قارب الموت والظمأ العظيم (18)
تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (18) (فصل جديد)
خاتمة :
(أكتبُ عندما يهطلُ الحزنُ غزيراً على جزيرة قلبي فتفيض به جنباته ، ويغوص إلى أعماق سحيقة مُفعمة بالمغارات والأحياء والمرجان . حينذاك أمدّ قلمي إلى أعلى ما استطيع لعلّه يتنفس هواءً جديداً يهبني الحياة . أكتبُ عندما ترمي بيَ الوحدة في بيداء قاحلة خالية إلّا من سراب العواطف الإنسانيّة ، فأحاول جاهداً أن أخلق بالكتابة عالماً جديداً أكثر رحمة وشفقة وخضرة ، أستعيد فيه لحظات الماضي السعيد)
"علي القاسمي"
في مجموعته القصصيّة هذه : "أوان الرحيل" عالج القاص "علي القاسمي" عبر ست عشرة قصّة قصيرة الهمّ العظيم الذي يركب كتفي وجود الإنسان منذ لحظة صرخة ولادته الاحتجاجيّة الأولى حتى لحظة موته رغماً عنه في كل الأحوال ، ومهما كانت الأسباب . الهمّ العظيم ، وهو الأوّل والأخير الذي لا يعادله أيّ همّ في الكون ، الهمّ العظيم الذي يجعل حتى حياة المرء همّاً كبيراً هو : الموت ، الحيّ الذي لا يموت . هذا الهمّ هو ما يميّز الإنسان عن كل مكوّنات الكون . الإنسان هو الحيوان المهموم أبداً الذي يخلق همّه بنفسه ، وبيديه الداميتين اللتين جعلتا تاريخه أنيناً دائماً ، ونواحاً متّصلاً ، وتراتيل سودا. الإنسان هو الوحيد الذي ينام مهموماً ، ويصحو على الهم من جديد كل يوم ، بل كل لحظة . والمشكلة أنه مهموم بالهمّ الذي يصنعه بيديه حتى صار حين ينظر إلى ما حصل أو إلى ما كسبت يداه ، يشعر فوراً ، وبمرارة ، أنه هيهات لمثله الأعلى أن يُصبح هو وواقعه سيان ، أو هيهات لذاته العليا أن تتطابق تماما مع ذاته الواقعية . ويعمل "الهمّ" عمله في وجود الإنسان فيصطبغ الوعي البشري كلّه بصبغة "الهمّ" ، ويصبح الموجود البشري هو ذلك الموجود الزمني الذي يحمل دائماً عبء وجوده ، وينوء دائماً بحمل الماضي والحاضر والمستقبل . ولعل هذا هو ما أراد "هيدجر" أن يصوّره لنا بلغة طريفة حينما روى لنا الأسطورة اللاتينية التالية :
"كان "الهمُّ" يعبر ذات يوم نهراً من الأنهار ، حينما لمح من بعيد قطعة صغيرة من الأرض ، وراح الهمُّ يفكر ماذا عساه صانع بهذه القطعة الصغيرة من الأرض ، حينما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام "جوبيتر" . ومضى الهم يطلب إلى جوبيتر أن يسبغ الروح على تلك الأرض (أي يجعلها إنساناً) ، فلم يتردد جوبيتر في أن يجيبه إلى طلبه . ولكن الهمّ ما كاد يشرع في إطلاق اسمه على تلك الخليقة الجديدة ، حتى احتج جوبيتر على ذلك ، بدعوى أن اسمه هو أحق بأن يطلق على ذلك المخلوق . وبينما كان الهم وجوبيتر يتقارعان الحجج حول أحقية كل منهما بالتسمية ، ظهرت "الأرض" وراحت هي الأخرى تطالب بأن يُطلق اسمها على ذلك المخلوق ، بحجة أنها هي التي أعطته قطعة من جسدها . ثم استدار الجميع نحو "ساتورن" طالبين إليه أن يحكم بينهم بالعدل ، فلم يلبث ساتورن أن اصدر الحكم التالي : بما أنك يا جوبيتر قد وهبت الروح لهذا المخلوق ، فسيكون من حقك أن تستردها منه عند الوفاة . وأنتِ أيتها الأرض ، بما أنك قد جدتِ عليه بالجسد ، فسيكون من حقك ان تسترجعي هذا الجسد . وأما أنت ايها "الهمّ" ، فلأنك أنت الذي كوّنته بادىء ذي بدء ، فسيكون من حقّك أن تتملكه وتسيطر عليه طوال محياه . وحيث أن ثمة خلافاً حول الاسم الذي يُعطى له ، فلنطلق عليه اسم "آدم" لأنه صُنع من "أديم" الأرض" . إنّ الإنسان هو : إبن الأرض ، وحليف الهمّ ، وربيب الموت " (58) .
