حُروفُ وَفاءٍ مُتَعَثّرةٌ

هتون سامي فلمبان

[email protected]

أيّامٌ طوالٌ عشتُها بعد فراقِنا أتوقُ لأَن نلتقيَ من جديد، والأملُ يداعبُ قلبي مع إشراقة كل فجر أَن أهنأَ بمجلسٍ يضمّنا

معا ذاتَ يوم، ولقاءٍ يجمعنا بل لقاءات، أغرفُ فيها من معينِ حكمتك، وجميلِ نصحك، وبحرِ علمكِ الزاخرِ العميق.

كم سُعدتُ وأنا أجلسُ في فصلي الدراسيّ الأخير قبل تخرّجي على مائدةِ محاضراتكِ الغنيّة بأشهى وألذّ الفوائد، تقدّمينها مزيّنةً بابتسامةٍ حانيةٍ مشرقة، وتبثّينها بروحٍ تقطرُ محبّةً, ترجو لنا الخير وتخشى علينا كلّ شر، وبقلبٍ يئنّ لواقعِ أمّتِنا

المرير، يحملُ همّها بصدق ويعملُ لعزّتها بجدّ وإخلاص، تسكبين

بين أيدينا بروعةِ حديثكِ حقائق الإسلامِ العظيم ناصعةً واضحةً، ومفاهيمَه الصحيحة التي شُوّهت اليوم على أيدي المستشرقين والمستغربين، وأنصاف العلماء، أو حتى المتدينين الذين أرادوا إحسانا فأساءوا.

 تصحّحين فكرا خاطئا بأسلوبكِ السلس الرائع، وتروّحين عن النفوسِ بنكتةٍ لا تخلو من منفعة، تزيدكِ وقارا. تغرسين فينا في ساعةٍ ما لا نستفيده في أعوام.

 كنتُ أراكِ مثالا للحِلم والحكمة والتظوى والأمانة، حازمةً باسمةً، مربّيةً وقورةً وأمّا حنونًا، أحسبكِ كذلك ولا أزكي على الله أحدا.

 أبهجني أَن أجدَ طالباتكِ اللاتي أحببن العلم حقا يتسابقنَ لينهلن من علمكِ ويستضئن بسديدِ فكركِ ويتفقّهن في دينهنّ على يديكِ، وسرّني انجذابُ القلوب إليكِ، لتمدّ حبال الودّ والحب في الله بينها وبينكِ، وأَن يعتبركِ أولئك الزهىات الرائعات أكثر من أستاذة درّسَتْهنّ مادّةً علميةً، يَرَينَ فيكِ أمّا معطاءةً يتّسعُ صدرها ليسعَ الجميع، لتجيب عن تساؤلاتهن، تصغي باهتمامٍ لهمومهنّ، لا تألو جُهدا لتنفعهنّ بخبرتها وتجاربها التي اكتسبتها من مدرسة الحياة أو اقتنصتها من بين صفحاتِ الكتب.

 كنتُ أستبشرُ بهذا الحبّ الذي تكنّه لكِ فتياتٌ تنادينهنّ دائما

 بكلّ الصدق والحنان: بناتي. أستبشرُ خيرا علّكِ تكونين من أحبابِ الله الذين يوضعُ لهم القبول في الأرض..

 لا زلتُ أذكرُ سعادتي قبل أن أتخرّج ببضعةِ أيّامٍ حين اجتمعتُ وأخواتي في الله، وأخذنا نتحدّثُ عن مشاريعِنا بعد التخرّج، وعن أكثر الشخصياتِ التي أثّرت فينا، والمواد التي غيّرتنا، فكانت إجاباتُ الكثيراتِ تشهدُ لكِ بأنكِالأروع, بأنّكِ علّمتِ فأبدعتِ، وغيّرتِ في نفوسِنا كثيرا كثيرا.

فتحتِ أمامَ عقولِنا، آفاقا رحبةً لتحلّق وتفكّر لا أَن تظلّ أسيرةَ كتابٍ دراسيٍّ تحفظُه ثم تنساه

 أنّى حللتِ نثرتِ دررا وأمتعتِ وأفدتِ، وأنّى تحدّثتِ بنيتِ لكِ في القلوبِ عروشَ محبّةٍ واحترام

 أودّ وأنا معكِ لو أنّ السّاعة تُبطئ بل تتوقّف عن المسير، واللحظةَ تتجمّدُ فلا تنساب من بين يديّ لأظلّ في بستانِ علمٍ أقطفُ من أطايبِ ثماره، وأنعمُ بأريجِ أزهاره، وأشربُ من عذبِ مائه.

 ولكن، متى كان الزمانُ يتوقف?

 أم متى كانت خضرةُ البستانِ تبقى أبدا??

 بل متى رأينا في هذه الدنيا شيئا يدوم على حال، وكلّ ما فيها

 ومَن فيها إلى زوال?

