رسائل من أحمد الجدع ( 55 )
رسائل من أحمد الجدع ( 55 )
أحمد الجدع
إلى الشاعر : كثير بن عبد الرحمن الخزاعي .
لا يعرف أحد يوم مولدك ولا السنة التي ولدت فيها ، ولكن المؤرخين مجمعون على أنك مت عام 105هـ في خلافة يزيد بن عبد الملك الأموي .
إذن أنت واحد من شعراء بني أمية .
اختلفوا في اسمك فقالوا إنك كثير (على وزن عظيم) ثم قالوا إن اسمك كُثيِّر (بالتصغير) ولعلهم سموك كثيراً مكبَّراً ثم صغروه على التحبب ، فلا خلاف .
في حياتك عدة قضايا .
أولها : فيما شهرت به فبعضهم قال إنك شهرت بابن أبي جمعة ، وجمعة أمك وهي خزاعية مثلك ، وكان جدك لأمك ينادونه بأبي جمعة ، فنسبت إليه .
وقالوا إنك شهرت بكنيتك ، وكانت كنيتك أبا صخر .
أما الأشهر من هذا وذاك فهو نسبتك إلى من أحببتها : عزة بنت حُميل من بني حاجب بن غفار ، وغفار إحدى قبائل كنانة ، ولهذا كان يقال لها عزة الحاجبية ، وأحياناً عزة الكنانية ، وأشهرك هذا الحب حتى نسبت إليه ، فقيل لك كثير عزة !
وثانيها : تلمذتك لجميل بن معمر العذري ، وكنت مقراً بأنه أستاذك ، وأن أثره في شعرك واضح ، وكنت تقدمه على الشعراء جميعاً ، وقد اتهمك الناقدون والدارسون بأنك كنت تستلب شعره وتدعيه ، ولإعجابك به أحببت كما أحب ، أحب بثينة ونسب إليها ، وأحببت عزة ونسبت إليها .
وثالثها : انتسابك لفرقة شيعية تدعى الكيسانية ، رأسها محمد بن علي بن أبي طالب المنسوب إلى أمه من بني حنيفة ، لهذا اشتهر بمحمد بن الحنفية ، وكنت تعتقد بأن محمد بن الحنفية قد اختفى في جبل رضوى وأنه سوف يعود ويملأ الأرض عدلاً ، ولك في ذلك أبيات مشهورة .
ورابعها : مدحك المستفيض لبني أمية رغم شيعيتك ، فقد مدحت عبد الملك بن مروان وأخاه عبد العزيز بن مروان ، وولده عمر بن عبد العزيز الراشد الخامس ، ويزيد بن عبد الملك .
وخامسها : ادعاؤك العجيب بنقل نسب خزاعة إلى قريش عندما قلت أن خزاعة تنتمي إلى الصلت بن النضر ، ولم يوافقك الخزاعيون على ذلك .
وسادسها : حبك لعزة الحاجبية الكنانية ، واشتهار هذا الحب ، وإنشادك لعشرات القصائد في حبها حتى عدّك الدارسون لهذا اللون من الحب بأنك واحد من أشهر شعراء الحب العذري : قيس وجميل ...
أما هذه الرسالة فإنها ستعالج أمراً آخر غير ما مرّ من شؤونك ، إنها ستعالج ريادتك لما عرف بالشعر العربي بلزوم ما لا يلزم أو اللزوميات ، وإذا ذكرت اللزوميات قفز إلى أذهان الناس لزوميات أبي العلاء المعري .
أول قصيدة طالعتنا بلزوم ما لا يلزم هي قصيدتك التائية المشهورة الرائعة التي بدأتها بهذه الأبيات :
خليليَّ هذا ربع
عزة فاعقلا |
|
قلوصيكما
ثم ابكيا حيث حلت |
ولك تائية أخرى التزمت في معظم أبياتها حرف الميم المشدّدة قبل التاء وفي أبياتها الأخرى حرف الراء المشدّدة قبل التاء ، وهي في رثاء عبد العزيز بن مروان والي بني أمية على مصر ، وهو والد الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز ، والتي بدأتها بهذه الأبيات :
أأطلال دارٍ بالنباع فحمت |
|
سألتُ ، فلما استعجمت ثم صُمت |
ومن الأبيات التي التزمت فيها الراء المشدّدة قبل التاء :
هو المرء لا يبدي أسىً عن مصيبة |
|
ولا فرحاً يوماً إذا النفس سُرَّت |
وهذه دون الأولى جمالاً وروعة ، والذي يعنينا فيها الآن هو دخولها في باب لزوم ما لا يلزم .
فأنت قد التزمت في الأولى اللام المشدّدة قبل حرف الروي (وهو التاء) ، وكان يكفيك روياً هذه التاء الجميلة في آخر كل بيت .