لكن من الناحية الوجوديّة ، تجتمع هموم روح الإنسان ، وهموم جسده ، في "همّ" واحد أوحد هو الموت . ومنذ أن يتشكّل وعي الإنسان ويصبح شقيّاً بسبب انتباهته القسريّة إلى وجود المثكل متربّصاً بجوار حياته ، بل في أحشائها ، يبدأ "همّه" اللائب والدائم في البحث عن امتداد خلودي رمزي يائس يهدهد مخاوفه المشتعلة ويداري همّه الأوحد . ويعبّر الإنسان ــ أيّ إنسان ــ عـادة عن الحاجة لهذا الخلود الرمزي من خلال خمسة أشكال هي :
1ـ الخلود البايولوجي ــ ويتضمن الامتداد من خلال الأبناء والأحفاد ( تأكيد ديمومة واستمرارية الخلايا الجنسيّة ) .
2ـ الخلود اللاّهـوتـي ــ ويتضمـن الرمـوز الديـنيـّة والفـلسفيـّة لحيـاة مـا بعد الموت .
3ـ الخلـود الطـبـيعي ــ من خلال ديمومة الطبيعة : "من التراب جئت والى التراب ينبغي أن تعود" .
4ـ الخلـود الإجـرائي ــ ويتضمن شعور الفرد بالصـحة والسعـادة لكـونه حيّاً ، ويركّز على المشاركة الكاملة في كـلّ ما تمنحه الحياة والعيش بصورة أكبر في الحاضر .
5ـ الخلود الإبداعي ــ الـذي يتـيح للبـشر الأمتـداد والـديمومة مـن خـلال الـفـن والأدب والأنجازات البارزة في حياتهم (59) .
إنّ كل هذه الطرز من الخلود الرمـزي ، تمنح الأنسان إحساساً بالأنتماء لمن سبقه ولمن سيأتي بعده . والأهم ، هو أنـّها وسـائل للسـيطرة علـى القلق المتعلّق بالموت .
وفي هذا الإطار ؛ إطار البحث عن الامتداد الخلودي الرمزي ، يأتي فعل القاص علي القاسمي في منجزه السردي هذا . إنّها تجربة مع الموت ، مُقدّراً من الله أو مصنّعاً من قبل الإنسان . وقد قلّبه القاسمي على وجوهه المُختلفة عبر تجارب شخصيّاته المتنوّعة التي ابتدأ الكثير منها – كما أظهر التحليل – من تجارب معيشة تكفّل الخيال الخصب الخلّاق بتحويلها إلى فنّ سردي باهر في نصوص يمكن وصفها بأنّها نماذج لنص عربيّ الوجه واليد واللسان ، وبأنّها تمثّل خير تمثيل ما يمكن تسميته بـ "الواقعية المحدثة" أو الحديثة التي كسّر في بعضها السرد الخطّي الكلاسيكي المعروف ، ووظّف فيها ثيمات غرائبيّة مدروسة ، وغاص في أعماق شخصياته كاشفاً صراعاتها المُحتدمة ، وتمظهرات قلقها المُشتعل وهي تتقلّب على جمر همّها الأكبر الذي لا مفرّ منه ولا خلاص . وقد كان القاسمي وهو يكتب قصّته الواقعية واعياً لمعاني وأهميّة التطورات الحديثة التي حصلت في جنس القصّة القصيرة شكلاً ومضموناً ، فأسس نصوصه وفق رؤية ثاقبة تستند إلى فهم حاد لدور الحبكة وعوامل التوتر الدرامي في إنضاج حكاية مؤثّرة ، ولأهمّية المكان كمكوّن فاعل في البناء القصصي ، والتحرّك الذهابإيابي على متصل الزمان بمحاوره الثلاثة المعروفة ، واستثمار التقنيات الحديثة من تناص ، واسترجاعات فنّية - flashbacks ، وتوظيفات ماوراءنصّية – metafiction ، وتعدّدية أصوات وضمائر ساردة ، ولغة شعريّة مُنضبطة .
