ظواهر سلبيّة في مسيرة الشّعراء 4+5
الشّعراء الملحدين والقرآنيّين
في لقاء جمعني مع الشّاعرة فدوى طوقان قبل أكثر من عشرين عاما، يوم كنت طالبا في الدّراسات العليا، وكنّا يومئذ نُعدّ لحوار مع الشّاعرة أنا وزميلان لي، ونشر لاحقا في مجلّة "نوافذ" (توقّفت عن الصّدور)، سألناها عن رأيها في الدّين، فقالت: لم يقنعني، أو بهذا المعنى، ولم تزد على جملة واحدة، ومع أنّ الشّاعرة طوقان لها قصيدة "أمام الباب المغلق" وقد يحلو للبعض تفسيرها، وإخراج الشّاعرة على أنّها ملحدة، إلّا أنّها لم تكن تجاهر بعدائها للدّين أو نصوصه، أو حتّى تسخر كما يفعل هؤلاء من بعض تلك النّصوص الّتي لا تراها في نظرها "منطقيّة"، كانت مقتنعة تمام القناعة بقول الشّاعر:
مالي وللنّاسِ، كمْ يَلْحَوْنَني سَفَهاً دِيني لنفْسي ودينُ النّاسِ للنّاس
وعلى الرّغم من أنّ مسألة الدّين ونصوصه مشكلة كبرى في عقول المثقّفين، وخاصّة الشّعراء، وتذكّر بظاهرة الشّعراء الزّنادقة، ممّن يظنّون سفها أنّ باستطاعتهم الحكم على النّصوص ومسائلها، ذلك العلم الّذي أنفق فيه العلماء الأفذاذ أقصى الجهد والطّاقة، وكانوا حريصين على صدق النّصّ وصحته، وأنّه قد ورد عن الرّسول صلّى الله عليه وسلم إلّا أنّهم يجتهدون خطأ بل سفها في الحكم على النّصوص وموضوعاتها الغيبيّة، فيعتقدون أنّ من حقّهم الحكم على تلك النّصوص وردّها، وهم جهلة في كثير من العلوم الّتي تؤهّلهم للحكم، وهذا باب واسع، وله أصوله المعتبرة، بل يمتدّ بهم الغباء ليسخروا ممّن يعارضهم، فيصفونه بالشّيخ، تقليلا من شأنه واحتقاره.
يتّكئ هؤلاء الشّعراء الّذين لم يحصّلوا علما صحيحا، ولا رأيا عقليّا سليما، ولا يمتلكون طريقة قويمة للتّفكير، على أنّ هذه النّصوص، وخاصّة الحديث الشّريف لم يرد عن الرّسول عليه السّلام، وأنّ الطّريقة الّتي وصل فيها طريقة تجعلهم يشكّكون في ذلك، بناء على تعدّد الرّوايات، مع أنّ تعدّد الرّوايات للحديث الواحد، كما يقول محمد عابد الجابري دليل صحّة ووجود، وليس دليل تكذيب ونفي: "والمصادر الإسلاميّة مادّتها الأساسيّة هي الرّوايات. وهي، في جملتها، يطبعها الاختلاف إلى حدّ التّناقض أحيانا. ومع أنّ اختلافها قد يدفع بعض الباحثين إلى الشّكّ في صحّة ما ترويه، كلّا أو بعضا، فإنّنا نرى، بالعكس من ذلك، أنّ هذه الاختلافات دليل صحّتها ككلّ. فالاختلافات هنا كاختلاف شهادات أناس حضروا حادثة سيّارة أو سمعوا ممّن حضرها. وبما أنّ المفروض – بل هذا هو الواقع فعلا- أنّ أيّا منهم لم يكن قد كلّف نفسه بتسجيل وقائع الحادثة كتابة على ورق – كما يفعل المحقّقون من رجال الشّرطة- وإنّما يصفون، كلّ من زاويته الخاصّة، جزءا أو أجزاء حيّة من المشهد، بوصفه حادثة إنسانيّة يكتنفها ما يرافق الحوادث الإنسانيّة عادة" ويقرّر الجابري بعد هذا الشّرح المسهب أنّ "تعدّدها دليل على صدق ما ترويه، لا كأجزاء وتفاصيل، بل كحدث أو حادثة. ذلك أنّ الخبر الموضوع، الكاذب، المختلق، لا يكون في الوقت نفسه، متعدّدا" (مدخل إلى القرآن الكريم، ج1، ص25).
