الدكتور أحمد صدقي الدجاني
الدكتور أحمد صدقي الدجاني
(أبو الطيب)
رجل فقدته الأمة في وقتٍ هي أحوجُ ما تكون إليه
بقلم: علي صدر الدين البيانوني*
"من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه "
"فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا "
صدق الله العظيم
لقد فجعت الأمة العربية والإسلامية بوفاة المفكر الإسلامي الكبير الأديب المجاهد، رجل المواقف الصلبة، والمبادئ الثابتة، الدكتور (أبي الطيب) أحمد صدقي الدجاني، يوم الاثنين الخامس من ذي القعدة 1424 الموافق للتاسع والعشرين من كانون الأول 2003 عن عمرٍ يناهز السابعة والستين، كان حافلاً بالدعوة والحركة والفكر والجهاد ، في وقتٍ هي أحوجُ ما تكون إليه، حيث تكالبت عليها قوى الشر والبغي والعدوان، وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكَلةُ إلى قصعتها.
لقد كان – رحمه الله – علماً من أعلام هذه الأمة، حاملاً همومها، منتصراً لقضاياها، مدافعاً عن حقوق أبنائها، فقدت الأمة بفقده مجاهداً صلب المراس، مفكراً عميق الثقافة واسع الاطلاع، مناظراً قويّ الحجة والبيان، داعيةً إلى الوحدة الوطنية والوئام. يجمع بين الصلابة في الموقف ودماثة الخلق، وبين التمسّك بالمبادئ والثوابت واستيعاب الواقع والمتغيّرات، كان رافضاً لنهج التسوية المفروضة على الشعب الفلسطينيّ، وما أفرزته من اتفاقيات لا تلبّي تطلعاته في التحرّر والاستقلال، وكان في الوقت نفسه شديد الحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية، وعلى الحوار الهادئ بين فصائل المقاومة.
كان العلاّمة الدجاني عضواً مؤسّساً في منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيساً للمجلس الأعلى للثقافة والتربية والعلوم فيها، كما كان عضواً مؤسّساً في المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وفي المؤتمر القومي العربي، وفي المؤتمر القومي الإسلامي، أنجز العديد من الكتب والمؤلّفات والمقالات، وشارك في الكثير من المؤتمرات والندوات العربية والإسلامية والعالمية. مبشراً بمشروع الأمة النهضوي، مدافعاً عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
حملته نكبة عام 1948 من مدينة يافا في فلسطين، وهو في الثانية عشرة من عمره، إلى سورية، فتنقّل في مدنها بين اللاذقية وحلب ودمشق، طالباً مجدّاً، وعضواً نشيطاً في جماعة الإخوان المسلمين، ومدرّساً ناجحاً.. كان يحمل القضية الفلسطينية في دمه، ويدافع عنها بلسانه وقلمه وفكره، في جميع المحافل العربية والإسلامية والدولية. ولقد كان صاحب إنجازاتٍ كبيرة، في جميع الميادين التي عمل فيها، في التأليف، والعمل الفكري، والعمل العام، يتمتّع بشفافيةٍ في الروح، ودماثةٍ في الخلق، وسعةٍ في الأفق، وغزارةٍ في العلم، مما ساعده على النجاح في المهمات الجليلة التي تصدّى لها.
لقد كان – رحمه الله - شديد التعلّق بالقدس، نذر نفسه للدفاع عن عروبتها وإسلامها، وكان يقول: (إنّ أمتنا لن تتنازل عن القدس، وهي في رباطٍ إلى يوم الدين، وأيّاً كان الإملاء الذي يفرضه الأعداء، فإنّ شعار الاعتصام بالمقاومة، سوف يبرز قوياً، وستربّي أمتنا جيلاً جديداً على ضرورة استعادة المقدسات، وتحريرها من الدنس الصهيونيّ، وهذا هو سبيلها، فالقدس على مرّ التاريخ، سلبت منا ثلاث مرات، وعادت بعد كلّ مرة، وستبقى نصب العين، مقترنةً بكونها مكان المسجد الأقصى الذي اختاره الله تعالى مسجداً منذ أقدم العصور، كما ستظلّ مقترنةً بروعة الصورة التي حدثت يوم الإسراء والمعراج.).
