ردٌّ على مقالة نقدية
"عالم الديار الشامية الشيخ بدر الدين الحسني"
رحمه الله تعالى
د. حسن الربابعة
قسم اللغة العربية
جامعة مؤتة
التي كتبها الأستاذ الجليل محمد فاروق الإمام المنشورة على صفحات رابطة أدباء الشام يوم 29/7/2010م باب تراجم
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم على آله الأطهار وصحبه الأخيار ، عدد ما مضى أو سيمضي من ثواني وثوالث الليل والنهار وبعد،
فاشكر للأستاذ محمد فاروق الإمام على ترجمته للعالم الفذ الشيخ العالم،بل عالم الديار الشامية محمد بدر الدين "لقبه"الحسني تغمده الله بنور رحمته، وأنزل عليه شآيبيها إلى يوم نلقاه جميعا،انه السميع المجيب، فقد فتح بابا لترجمة العلماء والنابهين في كل قرن، أو نصف قرن، وان كان مثل هذا سبقه في ترجمته الشيخ الفاضل عبد الله الطنطاوي قبل فترة في ترجمته، وترجمة غيره ،وإذا كان لكل مجتهد نصيب فأجرهما بإذن الله على الله يزيد، ونأمل أن يتم ترجمة الأعلام في شتى الموضوعات العلمية من جهة، ومن أخرى ندرج مؤلفاتهم مخطوطة فيسعى لتحقبقها ونشرها للإفادة من مصنفاتهم والإشادة بما في الصالح منها، لانَّ كتم العلم على مقدرة في نشرة مظلمة للعلم والعلماء، وما بغير العلوم تنهض أي أمة، وان نهضت بغير علم فنهضتها ضعيفة غير كافية ، فرسالة الإسلام "اقرأ"وتصاقبها " ارق وفي حديث الرسول الكريم الذي أنزلت عليه آية اقرأ"تعني افهم "وفي حديثه يحض على قراءة القران الكريم، وقد يعمَّم معه كل العلوم "اقرأ وارق فأنت عند آخر آية قرأت"فقد ترك الشيخ بدر الدين نحو أربعين كتابا أدرج خير الدين الزر كلي في (الأعلام ج7/158159)عددا منها "الدرر البهية في شرح المنظومة البيقونية "في خزانة الرباط(1295كتاني)،ومن تأليفه "شرح البخاري"و"شرح الشمائل"و"شرح الشفا" وشرح البيقونية في المصطلح"و"حاشية على شرح مختصر ابن الحاجب"في الأصول و"حاشية على عقائد النسفي "و"شرح نظم السنوسية "و"شرح الخلاصة "في الحساب و"حواشي على شروح الشذور والقطر والجامي "في النحو و"شرح مغني اللبيب"و"شرح لامية الأفعال "وشرح السلم "في علم المنطق و"حاشية على المطول "وله اثنتا عشرة رسالة في التوحيد والتفسير والحديث الشريف مما يدل على موسوعيته رحمه الله تعالى في شئون المعرفة المختلفة ، وقد نظم طاهر الأتاسي فيه شعرا يذكر فيه بعض مؤلفاته منه :
له تآليف في نهج الهداية قد أضحت من الفضل تتلو ابلغَ السور
على الجلالين في التفسير حاشية ارقُّ من دمع صبٍّ لجَّ في السحر
ومعرب جاء للقران تبينة عليك فيه وليس الخبر كالخبر
( الأعلام للزركلي ج7/158)
ومما يشكر للأستاذ محمد الإمام تعريفه نسب أمِّ الشيخ بدر الدين الحسني من آل كزبري فتبين لي أنهم" من أعرق عوائل دمشق بالعلم والفضل والحسب والنسب خصوصًا علم الحديث الشريف الذي انتهت رئاسته إليها"وقد وقع احد أعلام هذه العائلة الكريمة على حاشية نسب عشيرة الربابعة ب"خادم الحديث الشريف "كزبري زاده انظر (الدكتور حسن الربابعة :"الربابعة نسب عريق بين الرواية والتوثيق"دار إحياء التراث للنشر والتوزيع ،طبعة أولى ، عمان ، 2010م ص 42 الحاشية)
وتاليا نصه "بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد،فقد اطلعت على هذه الشجرة المنيفة ،والنسبة القادرية الشريفة ، نفعنا الله برجالها الكرام بجاه خير الأنام،عليه مني أفضل الصلاة والسلام "الفقير خادم الحديث الشريف كزبري زاده . وتحته توقيع السيد إبراهيم نجل الأستاذ المرحوم السيد الشيخ محمد سعيد الدين ، شيخ سجادة الطريقة العلية السعدية الجباوية بدمشق الشام عفي عنا وعنهم آمين ".,
وشهد بعلمه وفضله أحد تلامذته قبيل 1935م، وهو احد أعمام (كاتب الرّدِّ ) هو الشيخ أحمد يوسف الرَّبَّاعي الربابعة في مقابلة لي معه يوم 16/3/2001م في بلدته كفرابيل ،نشرت على رابطة أدباء الشام تحت عنوان مقابلة، ذكره أنه أحد ابرز مشايخه ،وكان الحسنيُّ يستقبله برحابة صدر ويقول له كلما رآه "أهلا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم"ووصف الشيخُ احمدُ رحمه الله درس الشيخ بدر الدين الحسني،أنه كان بعد صلاة العصر من كلِّ يوم جمعة في المسجد الأموي ، وكان يذكر الحديث بسنده حتى يصل به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول"عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يمدُّ بها صوته ، وكان حين ينتهي مما يريدُ عرضَهٌ يقول "وفي هذا القدر كفاية "ثم يرتفعُ أذانُ المغرب فورا ، ولم يكن الشيخ بدر الدين الحسني يراقب الوقت، أو يخبره به أحد (الرَّبَّابعة نسب عريق بين الرواية والتوثيق ، مرجع سابق ص 165 وانظر ترجمة الشيخ بدر الدين الحسني عند"رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي "وانظر ترجمته في كتاب الأستاذ الشيخ عبد الله الطنطاوي وقد نرجم له ونشرها يوم 13/10/2007م ، على رابطة أدباء الشام وقد اختتم ترجمته بعدة مراجع تراجع في مظانها . وبالله التوفيق .