ويبدو أن أبا العلاء المعري عندما اطلع على قصيدتك بعد أكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة ([1]) قد راقه ما فعلت ، فأحب أن يسلك هذا المسلك ، فسلكه وبالغ فيه مبالغة مسرفة .
يقول أبو العلاء المعري في مقدمة ديوانه "لزوم ما لا يلزم" ([2]) :
وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف : الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها والثانية أنه يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك ، والثالثة أنه لزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم مع ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف ، ولو أن قائلاً نظم قوافي على مثل مشوق ووسوق ولم يأت بالياء لكان قد لزم ما لا يلزم لأن العادة في مثل هذا المبنى أن تشترك فيه الواو والياء ، وكذلك لو لزم الياء وحدها في مثل قطين ومعين ، وليس في هذا من هذا النحو إلا شيء يسير .
أقول وأنت ترى يا أبا صخر أن المعري أسرف في التكلف إسرافاً شديداً بما قيد به نفسه ، وكان وكده أن يُدل بمقدرته اللغوية والعروضية ، فجاء بنظم كثير لا يدخل في باب الشعر منه إلا النزر اليسير ، أما أنت فقد جئت بقصيدتين ، الثانية منهما نوعت في الالتزام بحرفين هما الميم والراء لأنك كنت تجري على سجيتك ، وكانت الأبيات تتدفق بفطرتك ، وأما الأولى منهما فإنها وصلت إلى الروعة ، وعدت من روائع القصائد ، ولم تكن وأنت تبدعها قد عرفت لزوم ما لا يلزم ولا تكلفته ، ولو تكلفت لنزلت بفنية القصيدة كما نزل من بعدك أبو العلاء .
استمع إلى أبي العلاء ما يقول ([3]) :
" وهذا حين أبدأ بترتيب النظم وهو مئة وثلاثة عشر فصلاً ، لكل حرف أربعة فصول وهي على حسب حالات الروي من ضم وفتح وكسر وسكون ، وربما جئت في الفصل بالقطعة الواحدة أو القطعتين ليكون قضاء حق التأليف ، وبالله التوفيق " .
لا قيمة لهذا الجهد الجبار ، وهو لا يضيف للشعر العربي شيئاً ، وإنما هو نظم عالم باللغة ، أضاع وقته فيما لا يلزم بنظم ما لا يلزم .
قيل أن رجلاً حضر مجلس الرشيد ، وقال له : يا أمير المؤمنين إنني أستطيع أن أضع إبرة في صدر هذا المجلس ، ثم أُلقي بإبرة أخرى تأتي في عين الأولى ، وهكذا حتى تقول كفّ .
فأمره الرشيد أن يفعل ، فأخذ يرمي بالإبرة تلو الأخرى فتقع الأولى في عين الأخرى حتى قال له الرشيد كف .
ثم أمر الرشيد أن يصرف له ألف درهم على مهارته ، وأن يجلد مئة جلدة لأنه أضاع وقته فيما لا فائدة منه !
وحتى نميز بين الشعر والنظم أقدم أبياتاً من شعرك (لا زال خطابنا لكثير) وأخرى من نظم المعري في لزوم ما لا يلزم .
قلت في تائيتك ([4]) :
كأني أنادي صخرة حين أعرضت |
|
من الصُّم لو تمشي بها العُصم زلَّتِ |
وفيما يلي أول قصيدة في لزوميات المعري ، اخترتها لأنها الأولى التي بدأ فيها والنفس مقبلة والنشاط متوافر ، ولكن النظر إلى مأربه في التزام ما لا يلزم صرفه عن الإبداع ولم شتات المعاني ، ودفعه إلى ترك ما يجب إلى التزام ما لا يجب ([5]) :
أولو الفضل في أوطانهم غرباء |
|
تشذُّ وتنأى عنهم القرباءُ |
فهذه الأبيات الخمسة من القصيدة الأولى من اللزوميات ، كلها أبيات مفككة ، لا صلة للأول بالتالي ، وكأن المعري اختار الكلمات للقافية ثم نظم ، وهذا تكلف ممقوت لا صلة له بالشعر ، وهو نظم محض غايته العظمى إثبات المقدرة اللغوية والعروضية .
أبا صخر ، كثير بن عبد الرحمن الخزاعي ، صاحب عزة الحاجبية ، أنت باقر ما يعرف باللزوميات ، ربما دون أن تقصد لذلك قصداً .
لك التحية ، ورحمك الله ، ورحمنا معك .
([1]) ولد المعري سنة 363هـ وتوفي سنة 449هـ .
([2]) لزوم ما لا يلزم ج1 ص30 ، دار بيروت للطباعة والنشر .
([3]) لزوم ما لا يلزم ج1 ص39 .
([4]) ديوان كثير عزة ص99-100 .
([5]) لزوم ما لا يلزم ج1 ص41 .