وما لا يقل أهمّية عن ذلك من وجهة نظري هي مراهنة القاسمي على الإنسان ، الإنسان الذي تبشّرنا الحداثة الغربيّة بقرب اختفائه أو أنّه قد اختفى فعلاً . إنّنا نحيا في عالم يواجه هجمة ثقافية وحضارية شرسة سيطرت فيه الواحدية المادية حصرا ولم تبق مجالاً لأيّ ثنائيات مثل الله والإنسان ، أو الروح والمادة ، أو الجسم والنفس ، أو الخير والشر (أو المؤلف والنصّ) .. إلخ . وفي هذه الواحدية المادية يتوحد الإنسان بالطبيعة بحيث يُرد كله إلى مبدأ واحد كامن في الكون ، ومن ثم فإن عالمنا المادي لا يشير إلى أي شيء خارجه (مثلما لا يشير النص إلى أي شيء خارجه مؤلفا إنسانا أو ظروفا اجتماعية أو تاريخية ) . فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات ، تمّ إلغاء كل الثنائيات داخله .. وتم تطهيره تماما من المطلقات والقيم ، وتم اختزاله إلى مستوى واحد يتساوى فيه الإنسان بالطبيعة هو مستوى القانون الطبيعي / المادي ، أو الطبيعة / المادة (المطلق العلماني النهائي) . وفي مثل هذا العالم الواحدي الأملس لا يوجد مجال للوهم القائل بأن الإنسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية (60) . ولعلّ أعظم وظيفة يقوم بها الأدب ، هو إخلاصه لأمل أو وهم حقيقةٍ تُسحق الآن بضراوة وتتمثل في أنّ الإنسان هو مركز الكون المُلغز الثرّ المُحيّر الذي لا ينضب مخزون عجائبه التي علينا استكشافها والغوص إلى أعماقها الهادرة . يموت الإنسان حين يموت الأدب ، وحين يعلن آخر مُبدع تخلّيه عن الإنسان وهمومه . ولم يكن إخلاص علي القاسمي للإنسان عموماً ، وإنسان بلاده العربيّ خصوصاً ، في انشغالاته الكونيّة والحياتيّة في مجموعاته القصصية المُختلفة ، إلّا تعبيراً عن الرؤية الحاكمة التي شكّلت إطار نشاطاته المختلفة العلميّة والأدبيّة .
ومن الناحية النفسيّة ، وفّر القاسمي لقارئه في مجموعته هذه فرصةّ "علاجيّة" كبرى للسيطرة – ولو جزئيّاً – على قلقه الدفين من الموت ، وفي مصالحة وعيه الهارب أبداً من مواجهة حقيقته المروّعة . وهو يُدرك بقوّة أنّ الإنسان المُعاصر في محنته الكونيّة وفي انسحاقه اليومي ، لم يبق له من رفيق يعينه على الالتفاف على مخاوفه غير الأدب . (فالحياة تفتقر وتفقد أهميتها حينما لا يتعرض للخطر أغلى ما في لعبة العيش نفسها من قيمة وهو الحياة نفسها . إنها تصبح مسطحة .... ويجر استبعادنا الموت من حساباتنا في أعقابه عددا من الاستنكارات والاستثناءات . ونتيجة حتمية لهذا كله أنه يتعين علينا أن نبحث في عالم الأدب بشكل عام ، عن تعويض عن إفقار الحياة وتسطّحها ، فهناك لا نزال نجد أناسا يعرفون كيف يموتون ، بل أنهم في الحقيقة قادرون على قتل آخر ، وهناك فقط يمكننا أن نستمتع بالظرف الذي يجعل في إمكاننا أن نروّض أنفسنا على الموت . أي أننا خلف كل تقلبات الحياة ، نحتفظ بوجودنا دون أن يمسّه شيء . ذلك أنه من المحزن للغاية أن يكون الأمر في الحياة كما في لعبة الشطرنج ، حيث يمكن أن تؤدي حركة خاطئة واحدة إلى خسارتنا المباراة ، ولكن مع اختلاف هو أنه لا يمكننا أن ندخل مباراة ثانية في الحياة ، فلا مباراة إعادة ولا تعادل ، أما في مجال "الأدب" فإننا نكتشف ذلك التعدّد في الحياة الذي نتوق إليه . إننا نموت في شخص بطل معين ومع ذلك فإننا نعيش بعده ، ونحن مستعدون لأن نموت مرة أخرى مع البطل بالقدر نفسه من الأمان) (61) .
