ديوان هاشم الرفاعي
جمع وتحقيق: محمد حسن بريغش
أشتات
بقلم: عبد الله الطنطاوي
مدخل:
شهرة الشاعر الشهيد هاشم الرفاعي ممتدة في الزمان والمكان، فقد كان لقصيدته البديعة: (رسالـة فـي
ليلة التنفيذ) أثرها العميق، وصداها البعيد، في نفوس شباب الحركة الإسلامية في كل مكان من ديار العروبة والإسلام، متجاوزة مصر وقاهرتها وأنشاصها، إلى دمشق وحلب، وبغداد والموصل، وعمان وبيروت، والجزائر والمغرب، وتونس والحجاز، وسائر المدن العربية، وكان تعاطف الشباب مع الحركة الإسلامية في مصر عظيماً،وكان الشباب يرون في هاشم الرفاعي ضحية من ضحايا الغدر والحرب على الإسلام والإسلاميين، وكانوا يحفظون هذه القصيدة، ويرددونها مع أنفسهم، وأمام الناس، ودموعهم تغسل لحاهم الطاهرة، وألسنتهم تلهج بالدعاء له ولشهداء الحركة، وتصف ما يلقاه الأحرار من الألاقي على أيدي الطغاة، وقلوبهم تتشح بالحزن، وتُعتصر ألماً، وتبتهل إلى القويّ الجبار، أن يخلّص الأمة من طواغيتها الفجّار، فقد اشتدّت المحن، وامتدّت لتشمل الأقطار المحكومة بالانقلابيين الثوريين، وهؤلاء دمويون، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى تسلكه، وكلّهم جاؤوا من المجهول، فلا يُعرف لهم أصل ولا فصل، وكأنما جيء بهم ليقمعوا شعوبهم، وينكلّوا بالأحرار الأبرار، فعلّقوا المشانق، وبنوا السجون والمعتقلات، واستوردوا الأدوات الجهنمية من أوربا الشرقية، ليعذّبوا أحرار هذه الأمة، ويزهقوا أرواحهم، ويقتلوا الإيمان والعزّة والكرامة في نفوسهم، تمهيداً لبيع الأوطان، ونهب خيراتها وثرواتها، وإفساد الناس، حتى غدا الفساد والإفساد نهجاً ينتهجونه، فكان ما كان من تخلّف وفساد في الأجهزة، والدواوين، والمؤسسات، ومن إذلال، وفقر، وهوان، فيما كان العدو الإسرائيلي يبني مفاعلاته النووية وأفرانه الذريّة، ويدرّب جيشه، ويحدّثه في كل آن، ليكون القاهر في المنطقة العربية التي تكفّل حكامها الثوريون بشعوبها وأحرارها، ليزدرد العدو أرضها وكأنها لقمة سائغة لا تحتاج إلى كبير جهد لازدرادها، وكان الفتى محمد حسن بريغش من أولئك الفتيان الذين تأثروا بشعر الشاعر الشهيد، واستمعوا إليه في دمشق عام 1959م، وهو يغلي ويفور أثناء الإنشاد الذي هزّ الناس هزّاً، بصوته الرخيم القوي الثائر الحزين، في زمن انكسار الكرامات، والهزائم الحربية، وما انبثق عنها من الهزائم النفسية، وخاصة قصيدته البديعة (رسالة في ليلة التنفيذ).
