خالتي التي ذهبت

حفيد أختك المحب: حارثة

بالأمس كتب أحد أولاد عمي هذه الجملة تحت اسمه في برنامج المحادثة[1]: "نحن نعيش في كذبة كبيرة"، وسبب ما صنع هو حدث أهمنا وقع منذ أسبوع تقريباً وعلمت به بعد وقوعه بنصف يوم تقريباً، إذ كنت أحدث أمي على الإنترنت، وكانت تدعني أتحدث عن أمور يومي حتى بدأت تسوق إلي النبأ الحزين، فأخبرتني بأن زوج خالتي كان عائداً بعائلته من مكة بعد زيارة عقيقة ثم عمرة قاموا بها، فلم يعبروا ثلثي الطريق حتى وقع لهم حادث مروع، وأتت سيارة الإسعاف تريد نقلها إلى المشفى فجاءت ابنتها الكبرى الطبيب تسأله عن حالها ولم يجب، ففهمت بنفسها ما عرفته أنا من بعد وفجعت للفراق. لقد ماتت خالتي!

لما فتحت عيني على هذه الدنيا رأيت أربع خالات[2]، وكانت الخامسة قد قتلت قبل أن أولد ببنادق قتلة مجرمين سنة واحد وثمانين وهي وحدها في دارها بألمانيا، ولم أعرفها ولكنها كانت محبوبة وكانت تذكر بخير. وكبرت وأنا أعيش مع الخالات الأربع، أظن أنهن يبقين إلى الأبد لأننا نظن أننا نحن أنفسنا نبقى إلى الأبد، وننسى أن الحياة في هذه الدنيا حياة زائفة لأنها حياة لا بقاء لها، وأننا مخلوقات هشة ضعيفة لا ندري متى تنزل بأحدنا نازلة تخرجه من هذا العالم إلى عالم آخر غيره. ولما رأيت أن أحد أولاد عمي كتب أننا "نعيش في كذبة كبيرة"، هيج بما كتب أفكاراً كانت تدور في ذهني منذ زمن عن زيف هذه الحياة التي نحياها. إني أعيش في عالم أراه أنه هو الحقيقة، أمسك بأشياء حقيقية وأستعمل أشياء حقيقية، ثم أذكر أن وجودنا مرتبط بشيئين، بالمكان والزمان. فأما المكان فهو ما يبدو لنا ملموساً بكل ما يشغل حيزه من المادة، والحيز ذو أبعاد ثلاثة هي ارتفاع وعرض وعمق. وأنظر بعد ذلك في الزمان، فإذا كنت أستطيع أن أمسك بالقلم الذي أكتب به وأحيط به حتى أشعر بوجوده فهل يسعني أن أصنع ذلك نفسه مع الزمان؟ إن الزمان أكثر تفلتاً من الزئبق فلا يمكنك أن نضع يديك عليه أبداً، لا بل هو كالسراب. فأين ما نريد من الزمان؟ نحن إنما نكترث من زماننا للحظة الحاضرة، فخبروني بالله عليكم أين هي هذه اللحظة؟ إن اللحظة التي ستأتي بعد ربع ثانية من قراءتك هذه الجملة هي مستقبل وأنت تقرؤها، ولكنها الآن أمست ماضياً وأنت تقرأ هذه الجملة التي تلتها! فأين هو هذا "الحاضر" وهو قبل أن يصير حاضراً كان مستقبلاً، ثم لما آن أوانه لم يلبث أن صار ماضياً! إن هذا الذي نسميه "الحاضر" هو كالنقطة في الرياضيات، والنقطة في الرياضيات لا أبعاد لها! أوتدرون ما هي النقطة في الرياضيات؟ إنها مجرد "موقع" حددت إحداثياته الثلاث ولكن لا طول لها ولا عرض ولا عمق، إنها لا شيء! وهكذا هي اللحظة الحاضرة التي نظنها حقيقة الوجود، إنها مجرد "نقطة" لا قرار لها، وهي جامعة المتناقضَين، معجزة في أننا لا نعيش دونها فنحن أبداً في لحظة حاضرة، ولكننا لا نشعر بها قط فكأنها لا وجود لها. إنها نقطة ما قبلها ماض وبعدها المستقبل وزمانها صفر، فأنى لك أن تحس بها؟ لقد صدق القرآن إذ يصف هذه الحياة بأنها وجود مؤقت وزائف، ولقد صممت لئلا تكون غير ذلك. إنها وجود خادع ظاهره الخضرة والحياة والجمال وحقيقته الشيخوخة والخراب والموت!

أما إننا لنعيش -حقاً- في كذبة ولماضون كلنا على الدرب ذاته! وأما أني جعلت عنوان المقال عن خالتي[3] وفيه هذا الاستطراد الكثير فسببه أني كتبته من أجلها فهو إهداء لها لن تراه لأنها لم تعد معنا بعد يومنا هذا.

رحمك الله يا خالتي، وإنا بك للاحقون

              

 

[1] أي على الشبكة العنكبوتية.

[2] هكذا نسميهن الخالات الكبار على الإطلاق اختصاراً لأنهن بنات الجد الكبير في عائلتنا (وقد يكون منهن أم أحدنا أو جدته)، وثلاث منهن هن خالات والديّ بالنسبة إلي أنا، والأخريان جدتاي (أم أبي وأم أمي).

[3] خالتي يمان الطنطاوي، كانت أستاذة في جامعة الملك عبد العزيز، ويستطيع من يشاء أن يقرأ على الشبكة العنكبوتية ما كتب عنها وهو كثير.