قراءَة في رِواية "عَذارى في وَجه العاصفَة"
رِواية عَذارى في وجه العاصِفة للأديب المقدسي جميل السلحوت، صدرت الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة للفنّان الأديب محمود شاهين، وتقع في 234 صفحة من الحجم المتوسّط، عن مكتبة كل شيء الحيفاوية بداية هذا العام 2017.
الرواية بمضمونها العام: إنّها رواية ترسم وعي الكاتب و انشغاله بهموم الوطن و إدراكه لفصول معاناة شعبه الفلسطينيK التي طالما تميزت بها كتاباته المتنوعة والمتجدّدة، حيث تضمنت الرواية مشاهد وصورا من النكبة الفلسطينية عام 1948، واللحظات الأولى من التشرّد والتهجير القسري الذي تعرض له الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك يتضح اهتمامه بقضايا المرأة ودورها الفاعل والمؤثر والعمل على إبراز مكانتها، وتأكيد هويتها وشخصيتها ولفت الانتباه إلى ما تعانيه من عادات وتقاليد وقيم مجتمعية، إضافة إلى ما تقاسمته مع الرجل من معاناة التشريد والاحتلال، حيث عملت على مشاركته رحلة الصبر والكفاح، تؤازره بالصبر وتسانده بالتحمل والكفاح والصُمود، لتكون بِحضورها ووجودها بجانبه متنفسا للأمل بالتحرير والعودة للوطن.
كما أن الكاتب تعرض خلال الرواية لعدة قضايا اجتماعية تعبر عن تراكمات لأهم المشكلات التي واجهت الفلسطينيين خلال حياتهم اليومية، وتعبر عن قسوة الواقع المعيشي الجديد في تلك الحقبة الزمنية كجزء من معاناة اللجوء والتشريد بسبب نكبة 1948.
وهنا أستطيع القول أن الكاتب قدم الرواية ضمن عدة عناصر مترابطة، حيث كانت شخصية المرأة في الأسرة الفلسطينية تمثل الجانب الإنساني، أما الجانب المكاني البيئي فقد توزع في حدود فلسطين وسوريا والأردن ولبنان، لتشكل تصويرا جليّا للجانب الزماني والموقفي من أحداث النكبة وبدايات اللجوء والتشرد والمعاناة، التي واجهت الفلسطينيين بين بدايات عام1948 ونهايات عام 1964 .
هذا و تميزت الرواية ببساطة اللغة وفصاحة الكلمات، التي ربطت بين اللغة المحكية في الأمثال الشعبية، التي أثْرَت الحِوار وصقلته بالحيوية والواقعية، بالإضافة لسلاسة السرد وترابطه مع الحوار ضمن 20 مشهد تميزت بالتكامل والانسجام والتناغم، كذلك تميزت بالتشويق خلال الانتقالات والتسلسل في سرد الوقائع والتشخيص الواقعي"الأدوار الدرامية" على مسرح الأحداث مكانيا، وزمانيا، وللشخصيات، مما يسوق القارئ بين سطور الرواية ومشاهدها بوضوح وترابط دون تشتت؛ لينتقل من صفحة إلى أخرى دون ملل.
فقد غلب على الرواية المزج بين الحوار والسرد، فكان الحوار الداخلي والحديث مع الذات والحوار بين شخصيات الرواية، أمّا السرد فقد كان تشخيصا لتفاعل الإنسان مع أحداث النكبة ومجريات التشرد والمعاناة، كما تضمن السرد رصدا للمستجدات والأحداث بتفاصيل ترسم بدايات اللجوء في الدول العربية المجاورة لفلسطين (سوريا، الأردن، لبنان)، وكذلك في مناطق الضفة وما تلاهما من معاناة.
استخدم الكاتب توصيفا للمكان كلما استوجب الأمر لاسيما عند الانتقال بين مشهد أو موقف لآخر جديد؛ ليثري القارئ بصورة جمالية، ممّا يزيد من ترغيبه بالاستمرار بقراءة ممتعة، وكأنه قريب من الأحداث بالزمان والمكان والإنسان، التي أرى أن الكاتب ربما حاول تقريب نقل صورة المعاناة والنكبة لإبقاء الذاكرة غنية ثرية قريبة بكل وضوح وبساطة للأجيال الحاضرة والقادمة.ص(11-12) "بيت محمدّ معروف في قرية السّلوقيةّ غرفتان مبنيتّان من حجارة سوداء محروقة، مثل بقيةّ بيوت القرية والقرى المجاورة، فصخور تلك المنطقة من بقايا الصّخور،......، فترسم سجاّدة طبيعيةّ لافتة" ص(112)"عند ساعات الضّحى امتطى العمّ كمال حماره، اتّجه بصحبة خالد إلى المخيّم، عند بيت خالد لم يجدا مكانا يربطان الحمار فيه، فالبيوت متراصّة، الطرقات ضيقّة تنساب فيها مياه المجاري".
