رحيل أديب إسلامي في صمت!

د.حلمي محمد القاعود

رحيل أديب إسلامي في صمت!

بقلم: د.حلمي محمد القاعود 

كان الخبر صادماً، وإن كان متوقعاً، ولعل الصمت الذي رافق رحيله كان من وراء الصدمة، فقد كنت أتوقع أن يذاع الخبر على الناس ليعلم محبّوه برحيله بدلاً من إثارة الألم والشجن لدى أسرته حين يسأل عنه سائل أو صديق، ولكنه فيما يبدو آثر أن يكون رحيله صامتاً، مثلما كان يحب في حياته أن يعمل صامتاً، مخلصاً لفكرته، متفانياً من أجلها. 

لم يكن الصديق العزيز الراحل "محمد حسن بريغش" رحمه الله مجرد أديب أو حامل قلم، فما أكثر الأدباء الذين يحملون أقلاماً، ولكنهم يتخذونها وسيلة للتكسب أو الوجاهة الاجتماعية أو الشهرة في عالم الناس. بريغش حمل القلم دفاعاً عن قضية ودعوة لفكرة وتبشيراً بمستقبل، لذا كرَّس حياته وجهده لخدمة قضية "الأدب الإسلامي" والتعريف بها والذود عنها، وفقاً لقدراته وطاقاته، وقد ظلَّ وفياً لهذه القضية حتى وافاه الأجل المحتوم، لا ينتظر من الناس جزاءً ولا شكوراً، وقد تحمل في سبيلها ضريبة قاسية دفعها بصبر المؤمن وإخلاص المجاهد.

عرفته منذ سنوات بعيدة، وقد جاء إلى مصر، باحثاً عن شاعر شاب رحل مبكراً في عز شبابه، اسمه "هاشم الرفاعي"، وكان هذا الشاعر من طلاب كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، وتدفقت شاعريته مذ كان طالباً في المعهد الديني بالزقازيق، فتناول القضايا الكبرى وصورها بذوب مشاعره وأحاسيسه، حتى توفي فجأة إثر طعنة من شاب في نادي قريته، وكان شعر هاشم الرفاعي في ذلك الحين قد دار على الألسنة لقوة مضمونه وجرأته، وخاصة بعد أن بدأ النظام الجديد أوائل الخمسينيات يغير من توجهاته ويتناقض قوله مع فعله، وترك هاشم ديواناً كبيراً متفرقاً في الصحف والمجلات وأوراقه الخاصة، فجاء "محمد حسن بريغش" ساعياً لجمع هذا الديوان وتحقيقه، وبذل جهداً كبيراً في تصويبه وتصحيحه، وقدمه إلى الناس في مجلد كبير مسبوقاً بدراسة دقيقة مسهبة، تتناول الشاعر في حياته وظروفه وثقافته، وكان رحمه الله في العام قبل الماضي قد أرسل إليَّ يخبرني أنه سمع أن تحقيقاً جديداً صدر لديوان "هاشم الرفاعي" في المنصورة، ويريد نسخة منه، ولكي يحثني على الإسراع في إرسال هذه النسخة، أخبرني أنه سيرسل إليَّ "التكاليف"! وضحكت في نفسي، وأحضرت الديوان وأرسلته إليه عن طريق ولده في مكة بمعرفة أحد أصدقائه، وكتبت عليه إهداءً يعبِّر عما قدمه هو رحمه الله من فضل سابق، ولم أشأ أن أقول له إن الديوان بتحقيقه الجديد هو نسخة طبق الأصل، من تحقيقه هو مع بعض الحذف والتعديل، بالإضافة إلى مقدمة فيها كثير من التزيد والادعاء وغمط الحق، ولم يشأ رحمه الله أن يحدثني في الأمر، فقد علمت منه فيما بعد أنه دخل المستشفى أكثر من مرة بسبب "القلب"، وأنه تعرّض لأكثر من أزمة صحية، ولكنه يواصل الصبر والعمل بقدر طاقته.

ثم كانت انعطافته الكبيرة نحو الدعوة إلى الأدب الإسلامي، وهي التي نفذها وقادها عملياً عدد من الأدباء العرب في مقدمتهم الدكتور نجيب الكيلاني، والدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا رحمهما الله، والدكتور عبد القدوس أبو صالح، والدكتور عبد الباسط بدر، أطال الله عمرهما، وآخرون في العديد من البلدان العربية والإسلامية، وهي الدعوة التي صارت اليوم حقيقة واقعة في إنتاج كثير من الأدباء العرب والمسلمين، وفي رابطة الأدب الإسلامية العالمية التي أسهم بدور كبير في تأسيسها ومراحلها الأولى.

لقد كان "محمد حسن بريغش" ينطلق من تصور إسلامي ناضج، وكان مثالياً في تصرفاته وسلوكه إلى الدرجة التي جعلته يبدو أحياناً، وكأنه يتشدد، ولا يعترف بالمواءمة التي تفرضها الظروف القاهرة، ولكنه في كل الأحوال، كان نقياً ومخلصاً، وكان وفياً للصداقة والوعد، وما رأيته يخلف وعداً اتفقنا عليه، ويكاد يلتزم في مواعيده بالدقيقة، وإذا اضطرته الظروف لتأجيل الموعد أو التأخر قليلاً، فإنه يعتذر هاتفياً ويتأسف... وتلك آية الرجال الذين تربوا على مائدة الإسلام فغذتهم بأخلاقه وقيمه وسلوكه.

