في يوم التكريم

في يوم التكريم

عبير الطنطاوي

قبل أشهر من الآن طلعت عليّ شمس شتوية دافئة حنونة، بثّت في أنحاء عمان الباردة حرارة حنونة رقيقة، ولما رأيت الجو كذلك، قررت أن أذهب بطفليّ الصغيرين (حفظهما الله) في نزهة قصيرة لتدخل الشمس إلى عظامهما التي طالما غابت عنا في هذا الشتاء البارد.. واتفقت مع والديّ الغاليين (حفظهما الله) في مكان نتلافى فيه في وسط الطريق حتى نعود معاً إلى بيتي الصغير المتواضع ليرى الجدان حفيديهما الصغيرين (ولديّ) ونحن جميعاً على مائدة غداء متواضع، وكانت والدتي قد أخبرتني قبلاً أن أبي الغالي (عبد الله الطنطاوي) ستقام له حفلة تكريم أدبية في (رابطة الأدب الإسلامي العالمية/ فرع عمان) قالتها بتواضع شديد، فقلت لها:

- ما رأيك لو أترك الأولاد عند جارتي وأذهب لأحضر هذا الحفل الكريم؟

ولكنها لم تحرك ساكناً لا بالموافقة ولا بالرفض، وعندما وصلنا مع ولديّ وولديّ إلى البيت كان الجد الكريم قد أحضر للصغيرين الكثير من الألعاب والهدايا والشوكولاته والعصير والتفّ الصغيران حول الجد الكريم في حفاوة وحب وتقدير ولما سألته عن حفلة التكريم ابتسم ابتسامته المعهودة التي لم تفارق وجهه البسّام يوماً وقال في حياء:

- لا أدري. قالوا إنها حفلة تكريم عادية.

وحين ألححت عليه أن أذهب إلى الحفل قال بحزم الأب الرقيق:

- يا بنتي يا ريت بس الأولاد حرام.. وما هي بالحفلة المهمة.

أحسست بغصّة في حلقي، وعبرة تحجرت في مدمعي، هذا الأب الذي كرمه قلبي منذ سنين وقدسه عقلي وخضعت له حواسي وأعجب به دماغي.. هذا الأب الذي طالما كنت أستمد منه روح الحياة والمرح والدعابة وطالما كنت أظن أن العالم بأسره لا يعرف قيمته ولو عرف العالم حجمه وقدره لأقاموا له حفلات تكريم لأنه:

أولاً: الرجل العابد الزاهد.

ثانياً: الأب الكريم الغريب.

وثالثاً: الجد الحبيب المعطاء.

ورابعاً: الزوج الحنون الرؤوم.

وخامساً: كان لأنسبائه الصهر والعم والأب العطوف و.. و..

وأخيراً الأديب اللبق النابغة..

هذا أبي اليوم يكرمه فئة كريمة من الأدباء وأنا يرفض وبقوة حضوري الحفل ويخاف على الصغار الذي هم في أمان بإذن الله، ولكنه اعتاد أن يعطي أولاده أماناً خارقاً لكل أمان في العالم (طبقاً بعد أمان الله) وورثني هذه العادة الحنونة في الحفاظ الشديد والحرص الكبير على أمن الصغار.

أحسست في عينيه نظرة الحياء والإحراج حيث كان يردد:

- والله إنه لأمر محرج.. حفلة تكريم وماذا فعلنا لنكرم؟..

تركته وذهبت إلى الهاتف.. اتصلت ونسقت الأمر مع جارتي، وقررت أن أذهب إلى الحفل برفقة والديّ.. ولما أخبرته بالخبر لم يبدِ اعتراضاً أو موافقة.. وكأنني عندما أذهب إلى الحفل سأزيد من الحمل الملقى على كاهله من أن يجلس ويمتدحه الناس لتواضع والدي الشديد كنت أعتقد أن هذا التكريم سيكون جزءاً من حفل تكريم لعدد من الأدباء، وأنه لن يأخذ ذلك الوقت الكبير، وأن والدي الحبيب سيكون تكريمه جزءاً لا الكل.. لأنه حفظه المولى كانت أناقته في ذلك اليوم أقل من أناقته المعتادة.. فهو شديد الأناقة. رائحة عطرة تبقى في المكان الذي يغادره لساعات، أسنانه نظيفة تفوح منها الريح الطيبة، لحيته منسقة ومرتبة، شارباه محفوفان دائماً.. له هيبة لم أعهدها في أي رجل غيره، ووقاراً لم ألحظه على أي أب من الآباء سواه.. ومع ذلك كان أنيقاً ليلة الحفل لأنه لا برضى إلا أن يكون ذلك.. وما أراد أن يذهب إلى الحفل. ركضت وراءه أعطيه عطراً من نفس نوع عطره.. وعندما كنت أعطره كان يقول:

- كفى يا ابنتي هذا كثير.. كفى.