وليس بالإمكان إغفال استخدام الأمثال الشعبية والكلمات الشائعة المستخدمة في الحوارات الحقيقية، مما عزّز من جمالية الحوار واثراء المَشاهد لمُحاكاة الواقع .
هذا و أرى أن الكاتب عمل لتحقيق ذلك على تقديم صور ومشاهد عن طبيعة المعاناة في التواصل بين الفلسطينيين فذكر المذياع"الراديو" ص(215) سمعت رسالة صوتية من دار الإذاعة الإسرائيليةّ بصوت ابنة خالتها يسرى العبادي، وكذلك البريد من خلال مكاتب الصليب الأحمر، ص(220)"عند مقر الصّليب الأحمر في رام الله سألت ميسون موظّفة عربيةّ: لو سمحتِ، كيف يمكنني أن أرسل رسالة إلى خطيبي في يافا؟ أهلا بك، من هنا، أعطيني الرسّالة."
واستعرض مشاهد عن الصحف كما في قصة علي ابن طارق ورحاب ص(197)"رأى أبو أسعد صورة عليّ في الصّحيفة وقرأ إعلانا جاء فيه، خرج الطّفل عليّ طارق محمدّ محمود – 11 سنوات- من بيت عمتّه في مخيّم الجلزون قرب رام الله" ،ص(230)"ذهب عليّ إلى مكتب صحيفة الدّفاع في عماّن، استعان بالمحررّ لكتابة إعلان يبحث فيه عن أمّه."
من الملاحظ كذلك ما تضمنته الرواية من شخصيات عابرة وحوارات قصيرة من خلالها، إلا أنه كان لها أثر كبير في الرواية لمساهمتها بومضات مؤثرة بأحداث الرواية بين الحكمة و تأريخ حقائق، استخدمها الكاتب بشكل لافت، حيث قدم للقارئ بسطور بسيطة تصويرا جليا يغذي رؤية واضحة وجلية لطبيعة الموقف والحالة التي تعبر عن مجريات الأحداث التي تعرض لها الفلسطينيون حينئذ، وعلى سبيل المثال ص(7-8): "على بعد أمتار منها سمعت رجلا عجوزا ممدّدا يتكّئ على يده اليمنى، ووجهه إلى الجنوب، يقول: أحكموا السّيطرة على جهات ثلاث من كلّ قرية ومدينة، قتلوا أناسا في كلّ مكان؛ ليبثوّا الرعّب في قلوب الآخرين، تركوا الجهة الشرّقيةّ؛ ليهرب منها الناّس؛ فهم يريدون أرضا خالية، لن يقتربوا من هذه المنطقة، هم يطلقون الرصّاص؛ كي لا يفكّر أحد بالعودة إلى بيته، ومن يعود سيقتلونه حتما"................"العجوز: عن أيّ جيوش تتكلمّين يا بنيتّي؟،ص(11) "من زاو ية الصّندوق الذي يقلهّم قال شيخ لفحته سنوات الشّقاء بسمرتها: أكثر ما أخشاه أن تتكررّ وعود بر يطانيا للملوك العرب، والتي أجهضت ثورة عام 1936، وأنهت أطول إضراب عرفه العالم. فسألته شابّة تجلس بجانبه: ماذا تعني بذلك يا عمّ؟ أعني يا بنيتّي أنهّ لن تنتصر جيوش قادتُها جنرالات أجانب، من الدّول الاستعماريةّ التي تقاسمت المنطقة."
أرى أن الكاتب عمل على اختيار الأسماء لشخصيات الرواية وانتقاءها بصورة تبعث في نفس القارئ دلالات الرسالة الخفية لفكرة الرواية الأدبية؛ لبناء الانطباع العام في ذهن الواقع وعيش القارئ لأهم الحقائق حول عناصر الموقف لواقع الحياة، التي كان عليها الناس في تلك الفترة الزمنية، رغم اختلافات البيئة والدين والطائفة، ليرسم جزءا من الواقع المعاش سياسيا واجتماعيا في تلك الفترة .
