مع شقيق الروح
الشاعر الأديب: محمد الحسناوي
محمد الحسناوي |
عبد الله الطنطاوي |
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على مصطفاه.
لست أدري ما إذا كان الذي سأقوله يصلح لتقديم أخي الذي كنت أدعوه، وكان يدعوني بشقيق الروح، الأستاذ الشاعر المفكر الأديب محمد الحسناوي.
سوف أقتنص حُزمة من اللحظات الهاربة على مدى نصف قرن من تلاقي الأرواح ثم الأشباح..
ولا يغفرنّ أحد فاه ويصرخ أو يهمس: نصف قرن، تقتنص من لحظاته الهاربة في تقديم سريع؟
أجل.. ولن أطيل..
كان لقاء أرواحنا على صفحات جريدة الشهاب الدمشقية الإخوانية عام 1956 وكنا طلاباً في المرحلة الثانوية.
ثم حمل إليّ أخي وصديقي الشاعر المبدع محمود كلزي تحية وسلاماً من الحسناوي الذي التقاه في دمشق التي يدرس فيها المرحلة الثانوية.
ورحبنا بانضمام الشاعر الواعد محمد الحسناوي إلى رابطة الوعي الإسلامي، وصار يذيل اسمه بها فيما ينشر من شعر ونثر، فهو من رابطة الوعي الإسلامي.
ثم تزوج من فتاة حلبية، رحمها الله تعالى رحمة واسعة.
وهو ابن جسر الشغور، البلدة التي كانت تابعة لحلب، وتزوجتُ من فتاة حلبية، وأنا ابن بلدة اعزاز المتاخمة للحدود التركية، شمال مدينة حلب.
وجاء الحسناوي ليستوطن مدينة حلب، وكنتُ سبقته إليها، فالتقينا، والتقينا، والتقينا، ولم نفترق منذئذ.
وتخرجنا في كلية الآداب – قسم اللغة العربية، بجامعة دمشق، ودرَّسْنا في بلدة عفرين، معقل الأكراد في محافظة حلب، وكنا نغدو إلى ثانوية عفرين، ونروح إلى حلب، طوال عام كامل.
وفي عفرين ازددنا تلاحماً، فقد جمعتنا الجوامع:
جمعتنا الدعوة وهمومها، وجمعتنا الألاقي التي نلقاها من نظام شوفيني طائفي يسعى إلى تدمير القيم والدين والأخلاق، وتدمير الشخصية التي عُرف بها السوري، بحيث يبقى بلا كرامة، ولا دين، ولا أخلاق..
وجمعتنا حرفتا التدريس والأدب، وكلتاهما تنهل من ينابيع العطاء، ولا تعرفان الابتزاز..
وجمعتنا صداقة زوجتينا، وأولادنا، بنين وبنات.. جمعتنا الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون بحلب، وأنشطتها التي عمت واستقطبت الكثير من شعراء سورية وأدبائها وكتابها..
وجمعتنا الصحف والمجلات التي نكتب فيها: مجلات حضارة الإسلام، والشهاب، والتمدن الإسلامي، والآداب، والأديب، وسواها كثير.. ننشر فيها، ونتصدى لمن ينشر فيها مهاجماً إسلامنا، وقيمنا، من خلال نقد مجدور يوجه جراثيمه وبكترياته إلى بعض أدبائنا..
وجمعتْنا الملاحقات الأمنية، والاعتقالات، وهموم الوطن، والمواطن الذي كان يشقى من أجل الحصول على بعض أرغفةٍ نصفُها من عجين، ونصفها الآخر نار موقدة..
كنا نذهب بعد منتصف الليل.. أنطلق من بيتي في حي الكرة الأرضية إلى بيت الحسناوي في الزبدية، ومن هناك إلى باب الفرج، ونقف في الطابور ساعة أو بعض ساعة، ثم تُرمى إلينا بعض الأرغفة، فنتلقاها بأيدينا وصدورنا المحترقة، ثم نلقيها أرضاً، ثم نتناولها بجريدة من جرائدهم الصفر، وننطلق إلى سيارتنا، لنقذفها داخلها، ونحن نسبّ ونلعن أولئك اللصوص الذين سرقوا حنطة سورية الذهبية، وباعوها، واستوردوا لنا طحيناً حافلاً بالدود.
