قصيدتك الأخيرة

قصيدتك الأخيرة

(إلى محمود درويش على شرفة يطل منها على ما يريد)

الشاعر محمود درويش

وليد ياسين

[email protected]

هي قصيدتك الأخيرة، زحفنا من أعالي الجليل وساحل الكرمل، وروابي المثلث، ورمال النقب، وجبال القدس والخليل وأريحا، ومن كل شبر في ارض فلسطين، لنقرأها عليك، هناك في المكان الذي اكسبه حضورك قدسية، وجعله نقطة الوصل بين شطري الوطن.

في ثرى الأرض التي احتضنت ياسر عرفات، وعلى شرفة تطل منها على ما تريد، على القدس، أودعناك يا سيد الشعراء، أمانة إلى ان تعود إلى الأرض التي جبلت منها، وأنشدت لثراها نشيد الحياة. "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، غنى قلبك الكبير فحملّنا أمانة المضي على دربك، كي تنتصر الحياة.

جئناك أيها الغائب الحاضر، محمود درويش، حاملين حفنات من تراب البروة والقدس وجبلناها بتراب رام الله، فالتحمت شرايين الوطن عبر شرايين قلبك، وأزهر اللوز واخضرّت أوراق الزيتون على حافة جداريه قاومت من على صفحاتها الموت، رغم الموت، وبقيت كلماتك كالناقوس تقرع جدران حصار حاصرته قصائدك فانتصرت وانتصرنا، ووثقت انتصارنا في إعلان شعبنا لاستقلاله "على أرض الرسالات السماوية"، صارخا في وجه الاحتلال والعالم وعصبة الأمم ان شعبنا "في قلب الوطن وعلى سياجه، في المنافي القريبة والبعيدة، لم يفقد إيمانه الراسخ بحقه في العودة، ولا إيمانه الصلب بحقه في الاستقلال".

وها أنت تعود، رغم الموت تعود، صارخا عبر "جداريه" الخلود: وكأنني قد متُّ قبل الآن.../ أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني/ أمضي إلى ما لستُ أعرفُ./ رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكان ما،َ/ وأعرفُ ما أريدُ...
لقد مضيت، لكنك ما زلت الحي فينا..

فأنت تعرف ما تريد، وأنت تطل على ما تريد، أنت الحي في كل حبة تراب من تراب الجليل والمثلث والنقب والقدس ورام الله وأريحا، أنت الحي في كل حرف دونته في قصيدة، وأنت الحي في الجموع التي جاءت لتغني قصيدتك الأخيرة، من دون أن توقع صك الرحيل القاسي وعذاب الغياب..

اعذرنا يا سيد الشعراء، اعذرنا يا قمر فلسطين، كنا نتمنى أن نأتيك بسبع سنابل خضراء لنزرعها على الشرفة التي تطل منها على ما تريد، لكن الموت استبق مواسم القمح وانتزع جسدك من بين أيدينا، لكنه لم ولن ينتزع اسمك وعنوانك وقصائدك وتراب البروة وخبز وقهوة أمك التي تدري ان لك اخوة يضعون على شرفتك قمرا وينسجون بابرتهم معطف الأقحوان.

ستبقى معنا.. وسنبقى معك، نواجه العابرين في الكلام العابر، نردد وصيتك: "لنا الماضي هنا/ ولنا صوت الحياة الأول/ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل/ولنا الدنيا هنا...والآخرة". 

يا أيها المسجى تحت أغصان الزيتون، اسمح لي بالانتماء إلى إخوتك، واسمح لي بأن أذرف دمعة، وأن أخالف وصيتك بترك الزهور للعريس، لأنك العريس ونحن أهلك، وقد أتعبنا الفراق مرتين: مرة حين تركناك تموت وحيدا، ومرة حين تركناك هناك على الرابية وحيدا.. لكنك هناك، أيضا، بين أهلك وأخوتك، هناك "يطير الحمام، يحط الحمام، وقد أعددنا لك الأرض لتستريح، وسنبقى نحبك وإن أتعبنا هذا الحب"، سنبقى نحبك، وإن كان هذا الحب سيفرض علينا كلما جئناك "امتصاص ألواننا في جواز السفر" عند بوابة قالوا إنها ستكون معبر حدود، لكنهم جعلوها كحظيرة مهينة، ذكرّتنا ونحن نعبر منها بعد أن ودعناك، بالليل الدامس قبل عقود.

أخي محمود، آه يا محمود، يمضي الأنبياء ويمضي الشعراء. لكنه أبدا يبقى في صدور أتباعهم واخوانهم سجل الخلود.