كما انه أحسن في تحويل الأسماء للوحة فنية تشتمل على تضاريس المشهد كاملا، حيث أنها حملت دلالات نفسية تؤثر في روح القارئ وقلبه مجرد أن تمر أمامه؛ فيقرأها ليزيد من إثارة التخيل والتصور لديه.
كما أنها ترتبط بطبيعة القضية التي تواجه كل منهم حسب دوره ومساحة هذا الدور في محتوى ومضمون الرسالة الأدبية له في الرواية، وعلى وجه الخصوص المرأة التي تعتبر أهم محاور هذا العمل الأدبي الرئيسة، وكأن الكاتب يقول "لكل منا له نصيب من اسمه" فعلى سبيل المثال "رحاب" التي تشردت وهي حامل، كانت مطلقة ولها طفل لا تعلم عنه أي خبر ولا تعرف ملامحه، تعرضت لزواج ظالم بداية من حرمانها حق الاختيار من والدها، انتقالا لظلم في بيت زوجها، والانتهاء بالطلاق وحرمانها من ولدها عليّ منذ كان رضيعا، كذلك تعرضت لأذى التحرش والكثير من المعاناة؛ لتتجاوز ذلك مع زوجها خالد، ولتصبح لديها أسرة سعيدة تعيش برضا وهناء عيش. كمان أننا نجد مريم التي واجهت قصة حملها من زوجها والتي تسبب لها بإساءة البعض لشرفها، كذلك تسببت بمضايقتها بعد الولادة بتهديد الاحتلال لها لتخون وتتعاون معهم، كذلك بعض الأسماء كانت تعبر عن الأسماء المشهورة في البيئة التي تنتسب لها جغرافيا أو دينياً
كما نجد أن الكاتب تطرق إلى تصميم وعزم الفلسطيني على العودة إلى وطنه رغم محاولته التكيف؛ ليتمكن من التغلب على معاناة الواقع المعاش بداية من عدنان وزوجته لمياء في مخيم الجلزون بالقرب من رام الله في الضفة الغربية، إلى رحاب و زوجها وربيحة زوجة حمدان الذين أصبحوا يملكون بيوتا وأرضا و مزارع في جرمانا في سوريا، وزواج كل من زياد الفالح وابراهيم الفرحان في لبنان، وأبو أسعد شريك علي ابن طارق ورحاب في كراج السعادة، حيث يعيشون في مخيم الوحدات في الأردن.
الرواية بين العنوان والمحتوى: مما يلفت الانتباه أنّ عنوان الرواية نال من محتوى الرواية جزءا كبيرا، حتى أنّه يصلح عنوانا منفردا لكل مشهد من مشاهدها بأحداثه وشخوصه، وكذلك يصلح كعنوان لكل من محاور الرواية بداية من الجوانب الاجتماعية حول المعاناة التي كشفت النقاب عنها كجزء من قضايا المرأة في المجتمع الفلسطيني، في تلك الحقبة الزمنية والتي لازالت تواجهها، أو الجوانب السياسية وما تعرض له الفلسطينيين بسبب النكبة.
هذا ومما يلفت الانتباه كذلك تلك العلاقة في دلالات المعنى الحسية والفنية واللفظية بين العنوان والنص، نجد أن الكاتب أبدع باختيار لفظ كلمة "عذارى"جمع كلمة"عذراء"بدلا من"نساء،امرأة،حواء،..."، ربما كان ذلك تأثرا بما يحمل اللفظ من معاني ودلالات لارتباطها بأمّ المسيح عليه السلام مريم العذراء، وعلاقة ذلك بقضية الشعب الفلسطيني من جهة، وعلاقته بالنسق الثقافي والمجتمعي العام من جهة أخرى، وتتضح البلاغة والإبداع لما تحمله من دلالات فنية وحسية، وإيحاءات دلالية بمعناها ومضمونها إلى ذهن القارئ، حيث تعرض الرواية للمرأة بتنوع شخصيتها، وتشخيص حالتها الاجتماعية والنفسية (خطيبة، زوجة، أرملة، مطلقة،أم،بنت،جدة)، كذلك تطرقت للاختلاف في طريقة تفكيرها بما يصوّر واقع المرأة الفلسطينية من عدة جوانب بشمولية وواقعية، لارتباط الكاتب وتأثره بواقعية الأحداث التي تضمنتها الرواية، وفي ذلك دليل على مدى معرفة ووعي الكاتب التاريخي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وقربه من تفاصيل المعاناة التي لا زال يعيشها بين حواري القدس الشريف، كما يتجلى ذلك الإبداع في اختيار العنوان لدى القارئ مع الانتهاء من قراءة السطر الأخير في الرواية.