وكان قلبه الرقيق يخشى عليّ من أن تنقص قنينة العطر ولا ملم واحد.. أنا أخوض في تفاصيل أراها محبّبة لقلبي، ربما كانت تافهة لغيري.. ونحن في الطريق إلى الحفلة كان يسألني عن الصغار وعن سعادتهم بالهدايا، ويلقي لي بعض الملاحظات في تربيتهم، وكانت أمي إلى جانبه تبتسم وتؤيد بحب وود واحترام، وكنت أنا أرى أن العالم بأسره لم يسع فرحتي لأني رزقت بهذا الوالد وتلك الأم، ولأني سأقف وأرى أبي مكرماً بين محبيه والحمد لله...

ولما دخلنا إلى القاعة رأيت والدي يتلقاه الأدباء من كل مكان، هذا يسلّم عليه بحرارة، وهذا يقبله بود، وذاك يهنئه على الحفلة، وآخر يسأله عن فقرة في حياته ليصحح معلومة في الكلمة التي سيلقيها، ورأيته يؤخذ من وسطنا إلى وسط الأدباء والشعراء، وكلماته الحبيبة (الله يبارك فيك، الله يجزيكم كل خير، نعم يا سيدي..) وضحكاته الرنانة ترنّ بين آن وآخر، وتلك الكلمة التي ميزته كثيراً كانت تصدر بين فترة وأخرى.. وبعد دقائق بدأ الحفل البديع.. افتتح بكلمة للمسؤول عن الرابطة، وبدأ الأدباء والشعراء والمحبون بإلقاء كلماتهم وأشعارهم،وكانت المفاجأة لي أن الجميع يتحدث عن والدي الحبيب وحده، وأن هذا الحفل الذي امتدّ نحو الثلاث ساعات كلها موجهة لذاته الكريمة.. كانوا يقولون ما يقولون، ولم أكن أسمع مما يقال سوى رنة كحته الغالية الحبيبة، ولم أكن أسمع سواه يشكر الخطباء والأدباء، ولم تكن عيناي تريان سوى والدي الغالي واضعاً يديه المتشابكتين على جبينه، مغطّياً بهاما عينيه الجميلتين اللتين هما مدارس بالنسبة إلي في العلم والأدب والدين والجهاد في سبيل الله والصبر والكفاح.. إلخ..كانت دموعي تترقرق وحدها لا ممسك لها ولا حابس، حتى أصبحت أرت القاعة ومن فيها عبارة عن (غباش) يتألق بين الدموع والرموش ولربما كان من المفروض عليَّ أن أحفظ أسماء من تحدث في تلك الحفلة، أو أحد الشخصيات الفنية التي كانت موجودة على الأقل، ولكني عشت مع رجل مثالي في العاطفة والحب، وأخذت منه تلك المثالية، فلم يتسع ذهني وعقلي لشيء سوى فرحتي بهذا الأب الغالي.وجاءت الفقرة الأخيرة وهي تعليق الحضور على الحفل.. وبدأ الكثير يسجّل اسمه ليبدي رأيه بهذا الأديب القدير الإنسان، وبذلك الحفل الرصين، وتوجهت أنظار السيدات إليَّ. فأنا ابنته آخر العنقود التي رباها بيديه وعاشت معه تجارب لم تعشها أخواتي الأخريات معه، وبدأت إحداهن تغمزني وتلمزني لأسجل اسمي وأتكلم عن قدوتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، ولكنني لم أكن أستطيع حتى أن أرد عليها، لأن الفم ألجم بالدموع التي تسحّها العيون إلى حدّ الغرق. وكانت المفاجأة كلمة زوج أختي الكبيرة الذي ما قصّر في عرض فقرة من حياة هذا الأب الغالي حين كان أستاذه في المدرسة، وحين أصبح والد زوجته ثم صار جداً لأولاده. كان يتحدث وأنا أكاد أختنق فأنا أمام والد عظيم عرفت قيمته منذ زمن ولكني لست الوحيدة التي عرفت قيمته بل هناك الكثير الكثير ممن عرف قدره، واستطاع أن يعبر له في حفلة هذا عن مكنون نفسه، أما أنا فما عبرت سوى دموعي عن ضعفي الشديد أمام هذا التمثال الرائع الذي عشت سنوات عمري أتأمل روائع خلق المولى فيه، ومن ثم تحدثت ابنة أختي الكبيرة كذلك عن جدها الحبيب وختمت كلمتها بعبارة صفّق لها الجمهور بعنف وأثارت ضحكات الجميع بها هذه العبارة:

