دمعة على محمد المجذوب

دمعة على محمد المجذوب

بقلم: محمد الحسناوي

أخي وأستاذي محمد المجذوب لم يكن غائباً عني منذ أن تعرفت إليه في اللاذقية عام 1954م، ولكن حين بلغني نعيه أوائل شهر حزيران من هذا العام 1999م أحسست لأول مرة بحضوره القوي، وبألم فقده المفاجئ في آن واحد.

ولد المرحوم الأستاذ محمد المجذوب في طرطوس،ونشأ عصامياً على حب الأدب العربي والدين الإسلامي، وأسهم في شبابه مجاهداً في مقاومة الاستعمار الفرنسي مع مجاهدي الساحل السوري البررة.

أسرته أسرة علم وأدب، ولكن جهوده الخاصة أسبغت عليه مزايا التفوق في الشعر والنثر وإصلاح المجتمع.

أول إنتاجه ديوانه (نار ونور) وهو مجموعة قصائد اجتماعية ووطنية، وأناشيد تربوية، وألحان وجدانية ذاتية، كان منها قصيدة (نجوى قبرة) التي تميزت بنفحة تجديدية، وقصيدة أخرى حول سحر (البزة - البذلة) التي جعلته في نظر أحدهم (باشا) أو (مسؤولاً) مرموقاً، فطفق يركع له، ويستجديه، ويطلب عونه وعطفه! وثالثة كانت نشيداً لابنه الطفل الذي يلهو بما لا يليق بمن يُهيأ للمكرمات من أبنائنا.

مجموعاته القصصية تنوعت بين القصص التاريخي والقصص الاجتماعي، فهناك سلسلة من القصص المتوسطة (شبه الرواية) للشباب للطلاب مثل (الكواكب الأحد عشر: قصة سيدنا يوسف عليه السلام) و(قصتان من الماضي: قصة موسى عليه السلام، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه)، و (مدينة التماثيل) و(قاهر الصحراء).

ومن مسرحياته (فارس غرناطة وقصص أخرى) وهي مسرحية تراثية تتحدث عن بطولات المسلمين قبل سقوط الأندلس.

أما قصصه الاجتماعية مثل (قصص من سورية) فهي قصص قصيرة ماتعة، تحكي بأساليب ساخرة، ساحرة سهلة صوراً من حياتنا الاجتماعية مثل مدّعي العلم أو الدين، فأحدهم يتسلّط على السذج من أبناء الريف يجبي منهم ما يشبه الضريبة أو "الجُعل" من زيت أو برغل أو دجاج أو سمن أو عسل أو عجل لا تملك الأسرة غيره، حتى إذا انصرف عنهم غير محمود، وسار في طريق العودة بين السيارات المتسابقة، ذهبت إحداهن بلطمة واحدة بكل ثروته المسروقة من لقمة العراة الجائعين.

شيء آخر يلفت نظرك ويملك إعجابك في محمد المجذوب تعوده الحديث بالعربية الفصحى، حتى إذا سمعته خطيباً أو متحدثاً في جمع -ولطالما حضرت أحاديثه ومحاضراته كل ثلاثاء- أحسست بالألفاظ والتعابير الفصيحة من جهة، والآيات والأحاديث الشريفة والأمثال العربية من جهة ثانية، تنثال على لسانه وخاطره انثيال الماء الزلال، لا يتلكأ ولا يتلعثم ولا يتفطّن، فضلاً عن تلوينه خطابه أو حديثه بألوان السياق من حماسة أو وصف، وبمراعاة الجمهور المستمع من مثقفين أو متوسطي الثقافة أو دعامة الناس.

جدير بالذكر أنه في المرحلة الأولى من حياته (1907 - 1964م) عمل في أواخرها فترة طويلة مدرساً للغة العربية في إحدى المدارس الثانوية الخاصة، وأسهم مع زميل له في تأليف كتاب مدرسي في اللغة العربية والنصوص الأدبية للصف الثالث الإعدادي، لم يكتب له أن يحوز على رضى مديرية التأليف في وزارة التربية آنذاك، لكنه طبع وتمّ تداوله بين الطلاب في الساحل السوري، واطلعتُ عليه، وهو جدير بالتقدير.

من ذكرياتي التي لا أنساها عنه -رحمه الله- تأثري العظيم بسماع ترتيله الخاص للقرآن الكريم لاسيما أثناء الصلاة، لقد كُتِب لي أن أصلي وراء علماء وأعلام في الحياة الإسلامية، لكن ترتيل أخي وأستاذي المجذوب لم أجد له مثيلاً في نفسي، وأحسبه من أصحاب التقوى والخشوع الكبيرين، ولا أزكي على الله أحداً.

حين سمعني ألقي الشعر في اللاذقية، وحين اطلع على قصيدة لي بعنوان (أنا طالب) التي أعجب بها، محضني حبه ورعايته، ورغب أن يكون لي كما كان أبو تمام للبحتري رحمهم الله تعالى جميعاً.