جمعنا وعينا لمخططات الحكام الطائفيين، والتصدي لطروحاتهم حول القرامطة (الثوار) وحول ثورة الزنج، وحول الخلافة الفاطمية (الراشدة) وشيخ الجبل حسن الصبّاح.
جمعنا ما يحاك ويدبَّر لشعبنا، وأمتنا، ولأرضنا، وكنا قد دخلنا تحت الأرض في عمل سري محكم، نعمل ليلاً نهاراً فقط، ولكن المعركة لم تكن متكافئة.. فهم يملكون ما يرهبون به الناس إذا لم يُجْدِ الترغيب معهم.. يملكون السلاح، والمال، ويتحكمون بمرافق الدولة، ولا نملك إلا صدقنا وطهرنا وإيماننا.. ومثاليةً أضّرت بنا في كثير من الأحيان.
كانوا يملكون تراثاً ضخماً من باطنية تاريخية أتقنت الظهور بأكثر من وجه، ولم نكن نملك عُشر معشارها.. فتفوقوا علينا بها.
كنا نناضل ضد تيار الباطنية السياسية، ونتحرك على أكثر من محور، نسافر معاً إلى المدن السورية، لإلقاء المحاضرات، والتقاء الأدباء والشعراء، ونسافر إلى لبنان، وإلى الأردن وإلى السعودية وإلى العراق ومصر، وإلى سواها من بلاد الله الواسعة.. حركة دائبة، لا نكل ولا نمل، وبيوتنا في حلب، مشرعة الأبواب، يؤمها الأدباء عامة، والإسلاميون منهم خاصة، ونحن سعداء في تقديم الخدمات لطالبيها..
غادرنا الأستاذ الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، وأرادنا أن نحل محله، فحللنا في رضاً وسعادة.. فمن جاءنا يطلب زواجاً زوجناه، ومن جاء يريد سياحة هيأناها له، ومن كان يريد أخوة لقي قلوباً مفتوحة، وعواطف جياشة، فما كنا لنبخل بما تمتلئ به قلوبنا..
وكنا نقتنص الفرص لنكتب، وطلبنا من مشايخنا أن يعفونا من الأعباء الإدارية التي كانت تؤود كواهلنا، فأبوا، فاحتسبنا الكتابة عند الله، ومن أجل هذه الدعوة التي رضعنا لبانها ونحن أحداث صغار، وشببنا عليها، واكتهلنا، وها هي ذي شمسنا تشرف على الغروب، وما زلنا كما كنا، وسنبقى حتى آخر أنفاسنا إن شاء الله تعالى.
واشتدّ الطلب علينا، فدخلتُ السجن، ونجا أبو محمود، وغادرنا البلاد، ثم خرجتُ من السجن، وغادرت وطني الحبيب، لنلتقي في عمان، بلد النصرة والإيواء، ثم غادرناها إلى بغداد، لنمكث فيها تسع سنوات، كانت حافلة بالعمل.
إذن.. هاجرنا معاً، وأقمنا زمناً في عمان، وأكثر منه في بغداد، ثم عدنا معاً إلى عمان، نتابع ألوان الكفاح، وأسسنا رابطة أدباء الشام، ونحن كما كنا دائماً، يأبى أبو محمود إلا أن أكون الأول فيها، ويكون الثاني، وكان الأولى أن يكون الأول، ولكنه التواضع الذي عُرف به والإيثار.
ونحن الآن في عمان، عاصمة الذين آووا ونصروا، نسكن في منزلين متقابلين، مهاجرين في سبيل الله، نتقاسم هموم الغربة، ولأواء البعد عن الأهل والوطن، ونتطلع إلى غد تزيح فيه الأمة طواغيتها، لتكون لها حريتها فيما تعتقد وتعمل، لا تخشى إلا الله، ولا تحرص إلا على كرامتها، ومقدساتها.. وغذّ السير صُعُداً، من أجل مجد مؤثّل، كما الأجداد.