- هذا جدّي فأروني أجدادكم..

وبدأ الجمهور يعلّق على  كلمة تلك الصغيرة (نور زيزان) وامتدحها الكثير واعترفوا لها بأن أجدادهم ليسوا كجدها الغالي..

انتهت الحفلة وقام الجمهور إلى الحلويات والشاي والقهوة، ووصلت طاقات الورد للأديب الغالي، ومن ثم نقلت إلى سيارته، وكان الأديب الغالي قد أوصى لبناته الثلاث ولبيته بأنواع من الحلو الذي لم يكن يقطعه عنا بمناسبة وبدون مناسبة، ورأيت هذا الأديب يتجمع حوله الأحباب، ووسط الزحام رأيته يتطرف قليلاً فانتهزت الفرصة وركضت نحوه وعدت بنفسي إلى عبير الطفلة التي أحبته كما لم تحب بنت أباها من قبل أبداً.. مددت يدي إلى يده المعطاء.. سلّمت عليه، وقبّلت يده بخشوع المحب الملهوف، وعانقته والدموع تقطر، وأنا أحبسها وأدفعها بل وأدعو الله أن يوفقها لأقول له ولو بيني وبينه كلمة.. لو كرّمك العالم كله يا أبي ما وفّاك حقك..رأيته يبتسم ويدعو لي كعادته (الله يرضى عليك) عندما عدت إلى المنزل استقبلني صغيراي: أنس وملك وكانا قد عادا إلى المنزل برفقة والدهما الذي مرّ عند الجيران وأخذهما من هناك.. استقبلني الصغيران وهما يحملان السيارات والألعاب ويسألاني بلهفة:

- أين جدو عبد الله؟ وين جدو عبد الله.

ضممتهما إلى صدري وقلت لهما حتى يكفا عن السؤال:

- غداً سيأتي إن شاء الله.

وتقدم زوجي نحوي يبارك لي بوالدي ويمتدحه بأعذب العبارات ويعتذر لي وله عن طريق الهاتف لأن عمله حل دون أن يحضر الحفل ويعاتب والدي لأنه لم يوضح له حقيقة الحفل حيث اعتقدنا جميعاً أنها عبارة عن مناداة اسمه من بين أسماء عديدة وتقديم هدية رمزية له، فقال له كما قال في الحفلة:

- والله الواحد يستحي أن يعزم الناس على حفلة هو قاعد وكل الناس قاعدة تمدحه.. الواحد محرج جداً ولو كان بيدي ما حضرت الحفلة..

قال زوجي:

- والله يا عمي أنت أب ولو كان في الدنيا شيء فوق الأب وأغلى من الأب فأنت ذلك الشيء..

قلت في نفسي: أنت حقاً فوق الأب إن كان فوق الأب شيء أفضل من الأب. فالأم والأب كما قال الشاعر:

هذان في الدنيا هما الرحماء..

وتمنيت لو أحضرت معي ابني الصغير ابن السنتين والنصف ليعبّر عن أحر مشاعره بجده الذي لا يصبح على لصغير صباح إلا ويذكر جده العظيم وكثراً ما يكلمه بالهاتف ويطلب منه أن يحضر عنده ليراه، وكلمن لعب بألعاب كان أحضرها له جّده يقول:

- هذه سيارة جدّو عبد الله، هذه لعبة جدو عبد الله..