ألا في الفتنة سقطوا
د. أحمد أبو الهدى
يا سيادة الرئيس بشار الأسد
قبل خطابك الأول؛ انتظرنا طويلاً، وطويلاً جداً، بعد مآتم درعا واللاذقية وبانياس ووو..، لتحدّثنا حديثاً يطمئننا ويريحنا من وساوسنا، ويوضح لنا حقيقة ما جرى في درعا وفي اللاذقية، فنعرف من هم هؤلاء "المندسّون" الذين يتحدث إعلامك ووزراؤك عنهم، فتكشف لنا حقيقتهم وجنسياتهم وأسماءهم وأسماء من دفع لهم وحرّضهم، وانتظرنا أن تشرح لنا كيف وقع إطلاق النار، وكيف قتل هذا العدد الكبير من الناس وأوامرك واضحة بعدم القتل وبعدم إطلاق النار.
وعشية خطابك الثاني انتظرنا أن تخبرنا بأن قانون الطوارئ قد ألغي بدءاً من هذه اللحظة، وأنك قد أوعزت إلى كلّ السجّانين أن يطلقوا مساجينهم، وإلى كلّ المخابرات أن يعتقوا رقاب أسراهم، وإلى كلّ "الشبّيحة" أن يتوقفوا عن إذلال الناس واستعبادهم صباحاً ومساءً، وإلى كل اللصوص الكبار، ولا سيما أخوالك، أن يكفّوا عن الناس أذاهم وأن يخرجوا من سورية إلى بلدان أخرى ليمنحوها هناك أنعمهم وبركاتهم وكراماتهم، وأن يكتفوا بهذا القدر من مئات المليارات التي نهبوها حتى الآن من أفواه الجائعين والمشردين والبائسين من أبناء الشعب في سورية، وأن وأن وأن..
لكنّ شيئاً من هذا لم يتحقق، وعلى العكس كان معظم حديثك، وما يزال، عن "الفتنة" وقد أسهبت في شرحها، كما شرحها وما يزال يشرحها إعلامك ورجالك، وبأنها الفتنة الطائفية، وبأنك سوف تتصدّى لها وللداعين إليها إذا فُرضت عليك معركتها. حسناً، إذن دعنا يا سيادة الرئيس نرفع صوتنا معا لدفع هذه الفتنة الطائفية عن سورية الحبيبة بكل ما استطعنا من قوة:
دعنا إذن نقول لكلّ فردٍ من الأقلية العلوية في سورية إذا أهان فرداً من الأكثرية السنّية أو شتمه أو ضربه، ومن غير أن يجرؤ السنيّ على الردّ ولو بكلمة واحدة، دعنا نقول له: ليس من حقك أن تهينه لمجرد أنك علوي وأنه سنّي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا نقول لكل لعلوي اضطهد سنياً وأكل حقوقه غير آبه بالقانون ولا بأحكام الشرع ولا بأحكام المحاكم: ليس من حقك أن تعتدي على حقوقه لمجرد أنك علوي وأنه سنّي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا تقول لكل علوي آثر علويا مثله على سنّي في تعيين عامل أو موظف أو مدير أو ضابط: ليس من حقك أن تفضّل العلوي على السنّي لمجرد أنه علوي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا نقول لكل علويّ أصرّ على أن يفرض نفسه شريكاً للسنّي في أي مشروع تجاري أو صناعي يقوم به هذا الأخير، وأن يكون له فيه نصيب الأسد: ليس من حقك أن تفرض نفسك عليه أو تحرمه من ثمرة مجهوده الشخصي ومحاولته لتطوير وإنماء الاقتصاد الوطني، فقط لأنك علوي وهو سنّي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا نقول لكل علوي فرض إتاوةً على أي مشروع تجاري أو صناعي يحاول أن يقيمه سنّي: ليس من حقك أن تفرض عليه هذا لأنك علوي ولأنه سنّي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا نقول لأي علوي سرق أرضا من سنّي وحرمه من حقوقه المشروعة فيها، غير آبه بعرفٍ أو قانونٍ أو شرع: ليس من حقك أن تحرمه من حقوقه فقط لأنك علوي ولأنه سنّي، فنحن ضد الطائفية،
ودعنا نقول للعلوي إذا كان قاضيا، أو إذا اشترى قاضيا، فحَكَم للعلوي ظلماً ضدّ السنّي: لا تفعل هذا فنحن ضد الطائفية،
ودعنا ودعنا ودعنا...