كان رأساً للعمل الإسلامي العلني في الخمسينيات في اللاذقية، وفي الساحل السوري كله، يرأسه ويديره ويشرف عليه ويسدد خطاه، ولما حصل انشقاق ضد المرحوم الدكتور مصطفى السباعي كان ضد الانشقاق، وحين وقعت محنة إخوان مصر كان المحامي الكفء عن شهداء الجماعة ومعتقليها، وحامل القلم الحصيف ضد الحملات الإعلامية في الصحف السورية مثل صحيفة"النصر" الدمشقية فضلاً عن صحف الجماعة آنذاك "كالمنار" اليومية "والشهاب" الأسبوعية و"المسلمون" الشهرية.

وعلى الرغم من ذلك شهدتُ له معركة أدبية في مجلة "الآداب" اللبنانية رفض أن يخوضها، ولأهل الفكر والأدب والنقد الأدبي أن يجلوا الأسباب التي حملت أخانا على رفض الخوض فيها. موجز الواقعة أن أستاذنا المجذوب نشر مقالة بعنوان: "محاولة في الشعر" ونشر معها قصيدة بعنوان "آه يا قبية آه" وذلك في مجلة "الآداب" عدد آذار عام 1954، في المقالة يسعى للتأصيل لعروض الشعر الحر شعر التفعيلة، والقصيدة نموذج  تطبيقي لمحاولة التأصيل لكن كاتباً من بغداد هو (علي الحلي) ردّ عليه في العدد التالي من المجلة رداً قاسياً، فيه ظلم وتجنٍّ، فلم يرد عليه المرحوم المجذوب، كما انقطع عن هذه المحاولة في التأصيل والشعر الحر شعر التفعيلة، وحتى عن الكتابة في المجلة المذكورة، وسوف أوضح الواقعة وتداعياتها وأهميتها في مقالة مستقلة إن شاء الله.

مما يتصل بهذه الواقعة أنني استشرته حين كنت أعمل مساعداً لأستاذنا السباعي في إدارة "حضارة الإسلام" حول فتح المجال للإنتاج الأدبي في صفحات المجلة، وللتشجيع على مناقشة النصوص المنشورة، فانفعل وحذّرني من مغبة المناقشات التي أساءت إلى مجلة "الآداب" على حد قوله.

كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم) مؤلف من ثلاثة أجزاء ضخمة، وهو لا يدل على سعة شبكة العلاقات العلمية أو الأدبية أو الفكرية التي جمعته بهؤلاء وحسب! ومعظمهم من قيادات العمل الإسلامي الحديث، بل يدل على تقديره وحبه لهؤلاء الأعلام، وعلى دقة ملاحظاته، وصدق تصويره لمزاياهم وجهودهم ومؤلفاتهم ودورهم في الحياة العامة.

المرحلة الثانية من حياته الحافلة (1964 - 1977م) قضاها أستاذاً في (الجامعة الإسلامية) بالمدينة المنورة، حيث كان له الأثر الطيب على تلاميذه الكثر، وعلى أصدقائه ومعارفه من مدرسي الجامعة ومسؤوليها، سواء بما تمتع به من علم ودين وافرين، أم ما تحلى به من حب للإسلام وللمسلمين، وتحرق لخدمة هذا الدين الحنيف، ونصرة أبنائه وشعوبه المضطهدة.

في هذه المرحلة لم ينقطع الأستاذ المجذوب عن نظم الشعر، فنشر أكثر من ديوان مثل: (ألحان وأشجان) و (همسات قلب) لكن تأليفه في معالجة أحوال المسلمين تتالى مثل: (ذكريات لا تنسى مع المجاهدين والمهاجرين في باكستان) و (الطريق السويّ إلى وحدة المسلمين). كما كتب في قضايا الفكر والمجتمع الإسلامي مثل: (مصابيح العصر والتراث) و (تأملات في المرأة والمجتمع) و (أضواء على حقائق) و (دروس في الوحي) و (من أجل الإسلام وحواريات أخرى) و (كلمات مضيئة) و(مشكلات الجيل في ضوء الإسلام) طبع سبع مرات و (في ظلال الإيمان)، كما أنه أسهم في الدراسات الأدبية فنشر: (نظرات تحليلية في القصة القرآنية) طبع أكثر من خمس مرات.

وهكذا نرى جهد الرجل خصباً ومتنوعاً من شعر وقصة ومسرحية ومقالة وسيرة حياة وذكريات، أثرى المكتبة الإسلامية، وترك علماً مفيداً يزكي صحيفة أعماله يوم (القيامة إن شاء الله).

أما المرحلة الثالثة والأخيرة من حياة الرجل (1997 - 1999م) فهي سنتان آثر الرجل أن يقضيهما في وطنه الحبيب في اللاذقية، مغلقاً على نفسه باب داره، يكمل مؤلفاته الأخيرة، ويدوّن مذكراته وسيرة حياته إلى أن اختاره الله تعالى إلى جواره، وقد نيف على الثالثة والتسعين. رحمه الله وأجزل مثوبته، وأنزله في مكان صدق عند مليك مقتدر.

إن فقد الأستاذ المجذوب مثل فقد الأستاذ علي الطنطاوي والأستاذ مصطفى الزرقاء.. خسارة كبيرة للعلم والأدب والإصلاح، لكن كلاً منهم خلف تراثاً نافعاً، وجيلاً إسلامياً تتلمذ عليهم، فيه الخير والبركة، والأمل المشرق، المبشر بانتصار الإسلام والمسلمين، بإذن الله، وفي ذلك عزاء لنا ولذويهم، ولا نقول إلا ما يرضي الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل.