بنية المثلثة الشعرية (6)= المقاصير
استقر الشعر العربي في قرون ما قبل الإسلام على منهج من العَروض تتخرج به القصيدة واحدةَ الوزن والقافية، مطلعها هو بابها الذي لا مدخل للشاعر إليها سواه، ولا مخرج حتى يفرغ! وهو ما تَمَلْمَلَتْ منه بعض أحوال الحياة على التاريخ؛ فاستفزت بعض مُتحوِّليها من الشعراء إلى الثورة عليه؛ فاجتازوا حدود القافية، ثم حدود الوزن.
لكن القافية المقصورة (التي رويها الألف الأصلية غير الزائدة)، نوع قديم من القافية، لم يخرجه من الوَحدة علماءُ الشعر وهو غير متمكن فيها.
إن حرف الرَّوِيّ هو قلب القافية الذي به تُعتبر وإليه تَنتسب؛ فيقال: لامية العرب، وسينية البحتري، ودالية المعري، ونونية ابن زيدون، ...، وهكذا. وهو مِلاكها الذي يحفظ عليها شأنها كله، بحيث إذا تعدَّدَ تعدَّدتْ، وإذا توحَّدَ توحَّدتْ. ولا يمتنع أن يكونه أيُّ حرف من حروف العربية، إلا الحروف الهوائية الممدودة أو اللينة أو المُشبَّهة بها؛ فهي حروف كالحركات، ينبغي أن يُلتزم قبلها ما يكون هو الرَّويَّ، ليكون الحرفُ منها هو الوَصْلَ، أي الختام الذي يصل بالقافية إلى غايتها.
"هَذِهِ الذَّالُ فَاسْمَعُوهَا وَهَاتُوا شَاعِرًا قَالَ فِي الرَّوِيِّ عَلَى ذَا
قَالَهَا شَاعِرٌ لَوَ انَّ الْقَوَافِي كُنَّ صَخْرًا أَطَارَهُنَّ جُذَاذَا"!
ولا ريب في شدة وطأة الروي على الشعراء جميعا، حتى قال فيه المعري وهو أعلم الشعراء به: "إِذَا جَاءَ الرَّوِيُّ فُضِحَ الْغَوِيُّ"؛ فإن الشاعر إذا ورَّط نفسه فيما لا ذخيرة له عنده تَدَهور إلى الإيطاء (تكرار ما سبق استعماله)، أو الاستدعاء (إضافة ما سبق مثله)، أو غير ذلك من المعايب، أو استأسَرَ للإِرْتاج (الانقطاع دون التكملة)، وكان عن ذلك كله في سِتر، حتى قال ما قال!
ولقد اهتدى الشاعر العربي الجاهلي إلى قَصر القافية، فرتع منه في مرتع، وسرح في مسرح، وانطلق غير متعثر ولا متحرج! نعم؛ فحسبه كلما أدركته القافية أن ينتحي نحو الأسماء والأفعال الأَلِفيَّة لامات أواخرها منقلبةً عن واوات أو ياءات -وما أكثرها- فيغترف منها ما شاء؛ فإذا كان قد أخرج قافية مطلع قصيدته من إيقاع المتدارِك، بمثل "مُنْتَهَى"- أمكنه أن يخرج ما بعدها بمثل: " مُصْطَفَى، مُرْتَضَى، مُقْتَدَى، مُرْتَقَى، مُبْتَغَى، مُقْتَضَى، مُنْتَمَى، مُنْتَدَى، يُشْتَرَى، وَارْتَوَى، فَاكْتَوَى، وَاشْتَهَى، فَاشْتَفَى، وَاهْتَدَى، فَارْتَمَى، وَانْتَحَى، فَانْتَخَى، وَافْتَرَى، إِنْ وَهَى، أَوْ دَعَا، قَدْ أَتَى، بَلْ غَفَا، مَنْ سَمَا، أَوْ وَعَى، قَدْ عَوَى،..."، لا يلزمه إلا أن تكون هذه الألف هي لام الكلمة!
هذا الأسعر الجعفي الشاعر الجاهلي المجهول المولد والممات، يقول في مطلع قصيدة أورد له منها الأصمعي (122- 216هـ)، ثلاثين بيتا:
"أَبْلِغْ أَبَا حُمْرَانَ أَنَّ عَشِيرَتِي نَاجَوْا وَلِلنَّفَرِ الْمُنَاجِينَ التَّوَى
بَاعُوا جَوَادَهُمُ لِتَسْمَنَ أُمُّهُمْ وَلِكَيْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِمُ فَتَى"-
فيخرج قوافيها الثلاثين من إيقاع المتدارِك نفسه، بما يأتي: "ـنَ التَّوَى، ـمُ فَتَى، ذَا تَرَى، ـهَا غِنَى، وَالشَّوَى، ـرُ القُرَى، ـدٌ وَأَى، مَا أَتَى، قَدْ رَأَى، ـةُ النَّسَا، ـنَ الْغَضَا، ـنَ الدُّجَى، ذِي الْغِنَى، مَنْ بَغَى، ـلِ انْقَضَى، ـوَ اللِّحَى، ذَا الْفَتَى، ـنَ الشَّذَى، فَاصْطَلَى، ـلَى الْحَصَى، ـتَى بَكَى، ـطَ النَّدَى، كَالنَّوَى، ـهَا حُلَى، مَنْ عَفَا، ـهَا هُدَى، ـهُمْ غِنَى، ـمَا تَرَى، قَدْ قَضَى، ـدِ اكْتَفَى".
كل أولئك؛ أَلَا ما أَهْنَأَهُ بها من قافية!