أية فتنة تتحدّث عنها يا سيادة الرئيس؟
أئذا سكتنا عن كل هذه الجرائم الطائفية التي ترتكب تحت مظلتك في كل يوم وفي كل ساعة، في كل بلد وفي كل قرية من قرى ومدن سورية، وفي وضح النهار، نكون مخلصين ووطنيين، وإذا اعترضنا وطالبنا بالمساواة بين أبناء وطننا، أقليتهم وأكثريتهم، نكون دعاة إلى الفتنة؟
أي فتنة تتحدث عنها يا سيادة الرئيس؟
لقد بدأت الفتنة يوم أخذت الأقلية العلوية في سوريا كل شيء، ولم يتركوا لغيرهم أي شيء، والويل لمن يقول: لا يا جماعة، لا تجعلوها طائفية،
لقد بدأت الفتنة يوم أهانت الأقلية العلوية في سوريا المسلمةِ كل مظاهر الإسلام ومقدساته: القرآنَ والرسول والصحابة والمسجد والحجاب والمصلين، وأعلنوها طائفيةً علوية، هكذا بكل بجاحة ووقاحة، وكأنهم هم الأكثرية في الوطن والباقي جراثيم أو قطعان من الغنم، والويل لمن يقول: ليس هكذا يا جماعة، لا تثيروها طائفية،
لقد بدأت الفتنة يوم بدأ بضعة أشخاص من أقارب الرئيس، العلويين، بامتصاص دماء الشعب السوري والاستئثار بكل أرباح البترول والغاز والاتصالات والمشروعات الكبرى، وملء جيوبهم وحساباتهم بالمليارات وكأن الوطن قد غدا مزرعة لهم، والويل لمن يقول: يا جماعة أنتم هكذا تثيرونها طائفية،
لقد بدأت الفتنة يوم بدأت الدولة تعاقب بائع الخضار الفقير، وبائع الفلافل، والموظف الصغير، والعامل البسيط على مخالفات بسيطة، ثم تترك الجرائم الكبرى، والسرقات بالمليارات بلا حساب ولا عقاب، فقط لأن اللصوص الكبار هم من أتباع الطائفة العلوية ومحسوبون على أسرة السيد الرئيس، والويل لمن يقول: يا جماعة أنتم هكذا تديرونها طائفية...
ثمّ إنك تتحدث في خطابك الأول عن وجود "بعض الفاسدين" في سورية وتقول إنهم "معروفون بالاسم". عجبا يا سيادة الرئيس، إنك أول رئيس في التاريخ، قديمه وحديثه، يعلن أمام شعبه وعلى الملأ، بل في مجلس نوابه – أيّ مجلس للمهرّجين والمنافقين هذا المجلس – أن في الدولة فاسدين، وأنه يعرف بالاسم من هم هؤلاء الفاسدون، ثم يخرج من المجلس من غير أن يصدر الأمر بتوقيفهم، بل من غير أن يعدنا أبداً بمحاسبتهم وإحالتهم إلى القضاء، لا عاجلاً ولا آجلاً؟
قانونياً وأخلاقياً وشرعياً وعقلياً؛ كيف نفسر هذه المعادلة العجيبة؟
فإمّا أن السيد الرئيس أضعف من أن يكون قادراً على معاقبة هؤلاء اللصوص الكبار لأنهم أقوى منه بكثير، وإذن فأي بلد مسكين يحكمه مثل هذا الرئيس المسكين، وأية مافيا تتحكم، من وراء هذا الرئيس، بمصائر شعبه وتمتص دماءه وكرامته ومستقبله،
وإمّا أنه قادر على معاقبتهم ولكنه ساكت عنهم رغم أنف الكبير والصغير لأنهم من طائفته وعائلته، وإذن فأيّة مصيبةٍ حلت ببلدنا الحبيب بعد هذه المصيبة، وأية طائفية نعيشها أقبح من هذه الطائفية،
وإمّا أنه شريكٌ لهم في المسروقات، ونحن نربأ بك يا سيادة الرئيس أن تصل إلى هذا الدرك الأسفل من الرؤساء الذين علمت لتوّك كيف كانت مصائرهم على يد شعوبهم.
أي فتنة تتحدث عنها ياسيادة الرئيس ونحن نرى الفتنة متمثّلةً في منصبك، وهو منصب لم تنله إلا لأنك علوي، ونرى الفتنة وأنت تتحدث تحت قبة مجلس قيل إنه مجلسٌ للنواب، ولكن لا كلمة ولا رأي فيه إلا لعلوي، ونرى الفتنة وأنت تقيل وزارة وتشكّل أخرى من غير أن يمتلك وزير، لا في الوزارة القديمة ولا في الجديدة، أية صلاحية أو قدرة على اتخاذ قرار إذا لم يكن يحمل في جيبه شهادة علوي، ونرى الفتنة وأنت تحتمي بالعديد من أجهزة مخابراتك التي لا يكاد يعمل فيها أو يشرف عليها أو يمارس فيها تعذيب الآدميين وقتلهم وإذلالهم وتجريدهم من آدميتهم إلا علوي؟
العالم العربي بدوله الاثنتين والعشرين لم يعرف نظاماً طائفيا قط إلا في لبنان، فهو البلد الوحيد الذي يقوم نظامه على أساس توزيع المناصب الأساسية في الدولة بين الطوائف بالتساوي، وهو بهذا نظام عادل ومعقول ومقبول، ولكن سورية هي أول بلد في العالم العربي وفي الشرق الأوسط، بل في العالم كله، يقوم على أساس طائفي، ولكن بمعنى مختلف تماماً عن لبنان، وهو أن تملك طائفة واحدة لا تتجاوز 10% من مجموع سكان البلد، بل بالأحرى شريحة صغيرة واحدة من هذه الطائفة، كل شيء في هذا البلد، كل شيء من غير استثناء، ثم لا تترك للـ 90% الآخرين أي شيء، لا شيء على الإطلاق، وليس هذا فحسب، بل تمارس عليهم إرهاباً واستعباداً وإذلالاً لم يعرفه تاريخ شعوب العالم كله، قديمه وحديثه.
إذا كنا نسمي لبنان بلداً طائفيا، فماذا يمكن أن نسمي سورية تحت هذا النظام الفريد؟ بلداً طائفيا أيضاً؟ لا، فهذا ظلم لبلد كلبنان، وللنظام الطائفي الديموقراطي والعادل والمقبول فيه، إن نظام لبنان بهذا المعنى هو نظام (طوائفي) – هكذا بالجمع – أما النظام في سورية فنظام (طائفي) – هكذا بالمفرد – وبالمعنى الحرفي البغيض لهذه الكلمة. ولأن النظام يدرك تماماً هذه الحقيقة، ولشعوره أن هذه الصفة تتلبّسه من قمة رأسه إلى أسفل قدميه، تراه كلّما هتف المحتجّون في وجهه: لا طائفية، بل حتى قبل أن يلفظوا العبارة كاملة فلم يقولوا إلا: لا طا.. كان الردّ حالاً وباستمرار: إذن أنتم طائفيون..
وبعد كل هذا يا سيادة الرئيس تقول مشيراً لشعبك بإصبع الاتهام: إنها فتنة طائفية!!..
ألا في الفتنة الطائفية سقطت، وعلى فراشها ولدت، وعلى ظهرها ارتفعت، وعلى مائدتها أكلت وشربت، وفيها ذليلاً تحيا وفيها ذليلاً تموت..