في اللِّسان والإنسان!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

282

-1-

إن كثيرًا ممَّا يُباهَى به من ثراء اللغة العربيَّة هو، في الحقيقة، مظهرٌ لفسادٍ لغويٍّ قديم في معظمه، ومصدرٌ لتشعُّب هذه اللغة وشتاتها المزمن والمضلِّل.  ولقد عجز اللغويُّون والنحاةُ في كلِّ العصور عن أن يَصِلوا إلى حلولٍ مُرْضِيَة في بحر العربيَّة اللُّجِّي، أو حتى أن يُحيطوا بأمواجه المتلاطمة، وأن يضبطوا شواطئه، ويرسموا حدوده، على الرغم من إنفاق أعمارهم في هذه السبيل.  ويكفي أن تتابع خلافات النُّحاة واللغويِّين في مختلف العصور، لتعلم أيَّ بلوَى هم فيها، وإنْ كانت بلواهم لا يعلم أبعادها إلَّا الله سبحانه!  وذلك ما لا نظير له في لغةٍ أخرى، قديمة أو حديثة أو مستقبلة.  فكيف الأمر بين سِوَى النُّحاة واللغويِّين من مساكين الناس!  ثمَّ يأتيك من يَظُنُّ أن التوسُّع في العربيَّة، والتماس الرُّخَص التي لا تنتهي فيها، والتجوُّز في تعدُّد الاستعمالات، في مصلحة العربيَّة!  يحسب ذلك من باب التسهيل والتيسير والتوسيع على العرب في استعمال لغتهم.  والحقُّ أنه من باب التمادي في تضييع اللغة- بمفهومها المحكَم، الضامن للتفاهم بين مستعمليها- لتُصبح بذلك التشقيق غير المتناهي قابلةً لتستوعب كلَّ استعمال.  والعربيَّة الموروثة، ببدانتها المفرطة، وترهُّلاتها المتراكمة، ولحمها وشحمها المنداحَين بين السماء والأرض، قادرةٌ في الواقع على ابتلاع ما وردَ عليها، حتى لربما أمكنها ابتلاع لغاتٍ أخرى أيضًا.  لكن أ تلك مزيَّة؟  كلَّا، بل هي تَرِكَتها الثقيلة؛ لا لأجل قِدَمها ورُكامها الموغل في التاريخ فحسب، بل لأنها أيضًا جِماعُ لُغاتٍ كثيرة، كان بينها نَسَب، أو بالأصح بين مستعمليها نَسَب، غير أن بينها في النهاية قَدْرًا- ما كان ينبغي أن يُستهان به- من التضارب والازدواج والتناقض.  

وقد كانت مناهج من دَوَّنوا العربيَّة، بادئ الأمر، وقعَّدوا لها مناهج بدائيَّةً بطبيعة وقتهم وآليَّاتهم وعقليَّاتهم، وكانت إلى ذلك مناهج فضفاضةً جِدًّا، تَرَى حجم الكتاب أهمَّ من قيمته العلميَّة والمنهاجيَّة.  تَدُلُّ على ذلك عنونات كتبهم في ذاتها، مثل: «العباب»، «القاموس»، «المحيط الأعظم»، «محيط المحيط»، وهلمَّ جرًّا.  وهذه البحور والمحيطات أغرقت العقل العربيَّ بطوفاناتها الأبديَّة.  وظلَّ هذا ساريًا في العربيَّة، حائلًا دون انضباطها، وعِلْمِيَّتها، كيف والكلمة فيها قد تعني الشيء ونقيضه في آن؟!  كما تغلَّبت طبيعة العربيَّة الشِّعريَّة العريقة على طموحاتها العِلْمِيَّة الحديثة.  واستمرَّ الخَلَفُ في عبادة السَّلَف، واتخاذهم مُثُلًا عُليا في النظر إلى اللغة والتفكير بشأنها، ورمي من خالف ذلك أو حاد عنه أو ناقشه بالمُروق.   

 -2-

وإذا كنتَ تجِد من يَظُنُّ أن التوسُّع في العربيَّة، والتماس الرُّخَص التي لا تنتهي فيها، والتجوُّز في تعدُّد الاستعمالات، في مصلحة اللغة، فإنه ليأتيك كذلك في العصر الحديث من يحاول إضافة لهجات اليوم على لهجات الأمس، لا للتأصيل، وفهم جذور العربيَّة، ولكن لإضافة ضغثٍ اليوم على إِبَّالة الأمس. 

