وقال صاحبه في السجن(12)

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

( من ذكريات رجل غُيِّب في سجن تدمر عشرين سنة)

(12)

ض.أ

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

في وقت من الأوقات من سنة إحدى وثمانين، قيل، كان المعتقلون من حي الميدان في دمشق، الشهير بعائلاته المحافظة.. ينظر بعضهم إلى بعض في المركز الأمني الذي سيقوا إليه ويتساءلون: هل بقي في الميدان شباب؟

 أربعة أخوة، اعتقل ثلاثة منهم في يوم واحد( على ما ذكرت نساء العائلة) ثم سيق الصغير فمكث أسبوعين(1)، أكبرهم (ض ) ترك زوجة وثلاثة أطفال.. يقول صاحبه في الدراسة والسجن*:

 (ض ) من جيلي, ترافقنا في الجامعة  ثم في الحلقات, وكنا ندرس معا .. أخوه (ر ) اعتقل بضع مرات بجريرة عناصر مسلحة، ربما بادلهم زيارات مع أنه غير ملتزم ولا علاقة له  .. منها عام 78 على أثر نميمة أو شيء من هذا القبيل .. وضع في كركون الشيخ حسن(1), ولم يستطيعوا إخراجه رغم الواسطة(كان عمه تاجراً غنيا على صلة برفعت أسد)  فبقي سنتين(2).

اعتقل (ض) وأخوه( ع) سنة 81 ربما في يوم واحد، وأعدم الأخ بعد فترة قليلة.

كان( ض) قد تزوج من بنت عمه، وأنجب بنتاً وصبيين( قرأنا بعد سنوات طويلة في الصحف تهنئة بزواج ابنته من مهندس، فرحنا له كثيراً)(3)

انقطعت عني أخبار( ض) ثم اجتمعنا سنة(84- 87) ندردش ونتحدث، كان طيباً محبوباً يحب المزاح، حكم بالمؤبد، وكان في المهجع نفسه مع أخيه ساعة استدعي للإعدام، كما حكى لي عن تعذيبه أمامه.

أفرج عنه بعد خمس عشرة سنة(1995) عمل مع زوج ابنته، كما اتجه ابنه الأكبر إلى العمل الحر، أنجب ولدين بعد خلاصه من تدمر.

          

* بلغة صاحب التجربة وأسلوبه ما أمكن.

(1)كان في السادسة عشرة، أقرب إلى طفل مدلل لكونه آخر العنقود. ذكرت لنا خالته، وكنا على صلة بها في تلك الحقبة، أنه ضرب في السجن كثيراً ورمي على بطنه في منفردة مظلمة على أرض باردة جداً، فصار يكرر لهم أنه يذهب للسينما ويصاحب البنات، ويستغيث من كثرة الضرب، حتى خرج. تزوج وعاش في السعودية.

(2) كان أكثر السجون شهرة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكلمة كركون تبدو تركية، يقع جنوبي مدينة دمشق وبجانبه مقبرة شهيرة تسمى مقبرة باب الصغير. ثم انتزعت مراكز وسجون أخرى منه تلك الشهرة، وبخاصة بعد أن امتلأت بالذين ثبت أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.

(3) في هذين العامين عاشت زوجته مع أطفالها الثلاثة شبه وحيدة، فهي يتيمة الأب وأمها متزوجة، أم زوجها متوفاة منذ زمن، وأبوه توفي بعد زواجهما بقليل، الأختان المتزوجتان والأخ الأصغر سافروا.

يوم اعتقال الإخوة جاء رجال المخابرات لتفتيش المنزل، فلجأت إلى الصراخ والعويل رافضة أن تفتح، سايروها وأحضروا الجارة ففتحت لهم، قالت لي: قلبوا البيت رأساً على عقب.. لم يتركوا خرماً.. وكنا بحمد الله قد تخلصنا من الكتب الدينية! 

ولعلها استأنست ووجدت من يشاركها الحمل قليلاً بخروج( ر) ثم زواجه في البيت نفسه.

عاشت أياماً عصيبة في هدوء وصبر أخجل أن أصفهما، كنت أمر عليها كلما زرت دمشق، فتقول لي:

    أهكذا سنظل صامتين؟ أما يجب أن نفعل شيئاً؟

    كنت أستغرب تساؤلها أحيانا، في أحيان أخرى أضحك في سرّي من جموح خيال يريني مظاهرة نسائية تقول    لافتاتها: أين زوجي؟ أو: أحي هو أم ميت؟ أو: ما جريمة زوجي، ابني، أخي، أبي..

     صار الخوف أساساً في تكويننا النفسي والعقلي وحتى الاجتماعي؛ فالتفكير بـ( أن نفعل شيئاً) كان يبدو للجميع ضرباً من الجنون، ألا يكفي أننا نأكل ونشرب ونعلم أولادنا وأنا( أحرار).

هذا الخوف لم يبدأ باعتقال الأزواج، بل بدأ قبل ذلك بكثير: في البيوت التي تقول: انتبهوا اسحبوا سلك الهاتف، وفي المدرسة التي تعامل البنت المحجبة وكأنها تحمل وباء مقززاً، فتمعن في امتهانها باللسان وأسلوب التعامل.. وفي كل مؤسسة حكومية أصبح الموظف فيها إلهاً صغيراً يمثل الإله الأكبر( أستغفرك اللهم).

 كنا نعتقد ونحس أن الصمت هو عين السلامة.. الآن أقول: ما أرخصها حياة أن تؤثر السلامة على الحرية والكرامة.. الآن، وقد فات الوقت، أقول: ما أعظمه وما أجمله وما أسعده ذاك الذي قال فيه علي رضي الله عنه/ أو غيره: أحب من الرجل إذا سيم خطة خسف، أن يقول : لا، بملء فيه.

(3) وكان الإعلان في الصحف، أحياناً، نوعاً من التحايل الطيب على السلطات، فلعل السجين يقرأ ولو بعد حين ويعرف شيئاً عن أهله( بدأ إدخال صحف قديمة إلى المهاجع سنة94) . بل إن بعض المحامين كانوا ينصحون الزوجة بطلب الطلاق من الزوج المنقطعةِ أخبارُه، وإعلان ذلك في الصحيفة الرسمية، فإذا جاء من طرفه شيء يعرفون أنه حيّ يرزق، وقد حدث ذلك فعلاَ مع أحد السجناء أمام صاحب هذه الذكريات.