إن الشّعراء الملحدين السّاخرين من الدّين ونصوصه، وهم كثر، يدّعون المعرفة، ويرون أنّ لهم حقّ الاختلاف، والنّظر في هذه المسائل ورفضها، والتّشكيك فيها، وهم معدومو الأسس والعلوم والبيّنات، والطّريقة السّليمة للبحث، وإنّما هي "موضة" وسنّة متّبعة لديهم، لرفض الدّين جملة وتفصيلا وأنّه لا يقنعهم، هكذا دون نقاش علميّ موضوعيّ، أو ربّما يريدون التّفلّت من النّصوص، ليظهروا بمظهر المتمرّد، الثّائر، النّاقم على ما يسموّنه التّراث والماضويّة العقليّة والتّخلّف، لينتهوا إلى كائنات عديمة التّفكير، لم تحصّل علما ولا تفكيرا سليما.
إن جزءا من هؤلاء الشّعراء، ومعهم غيرهم من المثقّفين، أو مدّعي الثّقافة، لا يؤمنون، كما يقولون إلا بما جاء به القرآن الكريم، مع أنّ القرآن الكريم يدعوهم إلى الإيمان بقول الحديث الشّريف، ولكنّهم لأنّهم لا يعلمون، ولم يقرأوا القرآن الكريم، ولم يتدبّروه، يقعون في مثل هذه التّناقضات العجيبة، عدا أنّهم يطلقون العنان لشياطينهم ليفسّروا النّصّ القرآنيّ بما لا يقوله، ولا يقبله منطق القرآن نفسه، وكأنّهم لم يقرأوا "فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون"، إنّهم جمهرة من الأدعياء المتطفّلين على النّصّ المقدّس، يفرّغونه من جماليّة المعنى وسموّ الأفكار، كأنّه لا يكفيهم تطفّلهم على الشّعر، بل لا بدّ من الزّركشة الإلحاديّة، فالموضة الرّائجة هي الشّكّ والإلحاد، وادّعاء التّفكير الحرّ المتحرّر!
إنّ هؤلاء الشّعراء بالمجمل متناقضون أيضا من باب آخر، في حين أنّهم يسلّمون بنظريّات أقدم من الحديث والقرآن وتعود إلى مئات السّنين قبل الإسلام، ولم تصل إلينا بالدّقة والحرص الّذي وصلت به النّصوص الدّينيّة، إلّا أنّهم يدافعون عنها دفاعا مستميتا، بينما تراهم يناصبون الدّين ونصوصه العداء بحجّة أنّها غير صحيحة، ولا يعترفون بها، فيقبلون آراء سقراط وأفلاطون وأرسطو، ويبنون عليها المؤلّفات والرّؤى، ويشكّكون في النّصوص الدّينيّة، ويتّهمون العلماء الّذين بذلوا أقصى الجهد والطاقة في الحرص على نقل الصّواب من الحديث وأمور الدّين، ويتفنّنون في اختراع نظريّات الشّكّ، فقط لأنّهم لا يريدون الدّين، وكان بإمكانهم الإلحاد دون كلّ تلك البحوث الخاوية من المعنى.
لا شكّ في أنّ هناك شعراء مفكّرون، يستحقّون الاحترام والتّبجيل، فهم فلاسفة، أفاضوا في البحث والتّنقيب والمناقشة، وتوصلّوا إلى ما توصلّوا إليه من أفكار وقناعات، وهؤلاء قلّة قليلة ونادرة، ولكنّ الأكثريّة الّتي عليها شعراء اليوم ما هم إلّا كائنات لا تحسن التّفكير، ولم يوظّفوا هذه الجوهرة الممنوحة لهم، وظنّوا أنّ حفظ مقولة من هنا أو من هناك في جلسات أمثالهم العابرة، تجعلهم يحصلّون طريقة مثلى للتّفكير. إنّهم كما قال المثل: ضغث على إبّالة، ليس أكثر، ومن كانت هذه حاله، من عدم امتلاك أسس التّفكير الصّحيحة والسّليمة، لن ينفعوا الشّعر ولا الشّعراء، ولن يكونوا إلّا كإضافات الصّفحات الفارغة في سجل الإبداع، سيأتي يوم ويتمّ التّخلص منها في سلّة المهملات.