كان أنموذجاً رائعاً في حياته الشخصية والعائلية، صاحب ذوقٍ رفيع، وأناقةٍ متزنة، وحديثٍ عذب، وابتسامةٍ دائمة، لم يمنعه انغماسه في العمل العام، وانشغاله بقضايا الأمة، من الاهتمام بالجانب الروحيّ في حياته، فكان كثيراً ما يصحو من النوم مبكّراً قبل الفجر، يتهجّد ويتلو القرآن، كما كان شديد الاهتمام بأسرته وبتربية أولاده الأربعة: مزنة، والطيب، ومهدي، وبسمة، وتنشئتهم على النهج الذي نشأ عليه، بالتعاون مع زوجته الفاضلة، فكانوا – بفضل الله – خير خلفٍ لخير سلف، وكان نجاحه في هذا الميدان، لا يقلّ عن نجاحاته في الميادين العامة الأخرى، كما كانت فرحته بأبنائه وأحفاده، وعلاقته المتميزة بهم، تبرز ذلك الجانب الأبويّ الإنسانيّ من شخصيته.
ولعلّ من المناسب في ختام هذه الكلمة، أن نذكر جوابه لمحاوره عندما سأله مرةً عن أمنيته الخاصة، فقال: (أمنيتي هي حسن الخاتمة، وأدعو ربي قائلاً: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة.) وأعتقد أنّ الله عز وجل قد استجاب دعاءه، وحقّق له أمنيته، وختم له بالإيمان، وبالثبات على الحق الذي عاش حياته مدافعاً عنه، مضحّياً من أجله.
اللهم ارحم أخانا أبا الطيب، وأكرم نُزُلَه، وارفع مقامه عندك في علّيين، مع الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. اللهمّ آجرنا في مصيبتنا، وعوض الأمة خيرا. وإنا على فقدك يا أبا الطيب لمحزونون. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لندن في 30/12/2003
أحمد صدقي الدجاني
العامل لوحدة المسلمين –كما عرفته-
بقلم: زهير الشاويش
ما أظنه انتقل من دنياه، وقابل ملك الموت، إلا وهو يبتسم كما عهدناه دائماً، فما كان يقابل أحداً إلا ويلقاه بخطاب فيه التأثر بلغة القرآن الفصحى، مرحباً بقلب منفتح، وبشاشة ظاهرة.
جاء من فلسطين طفلاً، وهو وريث إحدى عوائلها الكبرى، التي لها منزلة رفيعة، وكان بمفرده مطلع شبابه لا نظير له.
يتكلم بلغة أدبية عالية، واندفاع في العمل الإسلامي العام، وكان واحداً من القادة على صغر سنّه، وانتظام في مواعيده، وكان في الدراسة الأول فيها، أو من أوائلها. وفي التلقي للعلوم الشرعية على المشايخ من أهل العلم والوعي، وكان –رحمه الله- سليم المعتقد سلفي المنهج، يتبع الدليل في تعبده، مع البعد عن التنطع والشطط، وما عرفنا عنه الغلو المنفّر، ولا العصبية المفرِّقة، بل كان يتسع للجميع، ويدعو إلى الله على بصيرة.
وجاءت عائلته من فلسطين إلى اللاذقية، وهناك تلقاه أهلها –على اختلافهم بقبول حسن- وكنت أزور اللاذقية حوالي سنة 1954م، وقابلته هناك، ولفت نظري أدبه الجمّ، وكلامه الذي لا يكاد يسمع، وكان ضمن مجموعة في لقاءات لا يزيد وقتها عن ساعة ونصف ساعة، ولم يكن رئيسها،غير أنه كان يلخص ما دار فيها قبل انتهاء اللقاء، ليكون الموضوع مركزاً عند كل إخوانه.
