تجاوز المألوف في كتاب "ملامح من السّرد المعاصر- قراءات في الرّواية"

clip_image002_b96d0.jpg

clip_image004_63155.jpg

أول كتاب نقديّ في الرّواية اطّلعت عليه كان بعنوان "الأدب من الدّاخل" ولم أعد أذكر المؤلّف، فقد أنقضى على هذه القراءة أكثر من ثلاثين عاما، لكن ما زالت عالقة في ذهني الطّريقة الّتي تناول فيها النّاقد الأعمال الرّوائيّة، فقد تحدّث عن روايات بعينها بشكل تفصيليّ، وليس عن مواضيع في الرّواية، ولهذا ما زالت في ذاكرتي رواية "حين تركنا الجسر" لعبد الرّحمن منيف الّتي تناولها النّقد بطريقة مذهلة جعلتها عالقة ومؤثّرة فيّ حتّى أنّ بطلها "زكي النّداوي" أصبح أحد الأسماء الّتي أستخدمها في تشبيهاتي لعدم قدرتها على الفعل الإيجابيّ، فهو يتماثل مع "أبو الخيزران" بطل رواية "رجال في الشّمس" لغسان كنفاني في رمزيّة العقم وعدم الفاعليّة.

وبعدها فتحت أمامي مجموعة كبيرة من كتب النّقد، خاصّة تلك الّتي تتحدّث عن موضوع بعينه، مثل "المرأة في الرّواية العربيّة" "، وعلى هذه الشاكلة، فغالبيّة الأعمال النّقديّة تهتمّ بجزء معيّن من الرّواية على حساب الرّواية كعمل متكامل، وهذا المنهج هو المتّبع عند غالبيّة النّقّاد، فهم يهتمّون بالجزء الّذي يريدون، ويهملون بقيّة العمل الرّوائيّ أو الأدبيّ، ولهذا نجد القارئ لا يأخذ صورة وافية عن الرّوايات أو النّصوص الأدبيّة الّتي يتناولها النّاقد أو النّقد، ومن هنا أصبح الاطّلاع على الأعمال النّقديّة محدودا جدّا ومقتصرا على المهتمّين بتطوير معلوماتهم النّقديّة.

وإذا ما علمنا أنّ الدّراسة النّقديّة تعدّ عملا ابداعيّا موازيا للعمل الأدبيّ، يمكننا أن نتحدّث عن النّقد وأهميّته ليس للكاتب أو للكتاب المنقود فحسب، بل للقارئ المتذوّق للأدب، بمعنى أنّ كتاب النّقد الأدبيّ يمكن أن يُستمتع به كما هو الحال في العمل الأدبيّ، ويمكن أن يقدّم معرفة، ويفتح آفاقا أمام القارئ ليتقدّم من العمل المنقود.

 تكمن أهمّيّة العمل النّقديّ، في فتح آفاق أمام القارئ العاديّ وتقديم الكتاب الأدبيّ بشكل جميل ومكثّف ومختزل، وفي ذات الوقت تعطي القارئ فكرة عامّة عن مكامن الجمال والفنّيّة والتّميّز الّذي جاء به العمل الأدبيّ، وكذلك مواطن الخلل والضّعف فيه.

"فراس حج محمد" يقدّم دراسة عن مجموعة من الرّوايات في كتابه الجديد "ملامح من السّرد المعاصر- قراءات في الرّواية" بطريقة سلسة وناعمة، بحيث نستمع فيما يكتبه عن الرّوايات، وفي ذات الوقت نأخذ أفكارا شاملة عن جماليّة العمل الرّوائيّ، وأيضا يقدّمنا من تلك الرّوايات لنتعرّف عليها أكثر، فهناك أكثر من عشرين رواية عربيّة تناولها النّاقد، وأربع روايات مترجمة، وبكلّ تجرّد كان كتابا مفيدا وجميلا وممتعا؛ فبعض الرّوايات كنت قد قرأتها لكن قراءة "فراس حج محمد" لها فتحت لي أبوابا جديدة، وبشكل أجمل ممّا أخذته أو فهمته منها، كما هو الحال في روايات "نرجس العزلة "لباسم خندقجي" والسّماء قريبة جدّا" لمشهور البطران، وأعتقد أنّه في هذا الكتاب نجح تماما في تأكيد أهمّيّة كتاب النّقد وضرورته للقارئ العاديّ، وهذا الأمر لم يكن ليحصل دون نهج النّاقد السّلس والعميق، وأيضا (المنهج الجديد) ـ إن جاز لنا القول ـ في إخراج كتابة النّقد؛ إذ تناول الرّاوية كاملة، وليس جزءا منها، لهذا نقول إن كتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرّواية" يعدّ عملا إبداعيا يُستمتع به ويستفاد منه.