وأخيرا، لا بدّ من توضيح مسألة مهمّة، أنّ لكل إنسان الحقّ فيما يعتقد أو يرى، ويجبّ ألّا يحاسب أحد أحدا على اعتقاد اعتقده، ولكن من حقّ الآخرين المخالفين لهم، أن يقفوا منهم موقف العداء والرفض لما يحملون من ترّهات لا يسندها فكر، وما هي إلّا الأباطيل، ورجم من الوهم المفضي إلى العدم. وليس في هذا التّوصيف السّابق مصادرة لحقّ الاختلاف كما قد يدّعي البعض أو يتوهّم، ولكن لا بدّ من أن تكون على علم بما تقول، وألّا تكون كما قال الشّاعر:
يقول ما قالا له كما تقول الببّغا
ظواهر سلبيّة في مسيرة الشّعراء
(5)
التّمركز حول الذّات وتضخيمها
لا شكّ في أنّ كلّ شاعر معجب بنفسه، متمحور حول ذاته، ولا يرى غيره جديرا بمكانته الّتى وصل إليها عن استحقاق وتمكّن، منذ أوّل شاعر نطق بالشّعر، وحتّى قيام السّاعة، فهذا الشّاعر الجاهليّ يقول:
وإنّي وكلّ شاعر من البشرْ شيطانه أنثى وشيطاني ذكرْ
إنّه التّميُّز والتّفرُّد إذن، وهذا ما دفع الشّاعر جرير أن يقول في معرض التّفاخر بالذّات:
أنا الموت الّذي آتي عليكم فليس لهارب منّي نجاء
وصولا إلى المتنبي الّذي تضخّمت ذاته أكثر وأكثر، فغدت نرجسيّته واضحة، انطلاقا من قناعة شخصيّة أنّه هو الأعلى ذاتا وشعرا وأخلاقا وسلوكا، فقد حضرت الأنا في شعره حضورا لافتا، ليس فقط في معرض الافتخار بشعره، كقوله:
أنا الّذي نظَرَ الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ به صَمَمُ أَنامُ ملءَ جفوني عَنْ شوارِدِها ويسهرُ الخلقُ جَرّاها وَيَخْتصِمُ
بل تعدّى ذلك إلى التّفاخر بالذّات حدّ المرض النّرجسيّ القاتل واحتقار الآخرين، حيث يقول:
وَكُلّ مَا قَدْ خَلَقَ اللّـ ـهُ وَما لَمْ يُخْلَقِ مُحْتَقَرٌ في هِمّتي كَشَعْرَةٍ في مَفْرِقي
لقد أفاض النّقّاد في الإشارة إلى ذلك وتحليل أسبابه عند المتنبي خصوصا، وأحيل القارئ إلى دراسة قامت بها الباحثة رولا غانم بعنوان "الآخر في شعر المتنبي" (رسالة ماجستير/ جامعة النّجاح الوطنيّة، 2010، مخطوطة)، حيث عقدت فصلا خاصّا ما بين صفحتي (17-48) تتبّعت هذا الموضوع بكلّ تجليّاته في شعر المتنبي، ومن قبل ذلك أشار دارسون كثيرون إلى هذه الظّاهرة، فلا داعي لذكر مزيد من الأمثلة، متجاوزا عن المتنبي إلى الشّعر الحديث، فقد أثر عن الشّاعر اللّبنانيّ سعيد عقل قوله: "أنا الشّعر"، وهذا النّفَس من الاعتداد بالذّات يلمحه المرء بصورة جليّة عند محمود سامي البارودي والشّاعر محمّد مهدي الجواهري، وكأنّ الأمر ليس مشكلة، ما دام الشّعراء، كل الشّعراء هكذا!