كما أن الكاتب قد وُفّق في اختيار لفظ كلمة "العاصفة" وقسوة ما تفعله من تدمير الاستقرار في حياة البشر دون غيرها، لتشبيه الموقف وأحداث النكبة بما تتركه العاصفة من آثار على المكان والإنسان والزمان من تحولات ومستجدات، هي الأقرب لما حصل من وجهة نظره، حيث الفقد والتهجير للإنسان،والتخريب للمكان، فمثلا لم يستخدم لفظ الكلمات(بركان، زلزال، فيضان، ...) رغم سوء وقسوة أضرارها .
المرأة في الرواية:
تمركزت الرواية بجميع مشاهدها المترابطة حول المرأة الفلسطينية ومعاناتها تحت وطأة ثقافة المجتمع، بالإضافة إلى تحملها وصبرها على قسوة الفقد والحرمان والفراق بسبب النكبة والتشرد والتهجير الذي تقاسمته مع أسرتها وشعبها.
حيث نجد الكاتب حاول استعراض اكثر القضايا شيوعا سواء حول دور المرأة تجاه مكونات كل من النسق الثقافي والمجتمع "اللغة واللهجة،القيم و العادات و التقاليد، الدين والعرف و القانون،الأفراد (ذكر، أنثى)،الاسرة ، المؤسسات، الاتجاهات و السلوك والأفكار"
أرى أن الكاتب تمكن من إنتقاء العديد من الصور الايجابية والسلبية سواء لدى الأفراد واختلاف الطبائع البشرية التي تمثل واقع شخصية الإنسان الفلسطيني وتفاعله الاجتماعي مع الآخرين، تحت ظل الظروف المحيطة من حيث ما يصدر عنه أو يتعرض له في البيئة المحيطة من معاناة وقسوة حياة، مقابل نفحات الأمل والمواساة، فعلى سبيل المثال الاستغلال مثلا في مسألة زواج رحاب من طارق وما تعرضت له من تسلط حماتها، لينتهي الأمر بالطلاق وسلب ابنها من أحضانها، وكذلك عبرت عنه قصة طلب الرجل العجوز الزواج من ميسون؛ لتعبر عن مشكلة الاستغلال خلال معاناة الحياة في المخيمات، مقابل ما فعله أبو فاطمة من تسجيل جميع أملاكه لأسرة خالد وأسرة فليحة زوجة حمدان، كذلك قصة عليّ وما تعرّض له من استغلال واستعلاء صاحب الكراج أبو عبد الله مقابل حمايته ومساعدته ومساندته من أبو أسعد، وما يتعلق بقضية التحرش التي تعرضت لها رحاب وما جلبته من معاناة لتزيد شعور خالد و زوجته بالذل، مقابل موقف العم أبو فاطمة والمختار والتي انتهت بالتسامح و إصلاح الأمر.
وتضمّنت الرواية تصويرا واضحَ المعالم لأكثر الصور والحالات شيوعا بإطارها الايجابي والسلبي لهذه المكونات، كما هي في حقيقتها ضمن زمان وبيئة وظروف المشهد العام للرواية، فعن المرأة في وجه المرأة نذكر مثلا: ص(21) "ربتت أمّ محمدّ على ظهرها وقالت: كلّ شيء قسمة ونصيب يا بنيتّي، وعلينا أن نرضى بنصيبنا الذي قسمه الله لنا"، ص(22)"ومنذ ذلك اليوم وحماتي تعاملني كجارية"، ص(26) "اختليت بوالدتي دقائق قليلة، شرحت لها معاناتي، فحذّرتني من مغبةّ معرفة أبي بالموضوع، فإذا سمع بذلك فإنهّ سيضربني كما قالت، ولم أعلم سببا لقولها هذا، كما نرى صورة حول غيرة النساء ص(179) "فكّرت بضرّتها مريم في عكّا، هي تعرف تماما أنه يستحيل على زياد ومريم أن يلتقيا، لكنّها في داخلها لا تريد أن يتسّع قلب زياد لامرأة غيرها، سقطت دموع الغيرة من عينيها."
