقول كمن يخاطب أحدًا أو يناجي نفسه:
ـ"سأرحل يوم ترحل، أو ترحل يوم أرحل! ".
ظننتُ، بادئ الأمر، أنّه يخاطبني، ولكنَّه حينما أردف قائلاً:
ـ "ولا فائدة من رسمك. سيرحل الأصل وتبقى الصورة"،
فتبيَّن لي أنّه كان يخاطب القارب.
انسحبت بهدوء دون أن يشعر بوجودي، وقلتُ في نفسي: لا بدّ أنَّه يحسُّ باقتراب الموت، ما يجعله فريسةً سهلةً للوساوس، فيعلّق حياته على وجود القارب في الخليج. وذكّرني هذا الأمر بقصة الكاتب الأمريكي "أوهنري "عن تلك الفتاة الفقيرة التي غدر بها حبيبها، فمرضتْ حتّى كادت تُشرف على الموت. ولم تكُن تملك حتّى ثمن الدواء فتبرَّع جارُها الرسّام العجوز بشراء الدواء لها. وكانت وهي في سريرها تراقب رياح الخريف تعبث بوريقات غصن شجرةٍ في الشارع يستند إلى شباك غرفتها، فتُسقِطها وريقة وريقة، حتّى لم تبقَ في الغصن سوى وريقةٍ واحدةٍ ترتاح على زجاج شباكها، فكانت الفتاة تردّد وهي في هلوسة الحمّى أنّ أيام حياتها تتساقط كما تتساقط تلك الوريقات من الغصن، وأنّها ستفارق الحياة عندما تسقط الوريقة الأخيرة. ولكنّها، في الصباح، فتحت عينيْها فرأت الشمس مشرقةً تتسربإليها دافئة من الشباك، والوريقة باقية في موضعها وقد ازدادت اخضرارًا ورونقًا، وتفتّحت إلى جانبها براعم صغيرة، فعاودها الأمل في الحياة. ولم تعلم أنّ جارها الرسام العجوز قد أمضى شطرًا من الليل تحت المطر والريح وهو يرسم الوريقة والبراعم على زجاج شباكها، وأنّهسقط في الفجر ميِّتًا متأثِّرًا بالبرد.
وفكرتُ أنا الآخر في وسيلة تضمن بقاء القارَب في الخليج ليتبرعم الأمل في نفس صديقي خالد، فدوام النبض في القلب رهين بنبض الأمل في النفس. لم أعرف ما أفعل لأضمن بقاء القارَب راسيًا في الخليج. فالقارَب هناك ولا أعرف له صاحبًا، كما أنّي لا أجيد الرقم على الماء.
مرّت شهورٌ على هذا الوضع. وذات صباح تأخّر خالد في النهوض من فراشه، فقد أكملتُ إعداد الفطور ولم يلتحق بي كعادته. فوضعتُ الصينية على الطاولة في الشرفة وذهبت إلى غرفته. كان في فراشه ساكنًا. لم أسمع تنفسه. اقتربت منه، وضعتُ يدي على معصمه. كان باردًا بصورة مريعة. لا بُدّ أنّه فارق الحياة على إثر أزمة قلبيّة داهمتْه في الليل، دون أن أتمكّن من نجدته أو حتّى مساندته في اللحظات الأخيرة. كان يتحاشى مضايقة الآخرين، وقد غادر هذه الدنيا دون أن يزعج أحدًا.
ووجدتُني انتزع نفسي من براثن الحزن والدهشة، لأُسرع بصورةٍ تلقائيّةٍ إلى الشرفة وأُلقي نظرة على الخليج، فلم أرَ القارب هناك. لقد رحل القارب. أذهلني اختفاء القارب، وأدخل شيئًا من التوجُّس في قلبي.
وفي المساء عندما عدتُ من مراسيم الدفن في المقبرة، كان قارَبٌ هناك في مكانه المعتاد.
وسوم: العدد 722