قدوةٌ وجامعةٌ للمكارم
قدوةٌ وجامعةٌ للمكارم
د.محمد إياد العكاري
التقيته قبل ماينيف عن ربع قرنٍ من الزمان رجلاً فاضلاً، وشيخاً وقوراً، وأديباً أريباً،لم تتغير ملامحه الدقيقة وتألق محياه عليَّ مذ عرفته ، سليل أسرةٍ عريقةِ الأصل،كريمة المحتد،حازت العلم والدين ، وجمعت الأخلاق والفضل ،
ترك لقاءه في قلبي حينها أعمق الأثر، وقرأت في نبض محيَّاه الكثير الكثير ،كنت حينئذٍ أعمل مع الحرس الوطني السعودي زاده الله قوةً ومنعةً، ولم أكن أعلم ماستخبِّئ لي الأقدار بعد ذلك مع هذا الشيخ الجليل ... ؟!.
وتمر الأيام مسرعةً بي لتحملني على مطاياها في رحلةٍ جميلةٍ لي في الأحساء التي استوطنتني بلدةً طيبةً، ومعشراً كراماً، وأحبةً أوفياء .
أجل أحببتها وسكنت قلبي وفؤادي، و ألفتها واستوطنت مهجتي وروحي، كانت لي فيها قصصٌ وحكاياتٌ مع الكثير من أدبائها وشعرائها، وتوطدت لي علاقاتٌ و علاقاتٌ مع العديد من علمائها ورجالاتها،لأرجع بذاكرتي لأكثرمن عقدين من الزمان حيث اخترت هذا الشيخ الجليل ليكون كفيلاً لي بعد صدور ترخيص عيادةٍ خاصةٍ لي في الاحساء بفضل الله، وكان اختياره من توفيق الله سبحانه وتعالى لي .
إنه هو هو الذي وافته المنية وانتقل الى رحمة الله تعالى يوم الإثنين 26/4/1433هـ الموافق 19/3/2012م ،إنه الشيخ محمد عبداللطيف آل الشيخ مبارك رحمه الله تعالى ،وأسكنه فسيح جناته ،وما أظنه الآن إلا يرفل في روضةٍ من رياض الجنة في قبره، فهذا حال المؤمن والرجل الصالح ،ولا نزكي على الله أحداً, و لكن نشهد والله بما علمناه عنه، ومارأيناه من افعاله وأعماله وقد شهد له القاصي والداني قبل ذلك، وشيَّعه هذا الحشد الهائل من أهالي الأحساء ومحبيه من شتى البقاع والناس شهود الله في أرضه،وألسنة الخلق أقلام الحق، لأبدأ قصتي العملية معه ولقائي له قبل أكثر من عشرين سنة حيث ذهبت إليه وبادرته قائلا بحضور نجله النجيب والأخ الحبيب الدكتور قيس محمد عبداللطيف ال الشيخ مبارك حفظه الله حيث قلت له : سأكون تحت كفالتكم فما هي الالتزامات الأدبية من قبلي تجاهكم لقاء هذه الكفالة وقصدت طبعاً الالتزامات المادية..قلت ذلك بكل صراحةٍ ووضوح ابتداءً لأنهما أساس نجاح أي عملٍ مشترك، فأجابني مبتسماً بلغة المطمئن الواثق : دكتور حنا عندنا خير وحلال ونحن لا نأكل الحرام.
وكأني به يعيش في حنايا وروح حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما طلب منه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص الدعاء له بأن يكون مجاب الدعوة فأجابه صلى الله عليه وسلم معلماً إياه والأمة كلها كيف يكون المرء مجاب الدعوة بقوله:
"يا سعد أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة " أخرجه الطبراني في الأوسط
هو ماكان حريصاً عليه الحلال الطيب ،واللقمة الحلال رحمه الله تعالى فكان أن نمت شجرة علاقتنا ومحبتنا وازهرت أغصانها وتفرَّعت لتثمر صروحاً طيبةً مميَّزةً تؤدي خدماتٍ جُلَّى في المجالات الطبية المختلفة .
أجل تعاملت معه بالدرهم والدنيار، وعرفت واستكشفت معدن هذا الرجل الذي قلَّ نظيره ،ولا أقول والله الا ما علمته عنه ،ولمسته فيه عن قرب، أذكر أني قبل عامين ذهبت إليه لأحدثه عن وضع مجموعة قلائد الدر التي أسسناها سوياً وعن تطورها ونجاحها بفضل الله تعالى ففوجئت به يقول لي: دكتور نحنا شفنا الخير بوجهك
فعجبت والله من قوله ،وذهلت منه لأن هذا الجواب هو جواب أهل الفضل والمروءة الذين لا يريدون أن ينسبوا لأنفسهم شيئاً تواضعاً ورفعةً واحتساباً والحقيقة التي هي كعين الشمس في رابعة النهار أني أنا الذي رأيت الخيروالفضل في وجه هذا الشيخ الفاضل رحمه الله وفي وجوه آل الشيخ مبارك حفظهم الله تعالى ورفع قدرهم في الدارين وبارك بهم وبذراريهم الى يوم الدين
كان رحمه الله ذا قلبٍ نديٍ، لسانه رطب دائماً بذكر الله تترقرق عيناه عند أي موعظة ،وتتندَّى روحه بذكر الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، تفتقده الآن والله زوايا مسجد آل المبارك وبخاصةٍالجنوبية الغربية وتحن إليه لأنه كان يعمرها بصلواته وتلاواته، ويلهج فيها بدعائه وأذكاره حتى لكأنه المقصود بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عند حديثه عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل الا ظله بقوله في روايةٍ لمسلم:
"ورجلٌ قلبه معلَّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود اليه "
وأعلم يقيناً أنَّ يداه مبسوطتان للخير ,ممدودتان للبر،نديتان بالمعروف ،سخيتان ببناء المساجد رحمه الله تعالى
كان عظيم المقام ،ذا هيبةٍ ووقار ،بسيطاً في تعامله ، كبيراً في أعماله ،صريحاً لايحب المجاملة، تميزت علاقتي به وكانت متألقة على الدوام لأنها بنيت على الثقة والاحترام ،ووطدت بالعدل والميزان ،وتألَّقت بالتعاون والإحسان .
كان محباً للشام الأرض التي باركها الله في عليائه ،وكانت تنفرج أساريره بذكرها ليتحدث عن ذكرياته فيها ويقول شام ياشام.... وكان من عادته زيارتها سنوياً لعدة عقودٍ خلت.
في يوم وفاته كنت عازماً على زيارته في المستشفى وقلت لزوجتي ذلك، ففوجئت برسالة نجله الدكتور قيس يبلغني بوفاته وانتقاله إلى رحمة الله فأرسلت له برسالة قلت فيها:
رحمه الله وأحسن إليه فقد كان مؤمناً ،برَّاً،محسناً،سباقاً إلى الخيرات،وقدم إلى ربٍ كريمٍ عفوٍ غفور،والله يتولى الصالحين عظَّم الله أجركم وإنا لله وإنا إليه راجعون
لأقول في الختام مانقل عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:
أعقل الناس من ترك الدُّنيا قبل أن تتركه،وأنار قبره قبل أن يسكنه ،وأرضى ربه قبل أن يلقاه،وصلى الجماعة قبل أن تُصلي الجماعة عليه،وحاسب نفسه قبل أن تُحاسبه
وما أروعها من عظةٍ وموعظة لأقول والله لاأجد فيما قاله الإمام الشافعي إلا مسكوباً على شيخنا الفاضل صاحب هذا المقال رحمه الله وأحسن وفادته وجمعنا وإياه في مستقر رحمته والحمد لله رب العالمين.