ومع التّسليم بهذه الحقيقة الواردة سابقا، من اعتداد الشّاعر بذاته، اعتدادا نابعا من أنّه متفرّد، متميّز، مختلف، ذو لغة خاصّة وصورة مدهشة ووحي علويّ، وما يصاحب ذلك من احتفال جماهريّ بالشّاعر والشّعر على حدّ سواء، بدءا من المتلقّي العاديّ، وانتهاء بالفلاسفة، ومرورا بالنّقّاد، وحتّى اللّاهوتيّون والفقهاء، كلّهم يحسد الشّاعر، وكلّهم يريد أن يكون شاعرا، إذن يحق للشّاعر الفخر بذاته والّتيه بشاعريّته:
وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ إِذا أَنا لَم أُعْطِ الْمَكارِمَ حَقَّها فَلا عَزَّنِي خالٌ وَلا ضَمَّنِي أَبُ
وأيّ همّة أعلى من همّة الشّاعر؟
أقول، ومع التّسليم بهذه الحقيقة إلّا أنّ الشّعراء قد اختلفوا اختلافا بيّنا فيما بينهم في التّعبير عن هذه الذّات، وخاصّة خارج نطاق القصيدة الّتي كانت محلّ فخر بالذّات، فقليلون من عبّر عن هذه الأنا خارج النّصّ، ليبدو الشّاعر متواضعا، مطمئنّا، راضيا، عاديّا، كأيّ إنسان، لا يتعالى على ناقد، ولا على قارئ، إنّه خارج العمل الشّعريّ، إذن لا داعي لتتضخّم الذّات خارج الشّعر، ولعلّ هذا ما هو مطلوب من الشّاعر.
شاعر عربيّ كبير كمحمود درويش مثلا، كان ممتلئا بذاته، لكنّه لم يكن مفتخرا بهذه الذّات خارج سياق القصيدة، حتّى داخلها، يتماهى ضمير الأنا مع النّصّ، فتكاد لا تشعر بوجوده، كان يكتفي بالعمل على الشّعر ليحوز إعحاب القارئ والناقد، لتدغدغ تلك الإعجابات أناه بكلّ تأكيد، ولا شكّ في أنّه كان مزهوّا في كلّ أمسية شعريّة يحتفل به جمهور الشّعر، إنّه شاعر ذكيّ أيضا يدفع بكلّ ثقة ذلك الجمهور من قرّاء ونقّاد وشعراء إلى التّسليم لشاعريّته، فيخلق له حسّادا كثيرين أيضا يعيشون في الظّلّ، لاسيّما من الشّعراء، وما يلاحظ على حوارات درويش أنّه يبدو متواضعا، سلسا، لا ينتقد أحدا، ولا يقلّل من شأن أحد، وربّما نظر إلى نفسه أحيانا بتواضع كبير، ولم يقل عن نفسه أكثر ممّا قاله النّقّاد، بتواضع يخجل منه المحاور، لأنّه يعرف قدره وعلوّ كعبه في الشّعر.
إنّ أكثر ما يريب هو وقوع الشّاعر في شرَك الذّات خارج نطاق النّصّ، فيتعمّق في الأنا تعمّقا مرضيّا عصيّا على الشّفاء، لعلّ هذا ما حدث مع الشّاعر سميح القاسم في ذلك الحوار الّذي أجراه معه النّاقد اللّبنانيّ جهاد فاضل، ونشرته مجلّة العربيّ في العدد (652)/ مارس/2013، وقد وصف فاضل هذا الحوار بأنّه "طريف"، فلماذا يا ترى كان هذا الوصف؟ ربّما ستبدو الإجابة واضحة بعد التوقّف مع الشّاعر وأناه.