الشيخ بدر الدين الحسني
عالم الديار الشامية
الشيخ بدر الدين الحسني
محمد فاروق الإمام
< نصير. سامي موسيقي: - بسيوني. صلاح مونتاج:>
هو محمد بدر الدين بن يوسف بن بدر الدين بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني الحسني ، المغربي ، المراكشي ، السبتي من ذرية الشيخ الجزولي.
ولد الشيخ الأكبر بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى في دمشق سنة 1267ه/1850م، وكانت ولادته في داره الملاصقة لدار الحديث الأشرفية التي كانت مقره ومقر أئمة الحديث الشريف، وولادته هذه من أبوين فاضلين تقيين ورعين. فوالدته السيدة عائشة بنت المرحوم إبراهيم الشهير بالكزبري هي من أعرق عوائل دمشق بالعلم والفضل والحسب والنسب خصوصًا علم الحديث الشريف الذي انتهت رئاسته إليها، وهي عائلة آل الكزبري الأماجد وقد اعتنت رحمها الله بولدها، وسلمته إلى شيوخ العصر، ومن اعتنائها به أنها كانت لا ترضعه إلا وهي على طهارة كاملة وكانت في شهر رمضان لا ترضعه نهارًا. وقد رأت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع تمرة في فيه فاستيقظت من منامها والتمرة في فمه يمضغها. ووالده هو العلامة الكبير والشاعر النبيل والإمام الشهير الشيخ يوسف بن العلامة الشيخ بدر الدين المراكشي السبتي الحسني المالكي مذهبًا الدمشقي وفاة، ينتهي نسبه إلى الولي الكبير الشيخ عبد العزيز التبّاع أستاذ الولي الكبير الشيخ الجزولي، والشيخ عبد العزيز المذكور ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسن السبط، والشيخ يوسف المذكور هاجر من مراكش إلى مصر ودخل الجامع الأزهر وأخذ عن العلامة الشيخ حسن العطار والعلامة الصاوي والفضالي والأمير الصغير والشيخ فتح الله وغيرهم من مشايخ العصر. ومن رفاقه في طلب العلم العلامة الأشموني والباجوري وغيرهما وأجيز من الشيخ المحدث الكبير عبد الرحمن الكزبري الدمشقي وله ما ينوف عن مائة مؤلف في سائر الفنون خصوصا الأدب.
نشأ في حجر والده وقد أتم حفظ القرآن الكريم صحيحي البخاريي ومسلم بأسانيدهما وموطأ مالك ومسند أحمد وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه وكان يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم من جرح وتعديل ويحفظ سني وفاتهم ويجيبك عما شئت منها.