وعن المرأة في وجه الرجل والمجتمع(الذكوري) نذكر مثلا ص(19) " ردّ أبي: أهلا بكم، ونتشرّف بمصاهرتكم، لا رأي للنسّاء في هكذا أمور! فأنا سيدّ البيت، وأنا من أقررّ"، ص(27) "لكنّ أبي باشر التحّقيق معي عن أسباب الطّلاق، لم يقتنع بأننّي لم أفعل شيئا يغضب طارق أو والديه، أو شقيقته الذين خدمتهم بعيوني.......ماذا عملتِ يا ابنة وداد؟" ، ص(150) " اشترى اسماعيل العارف عشرة دونمات في منطقة "الماصيون" في رام الله بخمسين دينارا، سجلّها باسم ابنيه عامر وعدنان، كما اشترى لابنتيه رحمة وحمدة ستة دونمات مجاورة لأرض شقيقيهما، وسجلّها باسميهما" ، ص(151) "أمّا لمياء فقد قالت : ما المانع في أن يكون لنا بيتان، واحد في الرمّلة وواحد في رام الله، فالبلاد بلادنا؟ دخل تساؤل لمياء عقل عدنان كالقدر المكتوب، التفت إليها وابتسم دون كلام" ، ص(20) "كان يردّد دائما، النسّاء لا يستشرن، ويقول ضاحكا لأشقّائي":شاوروهن، واخلفوا شورهن".
وقد تطرقت الرواية لقضية مجتمعية بين عامة الناس تتكرر في عاداتهم السلوكية اليومية التي لا يلقون لها بالا" ولا يردعهم وازع ديني أو قيمي تتعلق بالفضول والتدخل بشؤون الآخرين من خلال تناقل الأحاديث حسب أهوائهم، وكيفية تفاعل العامة وخاصة النساء خلال أحاديثهم و تواصلهم الاجتماعي، وردة الفعل التي كثيرا ما تتسبب بمشاكل وظلم اجتماعي دون حساب لعواقبه، كما في قصة حمل مريم.
و عن المرأة وحديثها الذاتي الذي يقدم شيئا عن أفكاره وصورتها عن نفسها نذكر على سبيل المثال: ص(23) "كنت أسمع الإهانة بأذنيّ هاتين، وأتجاهل الموضوع طلبا للسّتر"، ص(25) "فكّرت كثيرا بالهروب من هذا البيت الجحيم، لكننّي قررّت التحّمّل حفاظا على جنيني الذي في أحشائي، ص(53) كتمت آمنة لوعتها،....، كظمت غيظها وقبلت بنصيبها".
هذا وكان لمفهوم"النصيب" في الزواج في ثقافة المجتمع العربي والفلسطيني كان له نصيب واضح للتعبير عن التسليم بقدر الله وقسمته، حيث نجده تكرر مع اختلاف وتنوع المشاهد الحوارية ، ص(20) " يبدو أنكّ مولودة ليلة القدر، فنصيبك جاء مع ابن أسرة ثريةّ"، ص(21) "كلّ شيء قسمة ونصيب يا بنيتّي، وعلينا أن نرضى بنصيبنا الذي قسمه الله لنا..."، ص(32) "بعد ماذا يا أبي؟ أحمد الله على نصيبي،...، قلت له: لا عليك يا أبي، فهذا نصيبي"، ص(56) (149) "لكنّ الزوّاج قسمة ونصيب"، ص(93)"هداك الله يا ابنتي، لقد انصرفوا في حال سبيلهم، والزوّاج قسمة ونصيب" .
أمّا عن قرارالموافقة على الزواج وبناءا على ما سبق : فالرّواية لم تغفل التطرق لمشكلات المرأة الفلسطينية في الزواج سواء باختيار الزوج، أو حقوقها المسلوبة بسبب الانقياد للعادات والتقاليد والعرف المجتمعي، واصطدام الكثير منها عند التطبيق بمخالفة الشرع والدين بما أمر الله، حيث نجد ذلك في قضية زواج رحاب من طارق وتأكيد ذلك في الحوار بين أمّ محمد ورحاب ص(17-20) "كثيرون يا بنيتّي من يتصرّفون كوالدك،...، وأنا يا بنيتّي عندما تزوّجت، لم أرَ أبا محمدّ- رحمه الله-، ولم يرني إلا ليلة الدّخلة. وهذا حال الدّنيا".