ثم انتقل إلى دمشق ملتحقاً بالجامعة، ورأيته فيها بعد ذلك يرأس المجموعة الفلسطينية، وبقي اللولب فيها، والمحرك لنشاطها، وإعدادها للجهاد، لأن العودة إلى فلسطين لا تكون إلا بالجهاد، وكان يلقي كلمات في "المنتدى الفكري" للجماعة في صالحية دمشق، بجوار منزل الأستاذ عصام العطار.
ورأيته في لقاء مع أستاذنا الشيخ مصطفى السباعي، وكان يلقي كلمة في المنتدى الفكري للإخوان المسلمين في حي الصالحية بدمشق، بما هو معروف عنه من فصاحة ودقة، وما إن انتهى حتى قام الأخ أحمد الدجاني وعلّق ملخِّصاً ما فهمه من الأستاذ، ومستنتجاً من كلامه كل ما يلزم السامع من المعاني والعبر.
ووجدت الشيخ السباعي يعلق على ملخصه بأنه "هذا زبدة الكلام".
وبعد ذلك كنت وإياه في لقاءات طويلة مع الأستاذ عصام العطار، ووجدته وكأنه صورة عنه تظهر بالمرآة، وفي تلك الاجتماعات كان يكمل الواحد منهما الآخر.
وبعد عودتي من الخليج زارني أحد الأمراء من حكّامها، والتقى عندي بمجموعة، وتكلم الدجاني، فرأيت من (الشيخ) حُسن الاستماع للدجاني بكلّيته، وكان الحديث عن الخليج، وأثر الإنكليز فيه، وربط ما بين الكويت حتى مسقط، مروراً بما كان من تاريخ البرتغال، وواقع المعارك داخل الجزيرة حتى وصل الأمر إلى هدم الدرعية.
فما كان من الشيخ الحاكم المشدوه بحديثه، وكاد أن يضيع عليه طعامه (أو طعامنا) إلا أن دعاه لزيارتهم، لأنهم بحاجة إليه، ويومها لم يكن الدجاني (دكتوراً) بعد.
وسكن في منطقة (زقاق الجن) من أطراف الميدان، ولا أذكر كيف ومتى انتقل إلى ليبيا، غير أنني فوجئت بالرسائل من طرابلس، أو بنغازي، أو مضارب الصحراء، ومعها التواصي بأمور تنفع الشباب هناك، وأكثرها من كتب الدعوة، وليس فيها أي أمر واحد يخصّه، ثم أقام في مصر فترة من الزمن، وكان فيها منظور العمل، مشهود الجهد.
ودار الزمن دورته، وتفرقت بنا الدنيا، وكنّا نلتقي في بعض البلاد، إلى أن تكرم وزارني في بيروت (وقد أصبح دكتوراً، بل وزعيماً في كل الحركات التي تحاول النهوض بالأمة من مختلف الجوانب) وبقي على تواضعه، كما كان أيام اللقاءات الأولى.
وكنت أجد فيه العالم الواسع المعرفة، والنشيط الدائم الحركة.
وفي سنوات الحرب اللبنانية الأليمة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، جرى خطف ابن أخي الأستاذ سعيد العبّار، وقيل إن الخاطفين بعض تلك المجموعات التي اشتبهت به، فلونه أشقر.. إلخ.. فذهبت والأستاذ سعيد إلى داره، فقال أرجوكم البقاء في بيتي، وذهب ورجع وأخبرنا بأن الشاب موجود عند قوم لم يفهموا أين تصل أعمالهم.
وذهب معنا إلى جهة ما، وطلب أن يحضر الشاب، أو ينزل ليكون محله موقوفاً، وفعلاً أفرج عن الشاب، ورجع معنا.
وكم كان له من جهود طيبة إنسانية من أجل تحرير الإنسان من الظلم اللاحق به من قبل الأنظمة الحاكمة، رغم ما كان يربطه بالعديد منها من صلات.