ولقد راوح الناس في تسميات الدوارج العربيَّة بين نعتها بالعاميَّة، والشعبيَّة، وربما المحكيَّة، ومن ذلك وصف شِعرها بهذه الصفات، ودار الجدل حول أيُّها أصحُّ وأصوب.  وأرى أن أدقَّ اصطلاح كان ينبغي أن يَشتقَّ من تسمية المادة المعنيَّة، وهي «اللهجة» هاهنا، وأن يُطلَق على شِعرها: «الشِّعر اللَّهجي».  إذ لا هو بالشَّعبيِّ، بما تعنيه الكلمة، ولا يُعَدُّ عامِّيًّا، بما تحمله الكلمة من دلالة ثقافيَّة، ولم يَعُد كذلك محكيًّا، بالمعنى التاريخيِّ أو الشفاهيِّ، وإنْ وَرث بعض تلك الخصائص التي يشاركه فيها المستوى الفصيح من اللغة، كما يُسَمَّى.  وإنما هو في زمننا شِعْر لهجةٍ ما، يفهمها مَن يفهمها ويجهلها سائر العرب. 

-3-

وما ألحظه عمومًا في الدراسات حول اللهجات الحديثة: الانطلاق غالبًا من إحدى حالتَين، أو منهما معًا، حالة جهلٍ بالعربيَّة وجذورها أصلًا- وهي حالةٌ تتكئ على مقولات قديمة، كمقولة (أبي عمرو ابن العلاء) حول لغة (حِمْيَر)، وهو يجهل تلك اللغة من موقعه في (البَصْرَة)، وإنما يردِّد ما يُقال، وقد ناقشتُ ذلك في بحثي «لهجات فَيْفاء: جذور العربيَّة»(1)- وحالة أخرى معاصِرة من الاغتراب عن اللغة العربيَّة، والمسارعة إلى الحُكْم على ما لم نألف، ولم نعلم، ولم يوافِق اللغة السائدة الإعلاميَّة، بأنه غير عربيِّ الأصل، أو أنه ربما متأثرٌ بغير العربيَّة؛ حتى إنه لو أُخِذ بهذا المقياس لقيل إن معظم تراثنا القديم هو بلسانٍ غير عربي؛ لأنه بات في معظمه في معزل عن ذاكرتنا الراهنة واستعمالنا ووعينا المعرفيِّ، وقد لا يَفهم كثيرٌ منا كثيرًا منه.

ولو ضربتُ مثالًا بلهجات جبال (فَيْفاء)- التي أعرفها أو أحسب أني كذلك- فإنها، كمعظم اللهجات العربيَّة، ولا سيما في شِبْه الجزيرة العربيَّة، تتكشَّف عن سِجِلٍّ لسانيٍّ عربيٍّ موغلٍ في القِدَم، غابت معظم مادَّته عن كثيرٍ من مدوَّن العربيَّة، الذي اقتُصِر فيه على لهجات وسط الجزيرة المحدودة، وأُهمِل ما عداه.  ولا نَجِد أُصول ذلك السجلِّ أحيانًا إلَّا بالبحث في هوامش من مدوَّن العربيَّة، ونصوصها النادرة، ونقوشها المكتشفة.  أمَّا صعوبة فهم اللهجة عند سماعها، فإنما يُسهِم فيه- إلى جانب العوامل التي سبق الإلماع إليها- عوامل صوتيَّة، وطرائق أدائيَّة، ولكنات محليَّة، لو أُلقِيَتْ بها أكثر النصوص المعاصرة وضوحًا لَبَدَتْ مستغلقةً على الفهم.

-4-

إن اللغة العربيَّة، إذن، تاريخٌ يمتدُّ إلى ما قبل التاريخ.  وفي دراسة ذلك التاريخ أكاديميًّا فوائد لغويَّة وما فوق لغويَّة.  أمَّا حين يكون الهدف الحفاظ على لغةٍ تحفظ الوحدة العربيَّة، والهويَّة القوميَّة، وتَصلح لمقتضيات العِلم والتقنية والصناعات، فلا بُدَّ من غربلة ذلك التاريخ كلِّه لاصطفاء لغة تحقِّق الوصول إلى الهدف، لا أمشاج من تراثٍ ديناصوريٍّ يُبلبل اللسان ويعيق الإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرة «لهجات فَيْفاء: جذور العربية»، للكاتب، (مجلَّة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، مجلد 14،العدد1، المحرّم- ربيع الأوَّل 1433هـ= ديسمبر- فبراير 2012م، ص ص265- 286). أو شاهد المحاضرة على (قناة أ.د/ عبدالله الفَيْفي):

________________________________

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان المقال: «في اللِّسان والإنسان!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأحد 11 نوفمبر 2017، ص18].

وسوم: العدد 747