وفاء العبرات

وفاء العبرات

عبرات ترقرقت وفاء .. فسالت فما جفت وما قضت لأهلها حقا

زفرات أرسلت حرّى .. ذكرى أخ عظيم  ..  قضى شهيدا  على ثرى الرافدين ...

خطاب أبو عزيزة رحمه الله تعالى..  

سحبان فاروق مشوح

   بذا قضت الأيام ما بين أهلها ؛ أن يفارق الحبيبَ حبيبُه ، وأن يبارح المريضَ طبيبُه ، وأن تغادر الجسدَ روحُه ، وأن يودع قلبي ودُّ خطاب ...

   نعم .. لقد نادى نعيُّه بأرفع صوته : أنَّ فارسكم هوى ..

   يا ويح قلبي ... أولئك إخوان الصفاء رُزئتهم ...

جاذبْتني جنبي عشية نعيه            وخفقتَ خفقةَ موجع أوّاهِ

   قد كنت أوثر أن تقول رثائي .. ظننت يوما أن أنامل الأحبة ستمسك بيراعها ، وتسكب مدادها مختلطا بماء عيونها .. في خط أسطر رثائي ...

لكن سبقت وكلُ طولِ سلامةٍ            قدرٌ وكل منيةٍ بقضاءِ

   أشهد أنه ما عاد للتجلد في قاموسي مرادفا ، ولا للصبر في نفسي مكانا ، ولا بقي في محجر عيني دمعةٌ واحدةٌ أرسلها ...

أسكبْ دموعك لا أقول  استبقها         فأخو الهوى  يبكي  على أحبابه

  سقتك   الدموع  فإن  لم  يدمن          كـــعادتهن  سقـاك  المطرْ   

*     *     *     *     *

وإن   تَغُلْ  أحداً  منا  منيتُه                فما  الذي  بقضاء  الله يصنعهُ

   في غمرة الفاجعة ، وفي حضرة النازلة ؛ يتراءى شبح الشهيد يعاتبني في نفسي ، ويذكرني في نفسه ؛أنّه ما مات ميتة الخنِع اليراع ، ولا فرَّ فرار الجبان المُهان ، ولا فَعَلَ فِعْلَ الأنكاس المهزومين ؛ فلم يتغشَّاه حبُّ الحياة ؛ فيكونَ له صَداقُها الذلَّ والإسفافَ والخرقا .. بل كان بطلا مقداما ، وشجيعا  منتصرا ،.. فمات على ذلك .. فكان الشهيد .. فأذكر أنا : " إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأمْوالهُمْ بأنَّ لهُم الجَنَّةَ يُقاتلونَ في سَبيلِ اللهِ فيَقتلونَ ويُقتلونَ وعْداً عليهِ حقاً في التوراةِ وَالإنجيلِ والقرآنِ ومَنْ أَوْفى بعهدهِ مِنَ اللهِ فاستبْشروا بِبيعكمُ الذي بايعتمْ به وذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ " ... ثم أذكر أن خطاب قد باع .. نعم باع .. نعم ربح البيع أبا عمر ...  

   لقد استحصل نفسه قبل أن يموت حسرة وندما .. بموته على فراشه مرضا وغمّا ...

   لقد علم أنّ الجنة تحت ظلال السيوف ؛.. فرأى أن يستظل بظلها يوم لا ظلَّ إلا ظلُّ الرحيم الرؤوف..

   لقد علم أن الله أعد لشهيد الصفين عند أول قطرة من دمه سبعَ خصال .. فعرّى صدره لاستقبال السهام والنصال ...

ثم علم أن الدم المُغْبرَّ يحرسه الدمُ ...

تزلزلت تحته أرضٌ فما صُعِقا             وازَّخرفت حوله دنيا فما انزلقا   

*     *     *     *     *

دعته بغداد فلبى نِداها ، وهزَّ قناةً صلبة العودِ ..