ومن مثل ذلك قطعٌ وقصائد معدودات، لامرئ القيس والسموأل وليلى العفيفة ووفاء بن زهير المازني وبشر بن مرثد الشيباني وكعب بن زهير وزيد الخيل، وغيرهم، أشار إليها ونقل منها الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار -رحمه الله، وطيب ثراه!- في مقدمة تحقيقه لشرح ابن هشام اللخمي لمقصورة ابن دريد، بعضها منحول، وبعضها مريب، ولكن بعضها مقبول، كقصيدة الأسعر الجعفي المذكورة آنفا.
ولقد زعم أن من ذلك قول ابن خَذَّاق العَبْديّ:
"اِمْنَعْ مِنَ الْأَعْدَاءِ عِرْضَكَ لَا تَكُنْ لَحْمًا لِآكِلِهِ بِعُودٍ يُشْتَوَى"،
وهو زعم لا يستمسك؛ إذ ينبغي ألا يُقطع في قافية البيت اليتيم برأي، حتى ينضاف إليه غيره، وإلا فغير ممتنع في قافية هذا البيت، أن تكون الواو هي الرويّ، والألف الوصل!
ثم زعم أن لفواصل الآيات القرآنية، أثرا في إغراء الشعراء بالقافية المقصورة. وصدق؛ فما كان أشد وطأة القرآن الكريم على الشعراء، حتى لقد أذهلهم عن أنفسهم؛ فكان منهم من اشتغل به عن الشعر، ومن اشتغل به فيه!
أم كيف بهم إذا تلقَّوْا هاتين السورتين:
سورة الأعلى ذات التسع عشرة آية:
"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى. فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى. سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى. ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى"،
وسورة الليل ذات الإحدى والعشرين آية:
"وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى. وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى. إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى. وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى. فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى. لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى. الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى. إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَلَسَوْفَ يَرْضَى"-
المتفردتين بقَصْرِ فواصل آياتهما كلها!
لربما ندموا من قوافيهم على ما لم يقصروه!
نعم، ولكنهم تمسكوا فيما قصروه بأصلية ألف الروي في كلمتها، وبقيت فواصل القرآن الكريم أوسع مع المقصور ["الْأَعْلَى، فَسَوَّى، فَهَدَى، الْمَرْعَى، أَحْوَى، تَنْسَى، يَخْفَى، يَخْشَى، الْأَشْقَى، يَحْيَى، تَزَكَّى، فَصَلَّى، وَأَبْقَى،وَمُوسَى"، "يَغْشَى، تَجَلَّى، وَاتَّقَى، وَاسْتَغْنَى، تَرَدَّى، لَلْهُدَى، تَلَظَّى، الْأَشْقَى، وَتَوَلَّى، الْأَتْقَى، يَتَزَكَّى، تُجْزَى، الْأَعْلَى،يَرْضَى"]، للمؤنث بالمقصورة الزائدة ["لِلْيُسْرَى، الذِّكْرَى، الدُّنْيَا، الْأُولَى"، "وَالْأُنْثَى، لَشَتَّى، بِالْحُسْنَى، لِلْيُسْرَى،بِالْحُسْنَى، لِلْعُسْرَى، وَالْأُولَى"]، تربأ بنفسها عن أن تشبه غيرها، وتتفلت من أن يشبهها غيرها!
ضَرَبَ الدهرُ ضَرَبانَه، ثم نشأ أبو المقاتل الحُلواني الذي نظم مقصورته ذات التسعين بيتا، في مديح الداعي الحسني بطبرستان سنة 287، مستهلا بقوله:
"قِفَا خَلِيلَيَّ عَلَى تِلْكَ الرُّبَا وَسَائِلَاهَا أَيْنَ هَاتِيكَ الدُّمَى
أَيْنَ اللَّوَاتِي رَبَعَتْ رُبُوعُهَا عَلَيْكَ بِاسْتِخْبَارِهَا تَشْفِي الْجَوَى".
فعارضه أبو بكر بن دريد الذي نظم مقصورته ذات الثلاثة والخمسين ومئتي البيت في مديح ابنَيْ ميكال بالأهواز سنة 294، مستهلا بقوله:
"إِمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ حَاكَى لَوْنُهُ طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى
وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَمْرِ الْغَضَا".
وأَرْبَى عليه بما احتشد له فيها من الإشارات والتنبيهات والأخبار والأحوال والحكم والأمثال والغريب والأساليب، حتى أخمل ذكره، وطار في الآفاق ذكر الدُّرَيْدِيَّة دون الحُلْوَانِيَّة، حتى اشتغلت بها الأجيال فالأجيال، حفظا ومعارضة وتخميسا وتوشيحا وإعرابا وشرحا وترجمة وغير ذلك، تعلقًا بناظمها الحبر الجليل الجهبذ الفذ فنا وعلما، حتى إن معارضيها لَيَتفاخرون بتضمين مقصوراتهم ذكر ذلك!
لقد صار للدريدية من الأثر مثل ما للامية العرب ولامية العجم وبانت سعاد وغيرها، كما قال الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، وصدق- وتميز للمقاصير (القصائد المقصورة) كيان كالذي تميز للمعلقات واللاميات والمدائح النبوية وغيرها؛ فاستحقت أن يعتني بها الباحثون مثلما اعتنوا بهن، وأعجب ما ينبغي أن يذكر في حفزهم إلى ذلك، اقتصار الشعراء في إخراج قوافي مقاصيرهم، على الكلمات المقصورة دون المؤنثة بالمقصورة؛ فإنهم إذا اعتلوا لصنيع ابن دريد بسعة علمه ببنية المقصور، أفلا يدلهم صنيع الجاهليين على ذوق لغوي مطلق، ينافس الرأي العلمي المقيد!
وسوم: العدد 741