وقد حقّق القاسمي جانباً مهماً من هذه الوظيفة في كلّ نصّ من نصوص مجموعته هذه . ففي كلّ قصّة جعلنا "نجرّب" شكلاً غير مسبوق ومدهشاً بصورة آسرة من أشكال الموت مستثمراً إمكانات الفنون المختلفة كالحكاية واللوحة والسيرة والشعر وغيرها .
أمّا من الناحية الفلسفيّة ، فيمكننا القول بثقة إنّ نصوص القاسمي هذه تشكّل قسماً مما يمكن أن أسمّيه بـ "كتاب الانتظار" . فـ (بين ما قبل الموت وما بعده ، تبدو الحياة شعلة متوهّجة تعلو وتخفض إلى أن يعصف بها إعصار الفناء فتذروها الرياح إلى أعماق الهاوية أو إلى ما وراء النجوم . ولكن أين تمضي تلك الظلال البشرية التي تخبو تحت ظلمات الموت ؟ أو إلى أين تذهب تلك الأشباح الإنسانية التي يطويها الفناء في جحافله المظلمة ؟ وإذا صحّ أن الموت رقاد كرقاد النوم ، فما هي الأحلام التي تطوف بنا في مثل هذا الرقاد ؟ كل تلك الأسئلة لا سبيل لنا إلى الإحابة عنها إجابة حاسمة ، فقد كُتب علينا أن نعاني مرارة الشك إلى أن نختبر الموت ؛ أستغفر الله ؛ بل إننا حينما نختبر الموت ، فإننا لن نكون هناك لكي نعبّر عمّا اختبرناه . أليست "تجربة الموت" هي النفاذ إلى أعماق السرّ ، واختراق الوجود نفسه إلى ما وراءه ؟ أليست "تجربة الموت" هي تلك المخاطرة الميتافيزيقية التي فيها يمّحي المُجرّب ، فلا يبقى من تجربته سوى "السر" الذي يخلّفه وراءه الموت ؟ فكيف يمكن إذن أن نعبّر عن مثل هذه التجربة التي هي بطبيعتها خروج عن دائرة كل تجربة ممكنة ؟ فلنقل إذن أننا بإزاء سرّ هيهات لنا أن نستجليه ، ولنعترف بأنه سواءً أكانت تجربة الموت هي تجربة الفراغ والعدم واللاوجود ، أم تجربة الخلود والبقاء والأبديّة ، فقد قّضي علينا أن نعيش في انتظار تلك التجربة التي قد لا يكون بعدها انتظار ، أو التي قد تدنو بنا إلى أعتاب الجنّة أو النار) (62)
وخلال جلوسنا في غرفة الانتظار التي يسمّونها حياتنا ، علينا أن ننشغل – بلا خوف – بقراءة كتاب الموت .. كتاب الانتظار .. هذا الكتاب الذي سطّر علي القاسمي صفحات مهمّة منه بكل اقتدار .. ننشغل به إلى أن يحلّ "أوان الرحيل" .
تحيّة للقاص المُبدع "علي القاسمي" .
وسوم: العدد 730