وانطلق الفتى محمد بريغش يفتش عن ديوان الشاعر، ولكنْ.. دون جدوى.. ولما سمع نعيه، ثار وغضب، وصبّ جام غضبه على الطواغيت، وازداد حنقه، وهو يفتش عن ديوان للشاعر الشهيد، بين العديد من دواوين الشعراء، فيلقى (طفولة نهد، وسامبا) وإخوتهما من الرضاعة والسِّفاح تملأ أرفف المكتبات، ولا يعثر على ديوان الشاعر الشهيد، إلى أن أخرجه محمد كامل حته، ووضع مقدمات لقصائد الديوان لا تتناسب مع مضمون تلك القصائد، ممّا أثار الفتى، ودفعه لتكليف صديقه الأستاذ منير الغضبان الذي كان يدرس في مصر، بالتفتيش عن أسرة الشاعر ويخبرهم بأن دارساً شامياً محباً لابنكم الشاعر الشهيد، يرغب في جمع آثاره الشعرية والنثرية، لإخراجها إلى النور ولتقديم دراسة موسّعة حوله، فقد ظلموه في حياته، ثم قتلوه ظلماً وعدواناً، ولا يجرؤ أحد على إنصافه في أرض الكنانة. واستجاب الصديق لطلب صديقه، والتقى أخا الشاعر، الشيخ مصطفى، الذي أفاده بمعلومات كثيرة عن حياة الشاعر وظروف استشهاده، وعن شعره، فقد كان الأستاذ بريغش قد أعدّ مجموعة من الأسئلة، ليطرحها صديقه الغضبان على الشيخ مصطفى، وأجابه الشيخ مصطفى عنها بأريحية، وحبّ، وتأثّر، فقد وجد ضالته في ذلك الشاب الشامي الذي يسعى إلى الكتابة عن أخيه الشاعر الشهيد، وإلى إخراج شعره للناس في ديوان وكتاب، من دون كذب ولا تزييف ولا افتئات على الحقائق.
كان ذلك عام 1969 وبعد عام توفي الشيخ مصطفى، ولكنّ الباحث الشامي مصرٌّ على مواصلة الطريق، فاتصل بشقيق آخر للشاعر الشهيد، وأطلعه على ما كتبه عن أخيه هاشم، وكان تجاوب هذا الشقيق رائعاً، فأفاد الباحث بمعلومات جديدة وكثيرة، وكشف له عن غوامض ما كان يعرفها من قبل، وعرف منه أن الشاعر الشهيد كان في سنواته الأخيرة صوتاً إسلامياً يصارع تيار الفساد، والتجهيل، والإرهاب، بشعره، ونشاطه الاجتماعي.
كان الشقيق الأول الشيخ مصطفى –وهو عضو في مجلس الأمة المصري- يخشى من بطش السلطات الناصرية إذا ما خرجت أشعار أخيه الشهيد إلى الناس، هذا وهو عضو في البرلمان المصري، فتصوروا، لهذا ما جرؤ على إعطاء شعره لمن كان يتصل به، وكان يكتفي بقراءة بعض الأبيات من القصائد الرائعة التي كتبها الشاعر الشهيد، وأخفاها عن عيون الرقباء الأنذال.
وبعد سنوات، سافر الباحث، إلى القاهرة، وإلى أنشاص، وبذل جهده لمعرفة المزيد من أسرة الشاعر الشهيد، ومن أصدقائه والمقربين منه، حتى حصل على دواوينه، وقرأ مذكراته، وصوّر آثاره، وعاد من القاهرة إلى الرياض ومعه كنزه الثمين.
وعكف على آثار الشاعر الشهيد مدة سنتين، حتى أنجز هذا الديوان الذي بين أيدينا، وبذلك حقّق أمنية غالية له كان يسعى إليها طوال عشرين سنة.
أنجز جمع الديوان الذي كان أشتاتاً في الصحف والمجلات وبين أكداس الأوراق الخاصة بالشاعر، وبأخويه، ثم أكبّ على تصحيحه، وشرح الغامض وتحقيق المشوش من كلماته وعباراته، حتى أخرجه في صورته التي بين أيدينا.. عمل دؤوب، وهمّة قعساء جعلت الديوان بين عينيه حتى أنجزه.
وبتحقيق الأستاذ بريغش لديوان الرفاعي، وإخراجه للناس بهذه الصورة، نستطيع أن نعتبره –كما قال الباحث بحق- هو الديوان الصحيح الذي ضمَّ بين دفتيه، سائر أشعار الشاعر الشهيد، متجاوزاً سلبيات الديوان الذي أصدره (حته) بتكليف رسمي ذي عيون وآذان وقلوب مريضة.