مما سبق نجد أن الرّواية قدمت لنا علاقة المرأة مع الإنسان والمكان والزمان، وتأثر دورها وتفاعلها بالنسق الثقافي القيمي وضوابط المجتمع التي تحكم أفراده، والعلاقات بينهم سواء داخل الأسرة أو المجتمع، وذلك باستخدام الأمثال الشعبية والألفاظ العامية في تجسيد روح ومعنى وحيوية النص واجتذاب القارئ ولفت انتباهه؛ ليعيش الموقف بأفكاره ومشاعره، ويستجمع ذاته في إطار الصورة وكأنه يشاهد أو يعيش الموقف عن قرب.
عزّزت الرّواية ما أستطيع تسميته البث الحي في نقل الأحداث وتقريب المشاهد لذهن القارئ، باستخدام إيماءات وإيحاءات و سلوكيات إنسانية عفوية خلال وصف وتشخيص تفاعل شخصيات الرواية مع المواقف والأحداث، سواء خلال حوارهم الذاتي الداخلي أو الخارجي مع الآخرين، وأذكر على سبيل المثال: ص(5) "تسير لاهثة من شدّة التعّب، مع ذلك فهي دائمة الالتفات إلى الخلف، وكلمّا التفتت تزداد عيناها سخاء بذرف الدّموع"، ص(6) "تكظم غيظها وحزنها دون أن تتكلم شيئا، تواصل سيرها المتعثر"، ص(7)"عضّت على شفتها السّفلى تستجمع قواها، نهضت وهي تئنّ،.....، وقالت:انتظرني قليلا.......، فبدا وجهه مغطّى كمن يتخفّى بقناع ممزقّ، كتمت ابتسامة قهر لم تجرؤ على الانطلاق من شفتيها"، ص(11) "وأضاف بعد تنهيدة طو يلة: ضاعت البلاد، وتشرّد العباد.ثم ضرب كفّا على كفّ وهو يقول: واولداه! "العين بصيرة واليد قصيرة".
العاصفة والنكبة والفراق بين سطور االرواية:
من الملفت للنظر استخدام الكاتب لعبارة "ما أصعب الفراق" عند الانتهاء من كلّ مشهد وحدث، ولعل هذا التكرار يعود لأحد سببين أو لكليهما، الأول هو ارتباط أحداث الرواية ومعاناة النكبة بحالات الفراق التي حاول الكاتب التعرض لها، أمّا السبب الثاني فهو مشاعر الفراق لدى الكاتب والتي تعرض لها خلال حياته أو تأثر بها، ص(35) "رحاب باكية: يا لوعة القلب، ما أصعب الفراق" ص(76)" قال أحدهم: ما أصعب فراق الوطن!" ص(87)" تذكّرت مريم حملها وبعد ز ياد عنها فقالت:ما أصعب الفراق!" ص(97)" شوقي لأبي ولعليّ كبير جدّا، فما أصعب الفراق!" ص(120) "فليحة: يا سواد ليلنا، ما أصعب الفراق!" ص(180) "غفا وهو يردّد في داخله: ما أصعب الفراق!" ص(189) "فاطمة: الله يرحمك يا أمّي . ما أصعب الفراق"!
العذارى بين عاصفة النكبة وعاصفة الربيع العربي
عند النظر الى رواية من خلال توقيت صدورها والفترة التي كتبت فيها تقدم ما أنجبته حالة الأمة العربية في مواجهة الاحتلال، وما سبقها من تقسيم البلاد حتى كانت نكبة 1948 ، ص(8) "لن يصمدوا أمام الجيوش العربيةّ، وسيهرب من ينجو منهم بالسّفن عبر البحر عائدا إلى بلاده التي هاجر منها.العجوز: عن أيّ جيوش تتكلمّين يا بنيتّي؟"، ص(36-37)" الهزيمة أصبحت حقيقة بائنة، جيش الانقاذ تقهقر، الجيوش العربيةّ انكفأت على أعقابها، فيا ديار العزّ ها نحن نعيش في خيام، و يا وطن الكرامة نحن مشرّدون،...،قال الشّيخ فايز ابن عين حوض الذي أسند ظهره في زاو ية المسجد الخلفيةّ: الله يرحمك يا شيخ عزّ الدّين القسّام، فقد أدركت ما يجري منذ سنوات طويلة".
