القاضي الأديب: محمد سيرجية
القاضي الأديب: محمد سيرجية*
رئيس محكمة الاستئناف الأسبق بحلب
عبد الله الطنطاوي
"نص الكلمة التي أبَّن فيها عبد الله الطنطاوي أستاذه السيرجية في حفل التأبين الكبير الذي أقامه له في حلب في كانون الثاني 1976 على مسرح دار الكتب الوطنية بحلب".
بسم الله الرحمن الرحيم
"إلهي.. منذ اليوم الأول، الذي شعرت فيه أنني عبدٌ لك وحدك، شعرت أنني سيدٌ حتى على الأسياد..
إلهي.. إليك وحدك أقدم مفاتيح كرامتي التي لم تفتح أبوابها للتسلط، ولم ترفع الراية البيضاء لطاغية.
إلهي.. لغيرك، لا، لا، لن أسجد، لن أسجد"
أيها الأحبة
باسم المحبة أحييكم.. وباسم ناشد المحبة، شاعر المحبة، داعية المحبة..
باسم القاضي الكبير، فقيدنا الأديب الغالي أبي علي، أدعوكم إلى المحبة، محبة الإنسان للإنسان:
وإذا أراد الله إشقاء القرى جعلَ الهداةَ بها دعاة شقاقِ
باسم الرجل الإنسان، رفيق المدلجين، وصديق المحزونين البكائين..
باسم الرجل المتواضع الذي كان يؤثر مجالسة الشبان المثقفين الواعين، على مجالسة ذوي الجاه والمال والسلطان، لأنه يرى أن هؤلاء الشبان:
رجالٌ، دعاةٌ لا يفلُّ عزيمهم تهكُّمُ جبّارٍ، ولا كيد ماكرِ
وإذا هؤلاء الشبان يلتفّون حوله، ويجدون فيه أباً روحياً، ومرشداً هادياً، يقيم لهم الصوى على مفارق الطرق، وفي طاخيات الليالي، لأنه الأب المعطاء، وليس من أولئك الذين:
لا يبذلون لأجل الخير خردلةً إلا إذا قيل قبل الدفع: قد دفعوا
وقد علمهم أن يجأروا إلى الله بالشكوى من البخل المسيطر على النفوس:
إلهي.. لماذا خلقتَ العقول بعصرٍ تفكر فيه الجيوب؟
باسم هذا الرجل المتواضع، أدعوكم إلى الصبر، وإلى التحلّي بفضيلة التواضع، وأنتم تشهدون هذا الحفل المتواضع، لأننا لا نراه يفي الرجل حقّه. لقد آلى أبناء الفقيد أن يكرموا أباهم، ذلك الذي علمهم من ألوان الكفاح، ما يشحذ عزائمهم، ويذكي أوار عواطفهم.
أيها الأحبة
إن الشعور باليتم هو شعورنا يوم توفي من كنّا نلوذ به، لنشرف على الوجود من علٍ.. هذا الشعور باليتم جعلنا نحسّ بالمصاب الجلل الذي ألمَّ بنا، فراح كل منّا يردد:
صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها صُبَّتْ على الأيام عدنَ لياليا
ومع هذا وذاك، ترون العيون تدمع، والقلوب تحزن، والألسنة لا تقول إلا ما يرضي بارئها. وتروننا نحن، نأخذ العظة من هؤلاء الأحباب، يوارون في التراب، في تلك الشقوق الأرضية، غير الموسدة ولا الممهدة، ونحن نصيخ إلى عاشق الروح العليا، في ضمير الغيب، يهمس في ضمائرنا:
"كونوا في الدنيا أضيافاً، واتخذوا المساجد بيوتاً، وأكثروا من التفكير والبكاء، تبنون مالا تسكنون، وتجمعون مالا تأكلون، وتؤملون مالا تدركون".
وإن أنسَ لا أنسَ قوله في رمضان الفائت، وكان قد أصيب بالذبحة الصدرية:
- اسمع يا ابني قول ابن الزبير، وهو يرنو إلى ما تلده له لياليه، وقد انفضّ عنه أصحابه، والمتمسحون به:
- "إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط، إلا رجعت على ما بنت فهدمته.
وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه."
