شهادة في حق الأديب محمد التطواني
محمد التطواني |
محمد سعيد الريحاني |
(بقاعة المركز الثقافي البلدي بمدينة القصر الكبير، السبت 26 يوليوز 2008)
تحية للجمهور الكريم الذي نتقاسم وإياه هدا المساء متعة حضور هدا الحفل التكريمي البهيج الذي تمنينا تحققه قبل عقد من الزمن تقويضا لفلسفة التكريم المعمول بها عربيا من الماء إلى الماء.
مفهوم التكريم بالمعنى المتعارف عليه عالميا يتأرجح ما بين مفهومين: مفهوم الاعتراف بعطاءات المكَرََمِ ومفهوم الاعتراف بالخطأ في حق الفاعلين الدين كانوا ضحايا الحيف كما حدث مع تكريم القديسة جان دارك في القرن العشرين بعدما حكم عليها حرقا قبل خمسة قرون خلت ضمن حملة "اصطياد السحرة" التاريخية المعروفة.
أما مفهوم التكريم في التقليد العربي فيقتصر على فئتين: الاحتفاء بالأجانب أو الاحتفاء بالشيوخ المحليين من الأدباء والفنانين والعلماء الدين ينتظرون ساعة انتقالهم إلى مثواهم الأخير كما حدث مع الراحل محمد الماغوط الذي توفي بضع ساعات بعد نيله إحدى الجوائز الخليجية الكبرى...
إن بنية التفكير العربي تعيش على هاجس الخوف من صناعة رموز ثقافية قد تتحول في مرحلة من مراحل حياتها إلى خصوم من العيار الثقيل بفعل التكريم والتوسيم والتوشيح في ربرتوارها. ولدلك فهي تؤجل التكريم والتشريف إلى حين وصول المكرم أرذل العمر..
فالتكريم ، في التقاليد الثقافية العربية، يقام على أساس "السن العمري" وليس على أساس "العطاء الإبداعي". وعلى ضوء على التوضيح، أود أن أتقدم بالشكر لهدا الإطار الجمعوي الذي كسر القاعدة واحتفى بكاتب يعود كل يوم بخطوة نحو شبابه.
مفهوم الشهادة الادبية:
عندما استدعتني اللجنة التنظيمية للمشاركة بورقة في هذا الحفل التكريمي للصديق العزيز محمد التطواني، قبلت دون تردد فمناسبة حضور تكريم الرجل تبقى فوق كل الأجندات وكل المواعيد. ولما طلب مني رأيي في مقترح إدراج اسمي ضمن المائدة الثانية الخاصة بالشهادات الأدبية، قبلت أيضا. لكن بعد افتراقنا، تساءلت عما يمكنني قوله في هده الشهادة. فتحت نقاشا مع بعض جلسائي القلائل حول مفهوم الشهادة وما يمكنني الإدلاء به في هده المناسبة التكريمية، فقال لي الجليس الأول مازحا:
- هل ستذهب لنشاط ثقافي للتشهد؟
أما الجليس الثاني فلم يكن أقل مزاحا إذ قدم مفهومه للشهادة كما يلي:
- الشهادة صعبة، اشهد بما رأت عيناك فقط!
وحده الجليس الثالث بدا لي جادا في حينه إذ قال:
- إدا كان المكرم صديقا لك واستُضِفْت للإدلاء بشهادة في حقه، فكرمه أنت أيضا بالتركيز على نقاط القوة والإيجابية في علاقة صداقتكما. فإنك بإدلائك لهده الشهادة لن تجامله لتبقيه على ما هو عليه بل ستساعده على التعرف على قواه وإمكانياته كي يتغير أسرع من أي وقت فات ويعي إيجابياته فيصبح أفضل من أي وقت مضى...
ولما اختليت بنفسي واسترجعت المفاهيم الثلاثة لجلسائي الثلاثة، قررت أن تكون شهادتي تجمع التصورات الثلاثة جميعا وان أشهد، كما قال الجليس الثالث، بنقاط القوة والإيجابية في تجربة صداقتي بمحمد التطواني؛ وأن أحصر الشهادة، كما قال الجليس الثاني، فيما عاينته عن كثب؛ وان أعلن هده الشهادة على طريقة التشهد، كما قال الجليس الأول، عالية وصادقة...
