الاشتباك مع العالم في حذر
منابع الشعر مختلفة. هناك شعر يتكئ على الأسطورة، وهناك شعر يستحضر التاريخ. هناك شعر آخر يستند إلى المعرفة ويريد أن يشعل الوجود بالأسئلة، وهناك شعر يبني نفسه لوحده ويصنعُ حياته لوحده، ثم بعد ذلك إذا شاء يلمّ إليه كل ما سبق.
تلقائيّ، يتوسل لغة أقربَ إلى حديث مع النفس، مع الحياة. أقرب إلى ربورتاج عن حياة سارية ليس بالضرورة للشاعر صاحِبها، ولكن لتلك الكائنات المحيطة به، أو على الأقل التي تشغل أحلامه وتؤثث مخيلته وتثير قلقه. وإلا بماذا يكسر الشاعر وحدته؟.
يحتاج هذا النوع من الشعر إلى رافدين اثنين "ذلك الإحساس الصغير" و"ذلك التأمل في الأفق البعيد". هذان الرافدان هما ما يمنحانه تلك التلقائية التي تتستر عن عمق بعيد. ذلك أن الأفق البعيد ليس بالضرورة رأي العين، فهو مهما ابتعدَ يظل قريبا، بل هو ذلك السفرُ في أعماق النفس ومحاولة التقاط الإشارات التي تنبئ عن الارتجاجات التي تعتمل فيها، لسبب أو لآخر، وهي تغزل علاقتها بالأشياء الخارجية.
على هذا الخط تسير الشاعرة ليلى بارع في مجموعتها الثانية " أرضالفراشات السوداء " التي تأتي بعد خمسة عشرة سنة من صدور مجموعتها الأولى "كل هذا الكلام".
إنها تصنع المعنى من التقاط ما يبدو معتادا، تكتب الشعر كما لو أنها تتحدثُ، للتعبير عن آمال محتملة، للبحث عن أجوبة للأسئلة المعلقة المتدلية من سقف الحياة، أو لتستدعي ما أشرتُ سابقا إلى أنه يأتي لوحده بعد أن يتشكل الشعر ويستوي. تأتي تلك الرؤيا التي قصها السجينان في سورة يوسف مثلا، لتضع اليقين في مواجهة تراكم الشك أو اللايقين.
وإذا تأملنا القصائد، أو أغلبها على الأقل، فسنصطدم بشكل متواصل بحجم الشك المنتشر فيها في مقابل اليقين الذي لا يتقدم إلا ليتراجع. كل ذلك عبر دفع التفاعل بين عناصر الطبيعة إلى أقصاه، والاستعانة أحيانا بحالات من التضاد، كما لو أن الشاعرة مسكونة بفكرة أن "كل شيء يحمل في ثناياه ضده"، أو أن أي حالة من الحالات الوجودية تقتضي بالضرورة حالتها المضادة حتى يصبح لهذا الوجود كله معنى. إنها الجدليات الأزلية في قالب شعري:
الريح هادئة جدا
الأرواق غير مطمئنة...
تقول التعويذة "حين تسكن الريح يأتي موسم الخراب"،
حالة الانتظار هذه الموضوعة بين مزدوجتين، ليست على نفس الخط مع هدوء الريح التي كانت تهب قبل قليل فقط، في مقطع سابق: " تهب الآن تلك الريح الباردة". إن هذا التأرجح هو غاية القلق الذي يطبع نفسية الشاعر عموما. كل شيء مؤقت ومنذور للتبدل والتحول إلى نقيضه. إن هدا القلق هو النبع الأصيل للشعر، لذلك لا عجب أن تحفل هذه المجموعة بالكثير منه مادام أن الشاعرة تشكل قاموسها من عناصر الطبيعة بما فيها من تقلب وعدم استقرار وربما عدم إنصاف بما يحقق قول المتنبي "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، يتضح ذلك جليا على سبيل المثال في قول الشاعرة:
" وبودي لو أقول لخط النمل
كم العالم كبير
وكم من حقول قمح
ممتدة خلف هذا المكان
وأنت في خطك المستقيم
تقاتل من أجل حبات قمح
لا تساوي الشيء الكثير"،
إنه التطلع الذي يوازيه ذلك "التأمل في الأفق البعيد" لكنه يجد نفسه، بالرغم منه، في مواجهة نوع من القدرية التي تشده إلى الاستسلام للسائد والمألوف والوفاء للخط المستقيم. فعلى عكس ما ألفناه مثلا بشأن مثابرة النمل وعمله المضنى في جمع مؤونته تكسر الشاعرة هذه الرتابة وهذه "العبودية" بتلك الفكرة التي تلح على أن هناك إمكانية للذهاب أبعد من هذا الانقياد: " كم العالم كبير. وكم من حقول قمح. ممتدة خلف هذا المكان".
إن هذا العالم الكبير الذي يؤثثه القلق، والذي يستمدّ أصلا "مشروعية" وجوده منه، تَسَعُه القصيدةُ وتستوعبهُ، أو هي التجسيد الفعلي له، خاصة عندما تتحول هي الأخرى إلى منطقة التأرجح والتردد بين حالة الكتابة والاستعصاء فلا تنكتب ولا تنمحي بل تظل معلقة في حلق البياض.
إذا كانت المجموعة الأولى للشاعرة ليلى بارع مليئة ب"الخيانات"، فإن هذه المجموعة الجديدة تحاول الاشتباك مع العالم في حذر ومناوشته باللجوء إلى عناصر الطبيعة حيث تحضر "الريح" كعنصر محرك وفاعل في كل ما يحدث. الريح في حالة الهبوب وفي حالة الهدوء، وما يعنيه ذلك من تقلب وعدم استقرار، وما يعنيه ذلك أيضا من تمثلٍ لمزاج الكائن البشري في علاقته بالمحيط وما يعتمل فيه.
أخيرا، ربما لا يمكن فصلُ هذه الحالة من القلق، وأيضا هذا النوع من الشعر الذي يبني نفسه لوحده ويصنعُ حياته لوحده عن اليومي ومفارقاته وانشغالاته. إن العمل في الصحافة، بكل متاعبه، وأيضا بإكراهاته "اللغوية" يلقي بكل تأكيد بظلاله على العمل الإبداعي، وهذا صراع أسهب في الكلام عنه كثير من الأدباء الذين مارسوا الصحافة. إن من شأن استحضار هذا المعطى أن يفسر استنجاد الشاعرة بالهروب إلى الطبيعة والبحث فيها عن نوع من السكينة، وأن يفسر أيضا اللغة التي تحاول الوصول إلى القارئ في يسر وفي وضوح. كما يفسر أيضا ذلك النفس النثري، الممعن أحيانا في النثرية، الذي كتبت به أغلب قصائد المجموعة، وهذه قضية أخرى، وإشكالية تعيد إلى الواجهة سؤال الحدود بين الأجناس الأدبية وما بينها من تداخل أو تباعد.
وسوم: العدد 724