يحتلّ الحوار من المجلّة ثماني صفحات تقريبا، بما فيها مقدّمة المحاور، وصورة له مع الشّاعر في البداية مع المقدّمة، وصورة ثانية في الصّفحة الثّالثة، ظهر فيها أديبان آخران مع القاسم. وفي الصّفحة قبل الأخيرة صورة ثالثة لغلاف كتاب سميح القاسم (مكالمة شخصيّة جدّا- مع محمود درويش)، وقد تطرّق الحوار، وهو حوار قصير غير سابر، إلى قضايا متعدّدة يلخّصها فاضل بقوله: "حديث في الخاصّ وفي العامّ معا، وفي الفكر وفي الشّعر على السّواء، وفي الشّعراء أيضا غابرهم وحاضرهم". (ص80)
لقد حضر الضّمير المنفصل "أنا" حضورا لافتا في هذا الحوار، فتكرّر في بداية الإجابات كثيرا، وخلال الإجابات، وفي مقارنة الشّاعر نفسه بغيره، أو خلال حديثه عن الآخرين، فقد تكرّر هذا الضّمير ما يزيد عن ثلاثين مرّة، عدا استخدامه الضّمير المتّصل (الياء)، وهو ضمير المتكلم، سواء بالاتّصال بالاسم، ليكون مضافا لياء المتكلّم أم بالفعل ليكون مفعولا به، وكذلك اجتماع الضّمير المتّصل (التّاء المضمومة) الّتي جاءت مسندا إليه (فاعلا)، وأحيانا تتكثّف الذّات في الجملة الواحدة لتحدّها الأنا من كلا جانبيها، وباستخدام الضّمير بأنواعه الثّلاثة، وسأورد فيما يأتي مثالا، شكّل جزءا من إجابة الشّاعر على سؤال محاوره المتعلّق بأنسنة العدو، فيجيب القاسم:
"أنا مؤسّس هذه الرّوح أو هذه المدرسة، أنا مؤسّس نظريّة أنسنة العدوّ في الشّعر وفي الأدب. من أربعين سنة كتبتُ عن جنديّ عربيّ يقول عن عدوّه: "بادلته تبغا بماء". أعطيته تبغا وأعطاني ماء. أنا مع أنسنة العدوّ، لأنّ تجريد العدو من الإنسانيّة يجرّدني أنا، عمليّا، من الإنسانيّة. أنا أقولها دائما إنّ إسرائيل تنتصر علينا نصرا مبينا حين تنجح في تجريدنا من إنسانيّتنا، إذا نجحت في تجريدنا من إنسانيّتنا، تكون قد انتصرت علينا. وأنا لا أسمح بهذا. أنا رائد أنسنة العدوّ في الشّعر العربيّ" (ص 86)، ثم يطلب بثقة أنْ "عودوا إلى المصادر".
في هذه الإجابة على ما فيها من تكرار اللّفظ والمعنى إلّا أنّها حافلة بالأنا من عدّة وجوه، فقد أبرز نفسه مؤسّسا وزعيما ورائدا، ما يعني أنّ الآخرين تبع له، عدا أنّ نبرة الثّقة المطلقة بالذّات بارزة جدّا، وخاصّة عندما يقول: "أنا لا أسمح بذلك"، إنّه نفَس دكتاتور أو زعيم قبيلة أو ملك مطلق الصّلاحيّة، وليس شاعرا. وهذا النّفَس يتكرّر كثيرا في هذا الحوار، ليتفرّد تفرّدا لافتا، يقول: "إذا كان هناك إصرار على شاعر عربيّ واحد من الجاهليّة إلى اليوم، فأنا جاهز!" (ص 86)، وكذلك: "عودوا إلى النّقّاد المحترمين، تجدون أنّه ما من شاعر عربيّ من الجاهليّة إلى اليوم، غامر بتجربته وجنّ وعمل ما عمل مثلي. وذلك بشهادة النّقّاد العرب الكبار". (ص86)
لم يكن سميح القاسم شاعرا فقط ويتحدث عن تجربته الشّعريّة، بل كان ناقدا أيضا ومقيّما، لتجربته ولتجارب الشّعراء الآخرين، ينتهي القاسم بعد إجابة طويلة يتوقّف فيها على مسيرة الشّعر العربيّ إلى إبراز دوره في تطور القصيدة العربيّة، ليكون صاحب الفضل الأوحد في هذا، وكأن الشّعراء كلّهم في كفّة وهو في الكفّة المقابلة، يقول: "أعتقد أنّني أضفت شيئا آخر: تعدّد الصّدر، تعدّد العجز، في القصيدة العموديّة. نشرت مجموعة من القصائد في البيت أكثر من صدر أحيانا، وأكثر من عجز أحيانا، وهذا اجتهاد جديد وجميل ومريح". (ص84)، أين النّقّاد؟ وكيف غابوا عن هذا الّذي أضافه القاسم الّذي يصفه بالجديد والجميل والمريح؟
