ذكريات عن أستاذي الشيخ عبد الرحمان شيبان
ذكريات عن أستاذي الشيخ
عبد الرحمان شيبان
د. مولود عويمر
اكتشفت أول مرة اسم الشيخ عبد الرحمان شيبان وأنا أتصفح كتاب الأدب العربي المقرر علينا في الدراسة الثانوية. وكنت ملصقا بهذا الكتاب الذي أشرف على إنجازه الأستاذ شيبان المفتش العام في وزارة التربية آنذاك. وكان الكتاب ذخيرة في الأدب العربي من شعر ونثر.
ومنذ تلك الفترة أتابع نشاطه خاصة بعد أن أصبح وزيرا للشؤون الدينية في بداية الثمانينات من خلال جريدة العصر الأسبوعية التي أنشأها لخدمة الثقافة العربية والإسلامية.
وشاءت الأقدار أن تصدر جريدة البصائر من جديد في ماي 2000 بفضل جهود الشيخ شيبان، فكنت أقرأها بنهم وأحرص دوما على قراءتها على الرغم من صعوبة الحصول عليها في فرنسا التي كنت مقيما فيها آنذاك. ثم بدأت أراسلها من باريس بمقالات ومتابعات النشاطات الثقافية المتصلة بالإسلام والمسلمين. وراسلني مرة ليشكرني على هذه المقالات وأصر على أن أرسل له صورتي ليضمها مقالي.
ولم تسمح لي الظروف أن ألتقي به شخصيا إلا في عام 2001 بمناسبة انعقاد ملتقى دولي عن " الإسلام والغرب" بفندق الأوراسي من تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى.
وقد ألقيت بهذه المناسبة مداخلة بعنوان: " ما هو الغرب؟". وبعدما نزلت من المنصة ووقفت مع مستشرق بريطاني شارك هو أيضا في هذا الملتقى، تقدم منا الشيخ شيبان وسلم علينا، وقال لي لقد أمتعتنا بمحاضرتك، ودعا لي بالخير.
وأخذ لنا مصطفى كروش بهذه المناسبة صورة تذكارية وهي مرفقة بهذا المقال. ومنذ هذا اللقاء توطدت العلاقات بيننا، وكنت أحرص كل مرة أزور الجزائر أن أتصل به لكي أستفيد من علمه الغزير وتجربته العميقة وتوجيهاته الرشيدة.
وعندما شاءت الأقدار أن أعود إلى البلد بعد اثني عشر سنة من الغربة، واستقر بها نهائيا، تعاونت مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يترأسها دون أن أكون عضوا فيها. وكان يصر في كل مرة أن انخرط في هذه الجمعية فهو يرى وذلك من حسن ظنه في هذا العبد الفقير أنني من أبر الناس لها ومن أكثرهم وعيا برسالتها.
وبقيت شهورا مترددا لأنني كنت غيورا على حريتي واستقلاليتي. وكنت دائما أخاف من الالتزام العضوي الذي اعتبره عائقا للإبداع والتفكير الحر. وبقيت على هذا الرأي وهو محترم لموقفي.
لم يغضب علي، بل كان يشجعني على المساهمة في الحراك الثقافي ويحرص قدر الإمكان على حضور محاضراتي والتعقيب عليها سواء في المجلس الإسلامي الأعلى، أو المجلس الأعلى للغة العربية أو بالخصوص في المركز الثقافي الإسلامي الكائن في شارع علي بومنجل...
وأكثر من ذلك، كان يوجهني ويرشدني، فلما سمع أنني بصدد تحضير محاضرة عن دور جمعية العلماء في الثورة التحريرية، اتصل بي بالهاتف، وقال أنه يملك بعض الوثائق، وفي الغد أرسلها لي إلى الجامعة عن طريق سائقه الخاص.
كما كان يشجعني كثيرا على الكتابة حتى أنه مرة قال لي لماذا انقطعت عن البصائر، فاقترح علي مبلغا ماليا مقابل 4 مقالات في الشهر. وأجبته أنني أحتسب ما أكتبه عند الله واعتبره قضاء لدين تجاه الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
لكن حادثة وقعت في مجلس الشيخ شيبان غيرت تماما موقفي السابق، وكان ذلك بمناسبة تكريمه في مدينة باتنة، فقد حرص على أن أكون ضمن الوفد الذي يرافقه. فنبهه أحد الحاضرين أنني لست عضوا في جمعية العلماء، فغضب الشيخ وضرب بيده على الطاولة وقال: الدكتور عويمر ابن الجمعية وهو عندي أفضل من 50 شعبة !
لقد مثل هذا الحدث منعطفا في علاقتي مع الشيخ شيبان وحافزا قويا للانضمام إلى جمعية العلماء، وأصبح جنديا من جنودها في خدمة الإسلام واللغة العربية والجزائر.
وفي عام 2008، اتصل بي أستاذي الشيخ شيبان وأنا جالس في مكتبي بالبيت، وقال لي أنه بصدد وضع لمسات الأخيرة لقائمة أعضاء المكتب الوطني وأنه رشحني عضوا فيه.
وحاولت جاهدا أن اعتذر عن ذلك لأنني أريد أن أتفرغ تماما للبحث العلمي، ولا أحب أن يشغلني عنه شيء آخر، إلا أنه أصر وألح وقال لي في الأخير أنه فصل في الموضوع، واختارني للعمل إلى جنبه كمسؤول عن التراث والبحث العلمي.
واكتشفت من خلال مجالستي له قدرته الكبيرة على التحليل السياسي وتفتحه على ثقافات العالم. كما فاجأني تضلعه في اللغة الفرنسية، فمرة رافقته لحضور الندوة الشهرية التي نظمتها جريدة الوطن في فندق ميركور عن التاريخ والهوية شارك فيها نخبة من المؤرخين الجزائريين وعلى رأسهم الأستاذ محمد حربي.
قال لي أستاذي الكبير قبل الندوة: أريدك أن تجلس بجانبي لتترجم لي ما سيقوله المحاضرون، فقلت له بأن هنالك ترجمة فورية وناديت في الحين موزع الخوذات وأخذت منه خوذة واحدة وسلمتها للشيخ، فقال لي: إنني أفهم جيدا اللغة الفرنسية ولكنني أريد منك أن تترجم لي ما وراء الألفاظ والمقصد العميق لأنني مدرك جيدا أن حديثهم سيتضمن أفكارا ملتبسة لا يفهمها إلا من يستقي من نفس القاموس.
وكان يعلق من حين لآخر على كلام المحاضرين أدركت حينئذ أن الشيخ حقا كيس فطن وخبير بأسرار لغة فولتير.
ولم يمنعه المرض في السنوات الأخيرة من متابعة النشاط الثقافي في الجزائر، ومطالعة الجرائد والمجلات المختلفة. وتحدث معي مرة عن إعجابه بمقال كتبته عن "الجزائر من خلال مجلة حضارة الإسلام" السورية في 4 حلقات، وسألني عن مكان وجود هذه المجلة ليطلع عليها.
كما رحب كثيرا بمقال آخر كتبته في 3 حلقات عن " السياسة عند الإمامين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي". وكنت أعتز كل مرة بتقديره وتشجيعه لشاب مثلي في بداية الطريق.
لقد كان الشيخ شيبان بقامته العلمية ومكانته المرموقة وحياته العامرة متواضعا معي ومع أبسط العمال في مركز جمعية العلماء، فكان الجميع يعتبره والده الثاني الحنين على أولاده، والحريص على سعادتهم وقضاء حوائجهم.
ولاشك أن الجميع سيشعر لوقت طويل بالفراغ الكبير الذي تركه من ورائه. فرحم الله أستاذنا الجليل الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه مع الأبرار.