وبقي أن تظهر الدراسة المستفيضة لحياة الشاعر الشهيد وشعره، التي وعدنا بها الباحث اللبيب، وكذلك آثار الشاعر الأخرى، وهي مخطوطة وموجودة هي والمذكرات في مكتبة الباحث الذي وافاه الأجل قبل أن يتمكن من الوفاء بما وعدنا به من نشر الدراسة، والآثار المخطوطة، والمذكرات.. ولنا أمل كبير في أن ينهض نجله الكاتب الواعد حسن بالذي وعد به الكاتب الوالد، وذلك بالعكوف على ما تركه أبوه الباحث الناقد، ويكون باراً بأبيه الذي شغله المرض، ومتاعب الحياة، و(وفاء) الأصدقاء و.. عن إخراجها للناس بصورة تليق به كباحث، وبصاحبها الشاعر الشهيد المبدع، رحمهما الله تعالى، كما يكون منقذاً من الضياع، كما ضاع الكثير من مثل هذه (التركة) التي لا يأبه لها وبها كثير من الأبناء، فضاعت على الأمة كنوز العديد من أدبائها ومفكريها بعد موتهم، ولو أردت أن أعدّد أسماء الذين ضاعت آثارهم بعد وفاتهم، بسبب إهمال أبنائهم، وعدم اكتراثهم بها، لو أردت وفعلت ذلك، لأثرت الشجون، ولكان نزاع وخصام..أنا أطمع في هذا يا ابن أخي يا حسن، وإننا لمنتظرون، قبل أن يسطو اللصوص عليها، ويكون منهم ما يكون من اللصوص، وهاهم أولاء قد أصدروا طبعة جديدة من الديوان الذي تعب في جمعه وتحقيقه أبو حسن، وقد اطلع عليه الدكتور محمد حلمي القاعود، فوجده صورة تكاد تكون طبق الأصل لعمل أبي حسن، وما زيد فيه هنا، وحُذف منه هناك، لا يغيّر من الحقيقة شيئاً.. وهذا مؤسف، وقد تكرر مراراً، تكرر معي، ومع غيري، وهاهو ذا يتكرر مع أبي حسن.
الأخطاء المطبعية:
أساءت الأخطاء المطبعية إلى الديوان على قلّتها، في طبعته الثانية المزيدة المنقحة عام 1985 أما في الطبعة الأولى فكانت الإساءة أكبر، لأن الأخطاء أكثر..
ولست أدري متى نتخلص من هذه الأخطاء التي تسيء إلى العمل وصاحبه؟
وهذه السلبية متفشية في الكثير مما نقرأ من الكتب، وقليل هي دور النشر التي توظّف مدققاً حقيقياً يفهم اللغة، ويجيد علومها من نحو وصرفٍ وإملاء، ويحترف مهنة التصحيح والتدقيق، ويصبر عليهما.
إن مسؤولية دور النشر كبيرة في هذا المجال، وليس مقبولاً منها أن تزعم أنها تعتمد على تصحيحات المؤلف، فصاحب العمل يقرأ بعقله الذي كتب وألّف، وتعمى عيناه عن الأخطاء المطبعية.
وليس مقبولاً أن توظّف دار النشر مدققاً حديث عهد في هذا المجال، أو أن تكون بضاعته من العلم متواضعة، وفهومه محدودة، أو أن يكون من المغرورين بحيث يجعله غروره يتألّى على المؤلف، ويخطّئ الصحيح، ويُبقي على الخطأ المشهور والمتداول.
وقد قلت هذا الكلام وأكثر منه للصديق الفقيد أبي حسن، رحمه الله رحمة واسعة، كما قلته لكثير من الأحبة في سهراتنا الأدبية، وكنت وما زلت أتبرع وأعرض خدماتي المأجورة من الله وحده، في هذا المجال، واستجاب عدد من الأحبة، وقمت بتدقيق ما كتبوه قبل أن يخرج علمهم إلى النور، وقد أقرأ العمل بعد طباعته، وأضع ملاحظاتي وتصحيحاتي على هوامش الكتاب، ثم أعيده إلى صاحبه في رقّة ولين، حتى لا يغضب من تلك التصحيحات التي لا أريد منها – والله الشهيد على ما أقول - إلا خدمة الكاتب والكتاب اللذين أزرت وتزري بهما تلك الأخطاء عامة، والمطبعية خاصة.