اختار الكاتب اختار قضايا ومشاهد جعلت من الرواية توثيقا تاريخيا لحقائق تحاكي المكان والإنسان مع اختلاف في الزمان، فربيع الفتنة العربي ومؤامرة الشرق الأوسط الجديد، مقابل الحالة العامة للدول العربية بعد استقلالها وتحكم الغرب بسيادتها والتي هي لا مجال لتوصيفها،لا سيما تلك التي تعرض لها الشعب العربي السوري والأحداث الدامية التي أدت إلى التهجير والتشريد لكل من يسكنون مواقع الأحداث، ومنها مخيم اليرموك والكثير من المدن و البلدات السورية، وكذلك لبنان وما تدور فيها من نزاعات مسلحة وما يعيشه من استقرار هش بسبب الطائفية في الداخل، بالإضافة للتدخلات الخارجية .
كما أرى ان الكاتب ربما حاول تقديم رسالة عما يجول بخاطره وتأثره بأحداث الحاضر العربية والفلسطينية الدامية والأمس المنكوب من خلال مقاربة ذات طابعٍ سياسيٍ، واجتماعيٍ، ودينيٍ، كأن لسان حاله يقول:"ما أشبه اليوم بالأمس".
حيث نجد أنّ الرواية تشكل صورة حية تجمع قسوة النكبة 1948ومعاناة الفلسطينيين باختلاف أسبابها، وقسوة الحاضر على المشردين من لاجئين فلسطينيين ومواطنين سوريين، ص(46) "دائرة التعّاسة اكتملت على اللاجئين في فصل الشّتاء،الطبيعة كشرّت عن أنيابها عندما ضمتّ أجنحتها؛ لتطلق موجات الر يّاح العاتية"، ص(172) "أمّ نبيه: بداية أخبرهم أننّا مسلمون شيعة والحمد الله، ولا فرق بين السّنةّ والشّيعة، وفلسطين كما تعرفون لا شيعة فيها، ونحن لا نفرقّ بين طائفة وأخرى، فجدّتك لأبيك مسيحيةّ".ص(173) "أبو نبيه: الفلسطينيوّن ليسوا طائفييّن، ولا يفرقّون بين الناّس طائفيا، ففي بلادهم عاش المسلمون، المسيحيوّن واليهود والدّروز كأبناء شعب واحد، لكنّ اليهود اختاروا الوقوف مع الحركة الصّهيونيةّ ضد شعبهم وأمّتهم".ص(174) "بعد عام من الزوّاج أنجبت كلّ من رقيةّ وزينب ولدا، تشاورت رقيةّ مع ز ياد زوجها على اسم الولد، واتفّقا على اسم بكر، بينما اتفقت زينب وإبراهيم على عمر.قال نبيه مازحا: بقي علينا عثمان لنبني خلافة راشدة" ، ص(177) "أمّ شاكر: تقول شيعيّ، ماذا تعني؟ الشّيعة مسلمون مثلي ومثلك". ص(189) "رحاب: مع أنكّ تمزحين، إلّا أنّ اسم فاطمة يشرّفنا، فهي ابنة خير الناّس كلهّم، وأمّ الحسن والحسين". ص(202-203) "بدأ انتقال اللاجئين من مخيّم جرمانا إلى مخيّم اليرموك في الطّرف الجنوبيّ لدمشق، على بعد ثمانية كيلومترات منها، .....، وجرمانا يعيش فيها مسلمون، مسيحيوّن ودروز كأنّهم أخوة".
وفي الختام نجد ان الرواية رسالة ذات طابع إنساني لاثراء معرفة الأجيال لزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية من جهة، ولفت الانتباه لدور المرأة الفلسطينية والانتصار لقضية شعبها عالميا وعربيا، والعمل على رفع مكانتها الاجتماعية؛ لتتمكن من الاستمرار في العطاء وإكمال مسيرتها وهي تتقاسم مع الرجل ومع المجتمع جميع أشكال المعاناة، وظروف الحياة التي يفرضها الواقع المعاش، كما أن هذه الرواية تستحق الاهتمام حتى لأجد أنني أدعو لأن تصبح عملا فنيا؛ لانتاج فيلمٍ ومسلسلٍ لتصل إلى أكبر عدد من الناس لما تتضمنه من رؤية سياسية اجتماعية.
وسوم: العدد 727