ولو وجد عندنا أكثر من أبي الطيب أحمد صدقي، في رأيه العلمي وخطه العملي، لوفرنا العدد الكبير من ضحايا تلك الحروب القذرة، بل أقول لما قامت تلك المشاكل والحروب في عدد من بلادنا العربية وغيرها.
ثم كانت له الحركة المباركة، حيث جمع التيارين الواسعين في المنطقة (الإسلاميون –والقوميون) وأضاف إليهم (الوطنيون) من المشرقين والمغربين، في لقاء كبير هو "المؤتمر القومي الإسلامي" الذي ضمّ الجميع سنة 1994، وتولى –رحمه الله- مركز المنسق العام له (الرئيس) ثلاثة أعوام.
وسار بالمؤتمر باعتدال ودقة، حتى كان كل فريق يرى أن الدجاني منه ومعه، وجمع هذه الآراء المختلفة أصلاً منذ مئة سنة، وهذا ليس من الأمور السهلة.
ولا أنكر فضل إخوانه الأكارم، الذين قاموا بأمور هذا المؤتمر، مثل الدكتور محمد سليم العوا، والإمام محمد مهدي شمس الدين، والعلاّمة يوسف القرضاوي، والشيخ فيصل المولوي، والأستاذ معن بشور، والباقين غيرهم.
ولذلك لم نجد في أيامه –ولا حتى الآن- أي اختلاف بين فردين في المؤتمر، ولا بين فريقين.
وتولى رئاسة المجلس الأعلى للثقافة والتربية والعلوم في منظمة التحرير الفلسطينية لمدة 20 سنة وكنت مع أولادي وأهلي من المعجبين بما يكتب سواء في مقالاته، أو ما ألّف من كتب، لأن لكل مقال له فيه طعم خاص، وقد يثير مشكلة تدور في بعض الأوساط، مع إيجاد الحلول المناسبة لها.
وكان يرحمه الله لا ينظر في أي كتاب يطبعه المكتب الإسلامي إلا ويثني عليه، بما يستأهل (أو لا يستأهل) ولكنه بلطف منه ينمّ عن روح طيبة مستحبة، يقدم ما عنده من اقتراحات حوله، ولو قدم ذلك من غيره لكان نقداً جارحاً.
وأخيراً شاهد كتابي "المقدمات" بأجزائه الثلاثة، فسأل: وهل تقف عند هذا الجزء الثالث؟
فقلت: لا، فأنا مع كلام إمامنا أحمد بن حنبل: "مع المحابر إلى المقابر"، وما دام المكتب يطبع وأنا أكتب مقدمات، فسيكون قريباً له الجزء الرابع!
فقال: "إذن اجعل لي فخر كتابة مقدمة للمقدمات"، فشكرته وقلت: "إذن ستكون مثل مقدمة ابن خلدون التي ضاع تاريخه فيها، وتضيع مقدماتي بها".
وقبل شهر اتصل بي أخي الدكتور هيثم الخياط، وقال: "التقيت مع الأخ صدقي وهو يكتب مقدمة لكتابك (المقدمات)، وقد بعث لابني علي برسالة فيها عن مشاهدته افتتاح المكتب الإسلامي بدمشق، وأنه أصيب بعارض صحي، وسيسافر مع أهله لزيارة ابنه في الإمارات.
وكان الموعد أن يحضر إلى بيروت –بعد ذلك- ولكن لم يحضر.
واليوم جاءني خبر وفاته في القاهرة عن سبع وستين عاماً، فلا أملك إلا أن أقول ما قاله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار وأجر".
وإننا يا أبا الطيب نحتسب الأجر فيك عند الله سبحانه، ونسأله تعالى أن يعوض علينا، وعلى أهلك وأولادك والأمة من فقدك الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بيروت: في 7 ذي القعدة 1424هـ الموافق 30/10/2003م.