وكتبت يوماً، معلقاً على إحدى دور النشر (الإسلامية) المصرية، كتبت كلاماً شديداً، لأن كتب تلك الدار التي سمّيتها باسمها في مقالي، تهين الكاتبين وكتبهم بإهمالها وقلّة ذوقها، حتى لم تسلم آيات الكتاب العزيز من التحريف، وأحاديث رسول الله الأمين من التشويه، وما تزال تلك الدار التي ما عدت أحبّها، ولا أحبّ القائمين عليها، وحرّمت على نفسي شراء كتبها، مهما كانت حاجتي إليها، وتطلّعي إلى اقتنائها وقراءتها، ولا أقبل لهم أي اعتذار في هذا المقام، فكل أعذارهم تعود إلى البخل والتوفير والربح غير المبرر، إلى جانب الجهل الفاضح بإساءتهم إلى أنفسهم، وإلى دارهم، وإلى المؤلف والكتاب معاً.
وإذا قارنّا الأخطاء الواردة في تحقيق الأستاذ بريغش لديوان الشاعر الشهيد هاشم الرفاعي، في طبعته الثانية، بما تخرجه تلك الدور (الناشرة) فإنها قليلة جداً، ولا تكاد تذكر، لأن منشورات تلك الدور محشوّة بالأخطاء التي أعجب من إصرارهم عليها، وعدم تعرّقهم خجلاً من كثرتها.
في العام الفائت وقع في يدي كتاب جديد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لكاتب مصري فهيم، ولناشر سعودي.. وكانت الأخطاء من الكثرة بحيث لا تحصى.. مضمون الكتاب جيد، ولكن الأخطاء النحوية، والصرفية، والإملائية، ثم المطبعية قد أساءت إلى الكاتب والكتاب والدار الناشرة، ولأني لا أعرف الكاتب ولا عنوانه، كتبت رسالة إلى الدار الناشرة في الرياض، وقلت للقائمين عليها: إن الكتاب رائع، ولكن الأخطاء فيه مروّعة، وأنا مستعدّ أن أشرف على طبعة جديدة له، ومجّاناً لوجه الله تعالى، وحباً لصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بشرط أن تجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق، وتتلفوها، إكراماً للصدّيق، رضي الله عنه، ولن يتأخر تصحيحي للبروفا، وتعهدت بإنجاز التصحيح والتدقيق في يوم واحد، لأن الكتاب ليس كبيراً، وأسلوبه رشيق، وخفيف الدم، وأنني سوف أعيده إليهم بالبريد السريع الذي يوصله إليهم في يومين اثنين فقط.
وضعت الرسالة في السيارة يوم جمعة، لأضعها في البريد في اليوم التالي، ولكني فوجئت بسرقة السيارة ليلاً، وظهر السبت اتصل بي من عثر –قدراً- على سيارتي المسروقة، وهي مرمية فوق ذروة جبل لا تصل إليها القرود السود. وعندما سألت المتكلم:
- من أعطاك رقم هاتفي لتتصل بي؟
قال: وجدت ظرفاً مرمياً على الأرض، زهد فيه اللصوص، وأنت كتبت فيه عنوانك ورقم هاتفك، فاتصلنا بك.
وهكذا عادت إليّ سيارتي المسروقة بسبب تلك الرسالة التي أردت فيها إنصاف الصدّيق رضي الله عنه. إنها من بركات القائد الجليل أبي بكر.
أما إذا سألتموني: هل تمّ المطلوب من الرسالة، فأقول:
أرسلت الرسالة إلى أصحاب الدار الناشرة، ولم يجيبوني، وهذا متوقع من ناس لا يريدون من أبي بكر الصديق إلا أن يزيد من أرباحهم، ويرضي جشعهم.
عرض خدمة:
لعل نسخ الديوان في طبعته الثانية قد نفدت، ولعل نجل المؤلف الأستاذ حسن بريغش يفكر في طبعة جديدة لهذا الديوان المهم الرائع الذي يستأهل كل خدمة، فإذا كان ذلك، فإني أقدّم نفسي لخدمة هذا الديوان، ولا أريد من وراء ذلك جزاء ولا شكوراً، ولا ذكراً بين الناس، أقوم بهذه الخدمة وفاء لأخي أبي حسن –رحمه الله رحمة واسعة- وللشاعر الشهيد- تغمده الله بفيض رحمته ورضوانه- فهو شاعر مبدع، قُتل مظلوماً، وظلمه الظالمون وأعوانهم وزبانيتهم والسائرون في ركابهم من أدعياء الثقافة، والنقد، وبخسه (أهله) حقّه، كما بخسوا غيره من الإسلاميين الأصلاء، كعلي أحمد باكثير، والأميري، ونجيب الكيلاني، والسحار، ومحمد المجذوب، وعلي الطنطاوي، وأبي الحسن الندوي، وسيد قطب، وعلال الفاسي، والزبيري، وسواهم من العمالقة.
تواضع:
والمؤلف المحققّ متواضع ودقيق فيما يقول، وليس متبجحاً، فهو يقول عن الطبعة الثانية "وفيها قليل من الزيادات والملاحظات" وغيره يكتب على غلاف كتبه: طبعة ثانية مزيدة ومنقّحة، وعندما نعود إليها لا نجد فيها زيادة ولا تنقيحاً، وإنما هي الدعاية للكتاب الذي (التهمه) القراء في مدة وجيزة، فطبعه طبعة ثانية وفيها زيادات وتنقيحات.
وبحكم المهنة، أعرف أن الطبعة الثانية المزيدة المنقحة لبعض تلك الكتب، لم تكن إلا للغلاف فقط، ذلك أنهم يطبعون من الغلاف طبعتين معاً، يكتبون عليه في المرة الأولى: الطبعة الأولى، وفي المرة الثانية: الطبعة الثانية: مزيدة ومنقحة، ثم يغلفون بضع عشرات أو بضع مئات من الغلاف الأول، وبعد أشهر أو بعد سنة يخلعون الأغلفة التي كتبوا عليها: الطبعة الأولى، ويضعون الغلاف الثاني وعليه: الطبعة الثانية، مزيدة ومنقحة، وقد يضيفون بضعة أسطر على ورقة جديدة يلصقونها في أول الكتاب وعنوانها: مقدمة الطبعة الجديدة، ترويجاً للكتاب الذي تملأ نسخه أرفف مكتباتهم ومستودعاتهم، ولا تجد من يشتريها.
وبهذه المناسبة، أنا أدعو السادة الكتّاب والمؤلفين أن يتأنوا في طباعة ما يكتبون، وأن يعيدوا قراءة ما كتبوه، حتى إذا وثقوا من أنفسهم ومن كتبهم التي سيدفعونها إلى المطابع، أقدموا، حتى لا يفاجأ القراء بطبعة ثانية (مزيدة ومنقّحة) فلا هم يشترون الطبعة الجديدة، ولا هم يثقون بالطبعة السابقة، وقد ينصرفون عن شراء كتب أولئك المؤلفين أصحاب الزيادة والتنقيح المزعومين.
وهذا الكلام غير وارد على عمل الأستاذ أبي حسن في هذا الديوان، وفي سائر كتبه الأخرى، لأنه يحترم نفسه، ويفرض مصدوقيته على القراء الذين لا نشك في ذكائهم وفي تمييزهم الأصيل من الدخيل.
فالمحقق هنا نقّح، وزاد، وأعاد ترتيب قصائد الديوان ومقطوعاته، فبعد أن كانت حسب تواريخ نظمها، جعلها، في الطبعة الثانية، حسب الموضوعات، اجتهاداً منه، ودفاعاً عن الشاعر الشهيد، كان اجتهاداً من الأستاذ المحقق، ولم نوافقه عليه، لأن هذا لن يغيّر رأي أولئك القارئين بالشاعر، بل العكس هو الصحيح، فهم عندما يقرؤون النظم الضعيف شكلاً ومضموناً في النصف الأول من الديوان، سوف يتسامحون مع الشاعر الفتى، لأنهم يعرفون أنه نظمه في مرحلة مبكرة من عمره، فهو من شعر الصِّبا، وقبل الالتزام ومقتضيات الالتزام، وبعد نقاش قال لنا الأستاذ المحقق:
- على أيّ حال.. هذا الذي صار.. فالدارس للديوان يعود إلى الطبعة الأولى، وعامة القراء يعودون إلى الطبعة الثانية.
قلت له، يرحمه الله:
- وقد يبدو لك بداء في الطبعة الثالثة إن شاء الله تعالى.
قال مبتسماً: قد.. وهات أعطني عمراً وصحة، وعافية، وفراغاً..
وكانت (قّدْهُ) هنا للتقليل، فقد كان يتكلم، وهو يشير إلى أكداس الأدوية التي كان يحملها معه حيثما سافر.
وفاء الكاتب:
وهذا التعب في إنجاز هذا الديوان، وفي كتبه الأخرى، يشير إلى بعض الخصال الرائعة لأبي حسن: الوفاء.. الوفاء لإخوانه، وأصدقائه، والمنتمين لمذهب (الإسلامية) في الأدب، فقد كان يتلقّف أبو حسن آثارهم، يشتريها، ويقرؤها، ويدرس بعضها، ويكتب عنها، بموضوعية لا تخلو من عاطفة إيجابية تجاه أصحابها الذين ظُلموا لمجرد انتمائهم إلى (الإسلامية) فسُدَّت في وجوههم سبل النشر والشهرة، ومكّنت الأنظمة وكتّابها ووسائل إعلامها لغيرهم، وتركتهم يعيشون في الظل، ولو استطاعت تصفيتهم جسدياً كما تحاول أن تصفّيهم معنوياً لما قصّرت، ولذلك، لم يقصّر أبو الحسن في الكتابة عن أولئك وآثارهم، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فيما قصّر الآخرون، وأنا منهم، فلم يكتب بعضنا عن بعض إلا لماماً، وقد يندم أحدنا على ما كتب عن (أخيه) ذات يوم، فيغفل كتابته تلك، ولا يضعها في الكتاب الذي جمع فيه مقالاته..
ترى.. هل هو الحسد؟ التنافس؟ القصور العقلي؟ الجفاف العاطفي؟ الخواء الروحي؟ لست أدري.. فقد تكون واحدة من هذه، وقد تكون جميعاً، وواحدة منها تكفي لإحباط العمل.
أما أبو حسن، رحمه الله تعالى، فقد كان وفياً لمبادئه، وللأدب الإسلامي، ولمذهب (الإسلامية) ولإخوانه، وقدّم جهده، فكتب وقرأ واستشهد بكتابات الإسلاميين، ونوّه بأعمالهم، كالدكتور عبد الرحمن الباشا، وعماد الدين خليل، والندوي، والحامد، وسيد قطب، ومحمد قطب، وعبد الله علوان، والكيلاني، وعبد الباسط بدر، وعبد التواب يوسف، ومحسن الندوي، وسعيد الأعظمي، وصالح الشامي، وعبد الرحمن الباني، ومحمد موفق سليمة، ومحمد بسام ملص، وعبد القادر حداد، ويحيى حاج يحيى، والدكتور عبد الكريم عثمان، والشيخ محمد الغزالي، والسحّار، وعبد الودود يوسف، والرافعي، والدكتور علي الهاشمي، وأحمد الجدع، وحسني جرار، وكتب عن أبي عاصم القاري، وإبراهيم عاصي، ومحمود مفلح، وحنان اللحام، ومحمد الحسناوي، ومحمد أبو رباص، وعبد الله عيسى السلامة، ومحمد السيد، ومأمون جرار، وحلمي القاعود، وعبد الودود يوسف، وسلمى الحوري، وهاشم الرفاعي، وعطية زهري، ومحمد منلا غزيل، وعبد الله الطنطاوي، وسواهم من الأدباء والشعراء الإسلاميين..
ولهذا لم يكن عجباً أن يهتمّ بالشاعر الشهيد هاشم الرفاعي، يسافر، وينفق، ويتعب، ويعاني، من أجل نشر شعره، والكتابة عن حياته، وهو الذي يعاني ما يعاني من أوصاب هذه الحياة، ومن أشدّها مرضه الجسدي، والأمراض الاجتماعية التي يعاني من أوهاقها كثيرون، وتنعكس على مثاليته، وإخلاصه لمبادئه وقضاياه، فيتحدث عنها بألم يمزّق الأعصاب، ونحاول صرفه عنها فلا يستطيع، والعرق يتصبب منه كأنه في حمّام..
ويا حسرة على العباد.