فعليك يا ابني يا عبد الله، بتقوى الله في سرّك وعلنك، ثم.. لا تخشَ غير الله، ولا تُبْدِ لغيره حاجتك، لأنه:
من لم يكن لله متهماً لم يمس محتاجاً إلى أحدِ
كان رحمه الله، روحاً تجسدت وانطلقت تخب بين الناس، تؤاخي بينهم، وتسعى جاهدة لنشر المحبة، وغرس غراسها في النفوس الملتاعة بعامة، ونفوس المحرومين منهم خاصة، أولئك الذين رأى الأحقاد تأكلهم، فمسح على قلوبهم، وعلى عقولهم، فكان له ما أراد. وإن كنت آسى على شيء في موقفي هذا، فعلى أن الأجل، لم يمهل الرجل، ليؤدي الرسالة التي ندب نفسه لها، رسالة المحبة.. ولعل هذا، إلى جانب اعتبارات أخر، كدماثة خلقه، وحضور بديهته، وطرافة نكته، ومرحه الوقور، وروحه الإنسانية.. لعلّ كل هذا، هو الذي حببه إلى الناس، وقربه من قلوبهم، لا تكاد ترى له مبغضاً، اللهم إلا إذا كان ذلك المبغض من أولئك الذين لا يرتاحون لمثل هذه النماذج الإنسانية الحية، وهؤلاء، لا قيمة لهم في معايير الرجولة والرجال:
لقد زادني حباً لنفسيَ أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائلِ
وأني شقيٌّ باللئام، ولا ترى شقياً بهم، إلا كريم الشمائلِ
لأن بغض هؤلاء، جَرَبٌ نفسي، تلوذ به عناكب الدمار والخراب.. ومع هذا كان يسعهم، يسع أعداءه قبل أصدقائه –إن كان له أعداء- وكثيراً ما كنت أختلف معه –رحمه الله- بشأن تعامله مع بعض الناس، ممن أنكر عليهم سلوكهم أو أخلاقهم، وهو نفسه ما كان يرضى عن ذلك السلوك أو تلك الأخلاق، ومع ذلك، كان يفتح صدره لهم، ويفتح بابه، ويحاول أن يساعدني –أنا صاحب الصدر الحرج- لأكون مثله.. ولكن.. هيهات.. فقد كان –رحمه الله- كالكوكب الهادي، يجد نوره كل ذي بصر، ولا ينال جوهره أحد ومن هنا كانت وصاته لنا بالحلم، وسعة الصدر، وامتداد الأفق، وبخاصة، مع من يعاديك حسداً، ويردد:
كلُّ العداوة قد ترجى سلامتها إلا عداوةَ من عاداكَ من حسدِ
أيها الأحبة:
ستستمعون بعد لحظات، إلى: السيرجية القاضي المتصوّف، والسيرجية الأديب، والسيرجية المجاهد، والسيرجية الإنسان، ولكن.. اسمحوا لي أن أبعثر في جِوائكم، بعض ما كنا نسمعه منه، في جلساتنا التي كانت تبدو قصيرة، برغم الساعات الطوال التي كنا نمضيها معاً.. مما له علاقة بهذه الأمور:
كان يشير إلى المفاسد الكبيرة التي تضطرب بها مجتمعاتنا المنكوبة بالكثير من أبنائها. ثم يستشهد، بمشاهداته الحياتية، وبما دبجته يراعته في الفصل الرابع من كتابه البديع: (حلم في عرفات) في تلك السياحة العصرية في السعير، حيث رأى ألواناً من المستغلين الجشعين، من رأسماليين ومهندسين، وقضاة وموظفين مرتشين، وأطباء غشاشين، وأغنياء جهلة شياطين، وعملاء يخونون أمتهم من أجل هذا الحطام، وعبيد منافقين.. وهؤلاء هم أعداء أمتنا..
هذه هي نظرته إلى مشكلاتنا ومسببيها، أما عن صوفيته، فحدّث ولا حرج.. ولعل القاضي الأديب علي الزكور يكفينا مؤونة هذا في كلمته، ومع هذا، اسمعوه يناجي ربه:
"إلهي.. لقد دخل الإثم إلى قلبي مع متاعب الحياة، وأخذني سلطان هذه الدنيا، وغرر بي في لطفك الغرور.
إلهي.. أنت تعلم أنني لم أخنك في الغيب بإسلامي، وعروبتي، ووطني وفلسطيني، وقضائي..
إلهي.. فابنِ لك بيتاً في قلبي تسكنه سكون الطاهر المطهر.
إلهي.. واجعلني لا ألمس الأرض إلا بأطراف قدمي، وعند أول خطوة إلى احتكاك رديء، اجعلني أطير إلى سمائي، وأنتقل إليك".
ولكن صوفيته هذه، لم تكن صوفية أصحاب الزوايا والتكايا والقعدة، بل كانت صوفية إيجابية واعية، اعتنقها بعد أن غاص في أعماق هذه الحياة، فبلا حلوها ومرّها، وذاق عسالتها وذاقت منه عسالته.. بعد أن خبر الحياة والأحياء، وجاهد ما وسعه الجهاد.. بعد هذا كله، اعتنق الصوفية، وعانقها عناق الأحباب..
"طوبى الرضى.. رضى الضمير.. لأولئك الصفوة الأبرار، الراغبين في جنة الشوك، الناعمين في جحيم الحياة، الراقصين على أهداب الموت، الهائمين في هوى (هو) المجاهدين في سهل بيسان".
ومن هنا جاءت ممهدات الغفران الجديد، تدعو المتصوفة إلى الجهاد، والمجاهدين إلى التصوّف.. يفتح عيون الملحدين على جمال الإيمان، وعيون المؤمنين على جمال الحضارة..
"ابتسم الفجر.. وابتسمت له الوردة الحمراء.. ومضى البلبل يسقيها غزله.. فهبوا أيها الصوفيون.. يا عشاق الجمال.. فقد نودي: حيّ على الجهاد، حيّ على شهادة وجه الجميل".
وعندما يُسأل: متى ننتصر على إسرائيل؟ يجيب:
"لن تنتصروا على إسرائيل، حتى تحبوا عزرائيل..
إن آباءكم كانوا يفضلون الموت على الحياة، فانتصروا.. وأنتم تفضلون الحياة على الموت، فانكسرتم، اطلبوا الموت، توهب لكم الحياة..
طبت حيّاً يا أبا علي.. وطبت ميتاً.. وطبت يوم تبعث حياً..
"يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي".
* مجلة الضاد الحلبية – ع 2 شباط 1976