ومؤلفاته تنوف الأربعين ولم يجاوز العشرين من عمره وله الباع الطويل والقدم الراسخة في كافة العلوم حتى الرياضيات العالية، والحكمة، والفلسفة، والطب، والهيئة، والجغرافية، والهندسة، وكان إذا ذكر حديثًا جلس ساعة يتكلم في شرحه وما يستنبط منه حتى يقول الحاضرون لم يبق شيء يستنبط من هذا الحديث، ثم يقول الشيخ : ويؤخذ من هذا الحديث كذا وكذا ويؤخذ منه كذا وكذا الخ. وفي يوم الجمعة يجلس بعد صلاتها إلى صلاة العصر في شرح حديث واحد في جامع بني أمية وكان رحمه الله يقرئ الطلاب في الجامع الأموي النحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، والفقه،وغيرها.وكان يقرئ تفسير البيضاوي عن ظهر قلبه بدون أن يحمل كراسة، ولما أحس أنه قد ألم بنفوس العلماء بعض القلق حيث أقبل الناس على درسه، اعتزل في غرفته في مدرسة دار الحديث الأشرفية ولم يخرج منها مدة عشر سنين وكان يصلي الجمعة في حجرته الملاصقة للمسجد من جهة الشرق وكان في حجرته نافذة إلى بيته يذهب ويأتي منها وفي مدة اعتزاله أكب على المطالعة والحفظ وأقبل بكليته على علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة والمرجع الأوحد للعام والخاص. ولما جاوز الثلاثين من عمره شرع في الدرس العام في جامع السادات بدلاً من درسه السابق في مسجد بني أمية إرضاءً للمدرسين فيه، فقرأ درساً عاماً عن ظهر قلبه من صحيح البخاري وقد أعجبت الناس فصاحته وتكلم على الحديث الواحد من علوم شتى لم تعرف بديار الشام كالحكمة والطب والرياضيات وغيرهما فلما كثر الخلق عليه وضاق بهم الجامع انتقل إلى جامع سنان باشا فكان يقرأ ليلة الجمعة والاثنين من المغرب إلى العشاء، فلما ضاق المسجد بالناس انتقل إلى الجامع الأموي وابتدأ فيه درسه الأول بالحديث الأول من صحيح البخاري فأجاد وأفاد حتى أخذ بمجامع قلوب السامعين من ولاة وحكام وعلماء وخطباء وأدباء وحكماء وعامة الناس، وذلك في سنة 1292ه/1875م فما رأى الناس مثل هذا الدر، وقد ذكر سند الحديث العالي و مشايخه وأتى على مقدمة قيمة في علم الحديث ولم يترك علماً من العلوم المعقولة والمنقولة إلا وذكر شيئا منها ثم ختم الدرس بالدعاء بإصلاح الأمة والتوفيق لولاة الأمور وذلك بنظم سلس من إنشائه وارتجاله ثم داوم بعد ذلك على هذا الدرس في كل يوم جمعة من بعد صلاتها إلى أذان العصر فيقرأ حديثاً من صحيح البخاري بسنده المتصل ويبين ما بني عليه من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين مع مأخذهم وأدلتهم ويرجح الأقوى منها ويأتي بما يناسب المقام من سائر العلوم وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها استشهاداً لحديث الباب منه مئة حديث ويذكر تلك الأحاديث بأسانيدها المتصلة ويقرر المسألة الواحدة على المذاهب الأربعة مع أدلتها ويطبق عليها علم الأصول وآداب البحث والبلاغة والتفسير والتوحيد والآلات كلها حتى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة. وكثيرا ما يحضر درسه من لهم اختصاص بالطب والرياضيات فيذعنون للأستاذ بأنه صاحب اليد العليا في هذه الفنون ويقولون أفنينا العمر وما وصلنا إلى ما وصل إليه الأستاذ، وكثيرًا ما يحضر درسه الحكام والقضاة وغيرهم فيجلسون إلى جانبه والناس حوله والواقفون أكثر من الجالسين وصوت الأستاذ يبلغ الجميع يهدر هدير الحمام وهو لا يتوقف ولا يتلعثم في حديث أو تمثيل أو عبارة مع حسن الإلقاء وكلما أطال الدرس أجاد، وينتقل من البحث الذي هو فيه إلى بحث آخر بأدنى مناسبة ويلتفت إلى الحاضرين بوجهه وهم طبقات شتى يذكر الأحاديث المخوفة ويشدد الأمر عليهم خصوصاً ولاة الأمور حتى يبكيهم، ثم يعود بالمناسبة ويذكر الأحاديث الدالة على الرجاء وثواب من يتولى أمور الخلق فيعدل بينهم ويقوم بالحق ويؤدي الأمانات إلى أهلها، وهكذا شأنه رحمه الله تعالى الترغيب والترهيب شأن الأطباء الذين يجسون النبض ويضعون العلاج بحيث لا يمل السامع من حديثه ووعظه مهما طال ثم يختم درسه بالحديث المبدوء به مع انسجام غريب يحير الألباب وقد يذكر حديثاً من المسلسلات بإسناده ورجاله وربما تزيد عن الثلاثين ولو كتب درسه الواحد بالحرف لبلغ جزءاً لطيفاً بلا شك ولا ريب، وكان أكثر طلابه ومستمعيه يكتب بسرعة الأحاديث التي يذكرها بالمناسبات وإذا فاتهم شيء من ذلك يتمونها منه خارج الدرس. ومع هذه السرعة يفهم الحاضرون كلامه حتى العامة منهم وينقلون كلامه إلى البيوت وإلى الشوارع وما ذلك إلا بسبب إخلاص المربي الكبير. وهكذا نشر علمه بين الناس فبمثل هذا فليعمل العاملون .
توفي يوم الجمعة الواقع في 27 ربيع الأول سنة 1354ه/ 29 حزيران 1935م في دمشق وقد دفن في تربة باب الصغير، وخرج نعشه مجللاً بغطاء أبيض بسيط حسب وصيته ومشت دمشق وراءه بموكب رسمي وشعبي، فصلي عليه في الجامع الأموي في الساعة الرابعة والنصف، وصلي عليه غير مرة، ثم قرئت وصيته، ولم يصل الموكب إلى مقبرة الباب الصغير إلا في الساعة السابعة مساء لشدة الزحام.