ومن سماته التي عُرف بها التزامه الدقة في كل أعماله، وخاصة ما كان منها متعلقاً بدائرة الوظيفة، فقد كان يتولى مراجعة الكتب التعليمية في تعليم البنات بالمملكة العربية السعودية، فجاء حرصه الشديد على أن تخرج هذه الكتب في أنصع صورة، سليمة التركيب والبناء، خالية من الأخطاء والتصحيف، نقية من الشبهات والاجتهادات غير الموثقة، وأذكر أنه قرأ أحد كتبي، وتابع تصحيفاته الكثيرة التي وقعت بسبب السرعة في إخراجه وطبعه، فرجوته أن يعطيني النسخة التي لديه مقابل أن أعوّضه نسخة جديدة من هذه الطبعة، ومن الطبعة الجديدة التي ستعتمد على النسخة التي قرأها، ووفيت بجزء من وعدي، أما الجزء الثاني فلن أفي به لأنه لن يقرأ الطبعة الجديدة!

لقد حركته الدعوة إلى الأدب الإسلامي كي ينتج مجموعة من الكتب ويكتب مجموعة من المقالات والقصص، ويحمد له رحمه لله أنه اهتم بالرواية الإسلامية في مجال متابعاته الأدبية والنقدية، والاهتمام بالرواية في الأدب الإسلامي يبدو أقل من الطموح المنتظر من حركة الأدب الإسلامي عامة، ولكنه أي الراحل الكريم بذل جهوداً طيبة في هذا السياق حيث استعرض العديد من الروايات التي كتبها أدباء إسلاميون، إلى جانب بعض المجموعات القصصية من إنتاجهم أيضاً، وكان تركيزه في المجال النقدي على المضامين أكثر من تركيزه على الخواص الفنية، ولعل اهتمامه بمسألة تنقية التصور الإسلامي لدى كتاب الرواية والقصة الإسلاميين من الشوائب الفكرية والعقدية، كانت من وراء هذه المبالغة في التركيز على مضامين الروايات والقصص الموجهة للأطفال، وتنقيتها من القيم المخالفة لقيم الإسلام.

كان الدكتور علي الحديدي رحمه الله من أوائل إن لم يكن أول من كتبوا عن أدب الأطفال، وكانت دراسته للدكتوراه، هي المرجع الذي تضمن التأريخ لمسيرة أدب الأطفال منذ العصر البدائي حتى العصر الحديث، واستعرض فيها التربية الإسلامية للأطفال منذ فجر الدعوة الإسلامية حتى العصر العباسي الذي يعد العصر الذهبي بالنسبة لمن كتبوا في تربية الطفل المسلم، وكان كتاب الحديدي مسايراً وخاصة في حركة الطفل في العصر الحديث للتوجهات الغربية، فلم يُبد موقفاً حاداً منها بالتأييد أو المعارضة.

ثم ظهرت دراسات وكتب أخرى تتبنى وجهة النظر الغربية، رأسمالية أو شيوعية، بصراحة ووضوح... فجاءت دراسة "محمد حسن بريغش" لتؤصل للرؤية الإسلامية في تربية الطفل المسلم، وتطرح التصوّرات البديلة للرؤى الأجنبية المغايرة للتصور الإسلامي، فضلاً عن رصد حركة الأدب الإسلامي للطفل على امتداد العالم العربي الإسلامي، مما دل على متابعة واعية للموضوع وحرص على تأصيل أدب أطفال متميز في بلادنا العربية والإسلامية، ويؤكد ذلك هذا الكم الكبير من المصادر والمراجع ذات الصلة الوثيقة بأدب الطفل، حيث قاربت أكثر من مائة مصدر ومرجع، فضلاً عن عدد هائل من الدوريات، ثم عدد كبير من البحوث المخطوطة، وتتعلق بأدب الطفل المسلم.

لقد كانت دراسة "محمد حسن بريغش" حافزاً للعديد من الباحثين والأكاديميين للكتابة عن أدب الأطفال الإسلامي، ومتابعة جوانبه المختلفة، الموضوعية والفنية، وهذا مما يحمد له، ويوضع في ميزان حسناته إن شاء الله تعالى.

كنت أتمنى أن أعرض لبعض نماذج نقدية وقصصية من كتابات الرجل، وأكشف عن بعض الزوايا في نظراته النقدية وتحليلاته القصصية، ولكن ضيق المجال، يهيئ لفرصة أخرى، أكثر رحابة وأهدأ عاطفة، ولكن يكفينا الآن أن نؤكد إخلاص الرجل لقضية الأدب الإسلامي، ومثابرته في الدعوة إليها، عبر كتبه، ومقالاته التي حملتها مجلات عديدة منها: الأدب الإسلامي، والمشكاة، والبيان، والمجلة العربية وغيرها من دوريات تصدر في العالم العربي والعالم الإسلامي.

يبقى أن نتوجه إلى الله العلي القدير بالدعاء أن يرحم فقيدنا، وينزله منازل الأبرار والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً