رَحِمَ اللهُ الوالد
أبو بصير الطرطوسي
صبيحة يوم الخميس، في الأول من شهر صفر، لسنة 1424 من هجرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، هاتفني مهاتف ليُخبرني: أن والدي قد توفاه الله ..!
فراح ذهني مباشرة إلى ما قبل أكثر من ثلاثةٍ وعشرين عاماً ليستحضر تلك الأيام الخالية التي كنت فيها بجوار الوالد أراه ويراني، أسمع منه ويسمع مني .. حيث من ذلك التاريخ وإلى ساعة وفاته لم يرني ولم أره، ولم يسمع مني شيئاً ولم أسمع منه!
توفي الوالد ـ رحمه الله ـ عن عمر يُقارب الثمانين عاماً .. وكان من مناه ـ طيلة هذه الفترة من الغياب القصري ـ أن يسمع صوتي عبر الهاتف ولو لمرة واحدة .. يطمئن فيها عن حال ولده .. وما حال بينه وبين رغبته هذه إلا الخوف من أشاوس الظلم والطغيان من أجهزة مخابرات النظام البعثي الطائفي الطاغي الحاكم في سورية أن يُسائلوه ويُعرضوه لصنوف من الشتم والإهانات .. وهو الشيخ الكبير الذي لا يتحمل شيئاً من ذلك!!
ربما لو هاتفني الوالد ـ ولو لمرة واحدة ـ قد تتهاوى عروش الطواغيت الظالمين .. وينهار النظام الحاكم .. لذا كان لا بد للأشاوس من رجال أمن الطاغوت أن يتجسسوا على عورات الناس ومكالماتهم، ويُحيلوا بين الآباء وبين الحديث ـ ولو لمجرد السلام ـ مع أبنائهم!
ليت هذا الظلم كان مقصوراً علي وعلى عائلتي لهان الخطب وخف المصاب .. فمثل والدي في المجتمع السوري آلاف الآباء ـ خوفاً ورعباً من جلادي النظام البعثي الطائفي ـ يُمسكون عن الاتصال بأبنائهم الذين هجَّرهم كفر وظلم وطغيان النظام وحزبه .. ومثلي في بلاد المهجر آلاف من الأبناء ـ الذين ربما أصبحوا آباءً وأجداداً ـ يمسكون عن الاتصال بآبائهم وعائلاتهم رحمة بهم، وخوفاً عليهم من انتقام الجلادين!
إنها مشكلة المجتمع السوري بكامله؛ فما يكاد بيت من بيوت سورية المبتلاة بطغمة البعث وحكمه إلا ومنه شهيد أو سجين أو طريد .. وهي مشكلة قائمة إلى الساعة .. آلا لعنة الله على الظالمين.
اللهم إن كنت تعلم أن والدي قد حُرم من رؤية ولده والسماع منه لأكثر من عقدين إيماناً بك، وابتغاء مرضاتك .. وكفراً بالطاغوت وحزبه .. فاغفر له، وارحمه، واعفُ عنه، وتجاوز عن سيئاته كلها، واجعل قبره روضة من رياض الجنة .. إنك أنت البرُّ الغفور الرحيم.