 قد نُقشتْ كلماتكِ الثمينةُ على قلبي، وخبّأتُ ذكرياتي معكِ في صدري كأثمن كنزٍ أخافُ أَن يضيعَ منّي، وتركتِ بصماتكِ في نفسي

 ونفوسِ كثيراتٍ غيري، بل أجيالٍ وأجيال، علّمتِها الكثير، وبنيتِ داخلَها عقيدةً وخُلقا ودينا، ورسمتِ أمامها لوحةً رائعةً لرقيِّ الإسلام وسموِّه، حملتِ نبراسَ الهدى وأشعلتِ به العقول، فللهِ

 درّكِ مِن مربّيةٍ فاضلةٍ وأستاذةٍ قديرة وأمٍّ رؤوم.

 أعجزُ حقّا عن رسمِ ما ما اعتلج في نفسي وأنا أستقبلُ نبأَ رحيلكِ عن دنيانا الذي فاجأني، رحلتِ دون إنذار أو وداع، دون أَن أسمع منكِ لآخر مرة: (الله يرضى عليكِ ويسعدكِ) تترنّم بها شفتاكِ بصدقٍ آسر لتسعد قلبي.

 دون أَن أتلّقف منكِ عِبرةً أخيرة.

 ها قد ماتَ الأملُ في أَن ألقاكِ على هذه الأرض، لكنّه لم يمُتْ ولن يموتَ -بإذن الله- في أن نلتقيَ هناك في جنّاتِ النعيم على منابر من نور بإذنه تعالى.

 ها هي القلوبُ تودّعكِ، تبكيكِ بدموعٍ حارّة، تبكي مصباحَ علمٍ قد انطفأ، في زمنِ ليلِنا المدلهمّ، تبكي لأنّ ذهابَ اعلمِ بذهابِ أهله، تبكيكِ يا ذاتَ التقى والدين والخُلق والعلم

 قد ذهبَتِ الأفواجُ لأحبابكِ ومحبيكِ معزّيةً وكنتُ بينهم أعزّي

 أسرتكِ الحبيبة المعطاءة، التي لا تفتأُ قلوبُنا تدعو لمَن أسّس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، وعلمٍ وخُلقٍ وإيمان، تدعو لشيخِنا وأديبِنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وجزاهُ على ما

 قدّم وعمل خيرا وجعل الفردوس مثواه..

 ذهبتُ أعزّيهنّ وكنتُ أبحثُ عن العزاء، وجدتُهنّ كظنّي بهنّ صابراتٍ صامدات، رغم التأثّر بفراقكِ.

 لا أظنُّني أخطأتُ عطرَ الطمأنينة والرضى الذي يفوح من نفوسهنّ، فللهِ درّهن ما أروعهنّ! ثبّتهنّ الله وأجزل لهنّ الأجر.

 وهناكَ أيضا، وجدتُ أستاذاتٍ فاضلاتٍ شاركنكِ مسيرة البناء، كنّ

 يبكينكِ، يبكين صديقةً وأختا في الله ليست كأي أخت، ومربّيةً معلّمةً ليست كأيّ مربية ومعلِّمة. فهنيئا لكِ.

 كم من قلبٍ أحبكِ سيبتهل ويدعو لكِ، وكم من نفسٍ أنرتِ أمامها دربا بنور علمكِ انتفعت، فكان لكِ بإذن اللله صدقة جارية.

وكم من روحٍ حلّقتْ إثر كلمةٍ منكِ أو نصيحة ذهبيّة، ستبقى بصمتُكِ المتميّزةُ عليها ما امتدّ بها العمر، تشهد لكِ ببهاء سيرتكِ، وعظيمِ عطائكِ، وتميّز تربيتكِ وهكذا هو حالُ العظماء

 المربّين، وهكذا هو حالُ أولي العلم والدين..

 عُذرا إن تعثّرت كلماتي، وعجز قلمي، فمثلكِ أستاذتي لا تكفيه كلمات، ولن يفيَ بجميله قلمٌ لا يُحسن البيان.

 عن أيّ وفاءٍ أتحدّث? وأيّةُ حروفٍ لن تنسجَ لكِ ثوبَ الوفاء الذي تستحقين، وإني لأرجو أن أنتفعَ بعلمكِ الذي أهديتِنا إياه، وأنفعَ به، فيُكتب لكِ أعظمُ الأجر، وأنتِ مَن كان دوما -أحسبكِ كذلك- تطمحُ للأجر فقط ممّن يملكُ الأجر، وتخشى التقصير والوزر، وتكرّر على مسامعِنا: إنما تعاملُنا مع اللهِ لا مع البشر.

 وتنصحُنا بأَن نجعلَ رضى اللهِ وجنته نُصب أعيننا.

 رحمكِ الله أستاذتي (يمان الطنطاوي) رحمةً واسعةً، وأكرم نزلكِ، ورفعَ درجتكِ بكلِ كلمةٍ صادقةٍ نطقتِها، ونصيحةٍ وجّّهتها، وعلمٍ أغثتِ به نفسا حائرةً وروحا تائهةً تبحثُ عن الحق، وبنيتِ به في نفسٍ صرحا شامخا, وبكلِّ لحظةٍ تفانيتِ فيها وأنفقتِ من وقتكِ وجُهدكِ لتُهدي للإسلام أبناء بررة..

 رحمكِ الله، وأسكنكِ فردوسه، وجمعكِ بوالديكِ العظيمين وأختكِ

 الشهيدة بإذن الله، وجمعنا بكِ في دار كرامته.