وفي بغداد نزغ الشيطان بيننا وسعى السعاة فافترقنا، إلى أن جاءتني القصيدة الرائعة (حسطاوي) للشاعر المبدع فيصل الحجي من الرياض، وقد نحت عنوانها الطريف من حسناوي وطنطاوي، قرأتها وسالت لها دموعي، ثم امتطيت سيارتي إلى بيت شقيق الروح: الحسناوي، والتقينا، وتعانقنا، وقرأ القصيدة التي جمعتنا بعد فرقة.
تقول القصيدة:
أضـحى بأقصى شرقها يـتـنـافـسـان تباعداً واحسرتا أخـوان كانا للأخوة رمزها السامي بل توأمين على الشقاء وفي الرخا والـلـيـل كـالسُّمَّار والأيام في والـود والأدب الـرفـيـع ومنبر يـا حـرقة الذكرى لماض ناصع ماذا –ترى- (حلب) تقول إذا درت يـا صـاحبيَّ أغاب عن خلديكما أرأيـتـمـا حال البلاد وقد غدت أعـرفـتـما أن المساجين انتهوا مـاذا جرى؟ وإذا جرى هل خُلْفُكم ولـمَ الـجـفا؟ أخلافكم في أصله أيـن الـصـفا؟ أين المودة والوفا مـن منكم المعصوم يا أهل التقى بـالـسـيف يقتتل الأنام وبالمدى يـا ناس.. يا (أهل الرشاد) أما لكم والله مـا كـان الـشـقاق بمثمر لـولاه مـا فـقدت (حماة) جمالها لـولاه مـا ذلـت (طرابلس) التي لـولاه مـا شـمـل الدمار بعنفه لـمّـا أبـيـنا ظلَّ وحدتنا علتْ فـالـزمْ صـراط الله يا طنطاوي كـل الـدروب من التراب وطينه يـا حـسـرة كوت الفؤاد بحرها | الطنطاويوغـدا بـأقصى غربها ولـذاك أعـجب ما رواه الراوي وصـوت الـمـسـلـمين الداوي ذاك الـصـفاء من الشوائب خاو (حـلـب) عـلى عهد المودة ثاوِ حـر.. وسـاحات العطاء سخاوي يـا لـوعـة حـرَّى لـحالٍ هاوِ بـالـمحزنات.. وبالوداد الذاوي؟ صـورُ الـمشرد واليتيم الطاوي؟ فـقـراء يعوي في دجاها العاوي؟ في المهلكات وفي العذاب الكاوي؟ يـربـو عـلى أحزاننا؟ أيساوي؟ فـي الدين-يا إخوان- أم دنياوي؟ يـا قـوم؟ أيـن طريقنا البناوي؟ لـنـقـول للمنشق: أنت الغاوي؟ وبـغـيـرهـا.. وقتالنا بفتاوي.. طـبٌّ يـعـالـج داءنا ويداوي؟ خـيـراً.. وبئس قدومه المأساوي ورجـالها بالزاحف الصحراوي... بـاءت بـأسـوأ مـا نواه الناوي (صبرا) و(شاتيلا) وفي (البداوي) فوق الرؤوس مظلة (المهداوي)... والـزم صـراط الله يـا حسناوي وطـريـقنا يا مسلمون سماوي... مـمـا دهـاني منك يا حسطاوي | الحسناوي
لو هُيئ للأستاذ الحسناوي واحد على عشرين مما يٌهيَّأ للآخرين من الزملاء والأقران، لكان لنا منه شاعر شاعر، وناقد ناقد، ولكن.. هيهات فالواجبات أضعاف أضعاف الأوقات..
وهذه صورة مختزلة عن محاضرنا الحسناوي الذي سيحاضرنا اليوم في موضوع من موضوعاته القرآنية الأثيرة لديه، فهو صاحب (الفاصلة في القرآن) ومحاضرته حول (الحوار في سورة طه) فإلى المحاضرة والمحاضر.
واسلموا.