الكتاب مقسّم إلى أربعة فصول؛ في الفصل الأوّل تناول النّاقد بعض النّظريّات في النّقد وأهمّيّة المداخل النّقديّة، وفي الفصل الثّاني تطرّق إلى عشر روايات فلسطينيّة بالتّحليل والتّفصيل، وهذه الرّوايات هي "أهل الجبل" لإبراهيم جوهر، و"أرواح كليمنجاروا" لإبراهيم نصر الله، و"مسك الكفاية"، و"نرجس العزلة " لباسم خندقجي، و"صيّادون في شارع ضيّق" لجبرا إبراهيم جبرا، و"باط بوط" لرياض بيدس، و"الموتى لا ينتحرون" لسامح خضر، و"النزوج نحو القمر" لعيسى قواسمة، و"المهزلة- وجوه رام الله الغريبة" لمحمد جبعيتي، و"كلام مريم" لمحمود شقير، و"السّماء قريبة جدّا" لمشهور البطران، و"الخنفشاري" لنافذ الرّفاعي، وتعامل النّاقد مع الرّوايات بعين الرّوح النّقديّة، بمعنى أنّه لم يهتمّ باسم الكاتب على حساب النّصّ الرّوائيّ، ولم يأخذ مقولة "أنّ هذا كاتب كبير وهذا أقلّ منه"، بل تعامل مع النّصوص بشكلها الرّوائيّ المجرّد، من هنا وجدنا بعض الرّوايات تأخذ مساحة ومداخل أوسع، لما فيها من بعد فكريّ وجماليّة في السّرد، من هنا  كان "فراس حج محمد" يتوقف عندها ليضيء ما  فيها من جماليّة وأفكار، فمتن النّصّ هو السّيّد، وهو العنصر الأهمّ في فتح الآفاق والرّؤية أمام النّاقد.

في الفصل الثالث تناول النّاقد عشر روايات عربيّة، وهي "الأسود يليق بك" لأحلام مستغانمي، و"طشّاري" لأنعام كجي جي، و"اعترافات" لربيع جابر، و"بطن الحوت" لصونيا عامر، و"موسم الهجرة إلى الشّمال" للطّيّب صالح، و"الظّلّ الأبيض" لعادل خزام، و"رغبات ذاك الخريف" لليلى الأطرش، و"مدائن الأرجوان" لنيبل سليمان، و"واحة اليقين" لهاني أبو انعيم، و"مملكة الفراشة" لواسيني الأعرج.

وفي الفصل الرّابع تناول أربع روايات مترجمة، وهي "آخر أسرار الهيكل"  لبول سوسمان، و"عالم صوفي" لجوستيان غاردر، و"نساء" لهنري شيناسكي، و"الجنس والمدينة" لكانديس بوشنيل، وهناك مدخل إلى ما يعرف بالأدب "الأيروتيكي" الّذي تحدّث فيه عن الأثر وحاجة  الجنس في الأدب بصورة عامّة. وختم الكتاب بملاحق ندوات عقدت في أكثر من مكان حول الفنّ الرّوائيّ ولها اتّصال بالرّوايات أو الموضوعات النّقديّة الواردة في الكتاب.  

هناك بعض الملاحظات على تقسيم جغرافيّة وجنسيّة الكتّاب، فهو تناول "إبراهيم نصر الله" على أنّه فلسطينيّ، وهذا صحيح تماما، بينما تناول "ليلى الأطرش" على أنّها أردنيّة، علما أنّ حالتهما واحدة، بمنعى أنّهما من فلسطين، لكنهما يحملان الجنسيّة الأردنيّة، فكان الأجدر أن يأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار ما دام حدّد جنسيّة وجغرافيّة  الكتاب في الفصول.

 الكتاب من منشورات مكتبة كلّ شيء، حيفا، الطّبعة الأولى، 2017.

وسوم: العدد 750