وليس هذا وحسب، بل إنّ سميح القاسم يطلق الأحكام النّقديّة القاسية على الشّعراء، فيقسمهم إلى قسمين، شعراء حقيقيّين، وشعراء افتراضيّين، فعندما سأله جهاد فاضل عن أدونيس، الشّاعر السّوريّ، أجابه قائلا: "أنا لا أريد أن أدخل في لعبة الأسماء والأمثلة، كلّ الشّعراء أصدقائي"، إنّ استهلال الشّاعر بهذه الإجابة سيكتشف القارئ أنّه تمهيد لما هو أشدّ وأبلى. فيتابع الإجابة ليقول لامزا أدونيس وحداثيّته: "عندما نخرج أربعين أو خمسين شاعرا تعتبرونهم كبارا في العالم العربيّ، فأنا أشكّ في أنّهم شعراء أصلا. أنت تصف فلانا أو فلانا بأنّه شاعر كبير، أنا أشكّ في أنّه شاعر". (ص84). وحقيقة إجابة سميح القاسم أنّه يخرج أدونيس من الحداثة الشّعريّة، إذ إنّها غير "مستمدّة من التّراث العربيّ"، ومن غير أدونيس مقصود هنا، إذ ناصب، على ما هو معروف، التّراث العربيّ العداء، ودعا إلى القطيعة التّامّة معه؟ إذن ها هو أدونيس خارج الحداثة الشّعريّة، ليُدخل إلى هذا المصطلح الشّاعر الكلاسيكيّ محمّد مهدي الجواهري مدافعا عن حداثيّته بقوله: "أنا لا أناقش في حداثة أخي وصديقي ومعلمي – بمعنى ما- محمّد مهدي الجواهري...، روح الجواهري روح حداثيّة". (ص85)، أرأيتم كيف يدخل الشّعراء ويخرجون من الحداثة والشّعر، هكذا بأحكام نقديّة شخصيّة وتأثّريّة؟
ويطلق سميح القاسم الشّاعر أيضا أحكاما نقديّة على شعراء آخرين، فـ "بدوي الجبل شاعر كبير، ولكنّه شاعر مقلّ"، أما الشّاعر سعيد عقل فعنده - في نظر القاسم- "بعض القصائد الجيّدة جدّا المشغولات بعناية، وما عدا ذلك لا تجد سوى التّبن، تعرف أنّ هناك حَبّا (بفتح الحاء) وأنّ هناك تبنا. السّنبلة فيها حَبّ وفيها تبن. تبن سعيد عقل أكثر من حَبّه. وأعتقد أنّ بدوي الجبل مثله" (ص 87)، فإذا كان بدوي الجبل شاعرا مقلّا، ومع هذا القليل، تبنه أكثر من حَبّه، فماذا بقي من شعره؟ وإذا كان هذا حال الشّعراء الكبار، فماذا سيقول القاسم لو شاهد غثاء الشّعراء المتطفلين هذه الأيام؟ لا ريب أنّهم يفتقرون إلى التّبن كذلك.
وأخيرا، يصل الشّاعر إلى تميّزه عن غيره من شعراء المقاومة، وخاصّة محمود درويش وتوفيق زيّاد، هؤلاء الشّعراء الّذين شكّلوا معه مثلّث الشّعر الفلسطينيّ المقاوم، مقدّما حكما نقديّا عامّا لمسيرته في شعر المقاومة، ليكون متفرّدا فيما أطلق عليه "البعد القوميّ"، أمّا درويش فبرز عنده "الجانب الوطنيّ الفلسطينيّ"، وتوفيق زيّاد "كان مناضلا طبقيا شيوعيا"، يقول: "لكن عندي كان الحسّ القوميّ أقوى، عند محمود الحسّ الوطنيّ، عند توفيق الحسّ الطّبقي." (ص87)
هذه هي صورة الشّاعر سميح القاسم الّذي رفض جائزة نوبل عندما عُرِضت عليه، كما قال في هذا الحوار (ص85)، الّذي وصفه الناقد جهاد فاضل كما أسلفت سابقا، بأنّه طريف، ولعلّ طرافته بادية دون أن أقرّر ذلك وأين، فالقارئ قادر على معرفة وجه الطّرافة، دون أن يقرّرها أحد عليه.
وسوم: العدد 731