أشارت له الحرب العوان فجاءها             يقعقع بالأقراب أول من أتى

   لم يتهيّب حرها ، ولم يتخشّع وطيسها ، كان يرى الموت في الحرب مغنما ، والشهادة في سبيل الله سلما يتوصل به إلى أعلى الجنان .. لقد كان عِلْقَ شهادة ومشروع شهيد ... لقيته على هذا العهد .. وفارقته عليه ...

سقاه دجلة من مائه ؛.. فكان حريا أن يسقي دجلة من دمائه ...

ألا في سبيل الله ذاك الدم الغالي ...

سـائلو  دجلة  عما  أتاها             أو دعوها فكفاها  ما  دهاهـا

ما للفرات إذا حدثته انتحبا             وأرسل الآه دمعا يحرق الغربا

   كأنما الدهر أعياه بما سلبا .. لقد سلبه أرواح المجاهدين ، وأنفس المقاتلين ...

خطاب يا بغداد كان مهندا .. وغدا أثرْ ...

*     *     *     *     *

لله درُّ حامليك ... ما أطيب ريحَهم بعدك ..

وتطيب هامُ الحاملين وراحهم              من طيب محمله وطيب ثيابه

   لله درهم لو يعلموا ماذا أدرجو في السبائبِ ... 

جبريل هلل في السماء وكبرِِ              واكتب ثواب المحسنين وسطرِِ

 

خطابُ يا بغدادُ كان مهندا ..  وغدا أثرْ ...

   عرفته في الصبا .. ولذة الروح في الصغر ..

   وكان  خلِّيَ في الشباب .. لم يقوَّم بمدخر ..

   حال  بيني  وبينه  . . في  فجاءاته القدر ...

كنا كأنجم ليل بينها قمرُ               يجلو الدجى فهوى من بينها القمرُ

   أوّاه أيها الحدثان ما أقساك ؛ تسرق لذة الإنسان ، وتسطو على هناءته ،وتعطف عليه أذاك ،وتسلبه روحه من بين جنبيه ، ثم تنأى بين الخليلين ؛ هذا عليها وهذا تحتها بالي ...

*     *     *     *     *

   من ظن أن الفرار يراخي الأجل ؛ فقد باء بالخيبة ثم الوشل ..

نحاذر أمرا وقد سبقت             إليه المقادير حتى وصلْ

   فيا أيتها النفس الراكنةُ إلى الدعة ، الساكنةُ في بروج الأمل المشيدة :..

فإنك  لو  سألت   بقاء  يــوم       على الأجل الذي لك لم  تطاعي

فصبرا في المجال الموت صبرا        فمــا نيــل الخلود بمستطاع

   أيتها النفس ما قضى أحدٌ قبلك لبانتَه من هذه الحياة ولا انتهى أرب إلا إلى إربِ ...

تأخرتُ أستبقي  الحياةَ   فلــم         أجد لنفسي حياةً مثلَ أن أتقدما

بينـي  وبينكمُ وإن طال  المدى           سفر   سأز معه من  الأسفار

إنــي  أرى  محاـي  بيـنكم         هذا  قراركمُ  وذاك  قرار ي

*     *     *     *     *

   ويبقى في القلب الدامي حرقة ، وفي النفس المكدودة لوعة ، وفي الصدر حزّازٌ من الوجد حامزُ ...

ألا إن مرتَحلَ الشامخين           على النفس صعبٌ وخطبٌ جللْ

   ما أنسَ لا أنساك آخر عيشنا ، وإن ودَّع الطرفُ إلماحَك _ أيها الأخ العظيم _ فقد سكنت قلبي وروحي معا ، و ستبقى مني على ذُكر ما شاء الله لي الحياة ...

   عسى الليالي التي أضنت جسمي بفرفتنا ستجمعني وإياك يا أبا عمر .. في ركب كريم وصحب سابقين ...

فرحمةُ ربي ورضوانُه رفيقاه في مرْقد المنتقلْ

وجنةُ خلدٍ وتيجانُها مآلٌ _ويارب زده الجذلْ

سلامٌ عليك بمحيا الكرام وموت الكرامة رمز الأُوَلْ

عَاشِقُ ثراك ومقتفٍ أثرَك

21 / شعبان /1425ه

5 /10 / 2004م