عن صداقتي بمحمد التطواني:
تعرفت على الصديق محمد التطواني من خلال رسالة بعثها إلي قبل سنوات يخبرني فيها بأنه عثر على عنواني بعد جهد جهيد وبأنه كاتب من مدينتي ويقيم بأرض المهجر وانه قرأ لي نصا قصصيا قصيرا عنوانه "في انتظار الصباح" نشر على جريدة "الزمان" اللندنية التي توزع بشكل واسع في أوروبا الغربية بما في دلك مدينة ايندهوفن الهولندية حيث يقيم. كما أخبرني بأنه عرف بأنني من مدينة القصر الكبير من خلال التوقيع الذي احرص دائما على إدراجه أسفل كل نص حررته وهو التوقيع الذي يتضمن تاريخ تحرير النص والمكان الذي كتب فيه...
وهكذا بدأت علاقة تعارف من خلال تبادل الرسائل والنصوص ثم المشاريع الإعلامية والأدبية حتى كللت بلقاءات فعلية مُعَزَزَةً صداقتنا التي بدأت افتراضية وانتهت حقيقية بين صديقين لم يفلح فارق السن وبُعْدُ الجغرافيا في وقف عشق الكتابة الذي يوحدهما..
لقد كان محمد التطواني منجذبا على الدوام إلى مدينة طفولته، القصر الكبير. فقد كان يفكر دائما في الاستثمار الإعلامي بالمدينة وقد اقترح علي مرة التأسيس والعمل المشترك في جريدة محلية أتولى إدارتها وتسييرها بحكم تواجدي في عين المكان بينما يتكلف هو بالدعم والترويج والتعريف بها في هولندا... لكنني لم أتحمس للفكرة مما أثار غضبه في البداية. لكنه أقتنع أخيرا بأنني لست صحفيا وبأنني حتى في الحوارات الأدبية التي أجريتها مع أدباء آخرين والمنشورة على الصحف المغربية والعربية لم تكن أسئلتي تتصف بالتواضع الذي يميز الصحفي بل كانت أسئلة تطبعها "الندية" من خلال طرح "إشكاليات" ثقافية وليس مجرد أسئلة صحفية.
ولأنني رجل كتاب وأعتبر الكتاب أسمى الإنتاجات الثقافية وما دونه مجرد "وسائط"، من تلفزة وإذاعة وجرائد ومجلات، فقد حاولت تحويل اتجاه مشروع استثماره في الإعلام إلى مشروع استثمار في الأدب. والنتيجة سأعلنها، عند نهاية هده الشهادة، "مفاجأة سارة" لعموم الحضور الكريم ولكل لناشئة المدينة من عشاق الكتابة الأدبية.
الدين يعرفون محمد التطواني عن قرب يعرفونه بالكرم. لكن الكرم الذي يهمنا هنا مختلف عن الكرم الذي يميزه به الناس. ونحن نشتغل سوية في مجال واحد هو "المجال الرمزي"، فما أُثَمِنُهَ في الرجل هو دالك الفعل الذي لا يستطيع كاتب آخر القيام به. إنه يجود على القراء بآخر إصداراته حتى قبل نزولها إلى المكتبات وبالمجان. فتراه يضع رهن إشارة جمهور نشاط ثقافي إصداراته بالمجان. وله قصة طريفة مع أحد باعة الكتب المتجولين بمدينة العرائش. فقد وجد محمد التطواني لدى البائع كتابا وحيدا من بين كتبه المنشورة، فسأله إن كان لديه أعمال أخرى لنفس الكاتب فقال له البائع بأنه مند سمع لأول مرة بأن محمد التطواني يتبرع بكتبه للعموم وهو يواظب على زيارة القصر الكبير لتصيد الفرصة لكن بلا نتيجة ولدلك كان الكتاب المعروض هو كل ما لديه.
لكن المدينة التي أنتجت محمد التطواني وزرعت الكرم في سلوكه هي ذات المدينة التي زرعت الكرم في نفوس وسلوك مبدعين آخرين من أبناء المدينة. وإذا كان كَرَم محمد التطواني مُنْصَب على مستوى الكتاب الورقي، فإن باقي الكُتََاب من أبناء المدينة اختاروا أن يكرموا القارئ ولكن على مستوى مختلف، على المستوى الرقمي. ولدلك عرضوا أبحاثهم وإصداراتهم مجمعة في كتب إلكترونية مجانية وفي متناول الجميع. بدأ هده التجربة الكاتب محمد أسليم مع نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرين على موقعه الإلكتروني الذي يحمل اسمه، وتلاه بعد دلك موقع "ريحانيات" سنة 2003 ولا زال الموقعان الإلكترونيان المذكوران، بالإضافة إلى موقع "أنفاس"، قبلة تحميل الكتب الإلكترونية المجانية على الصعيد المغربي ككل.
فالكرم كسلوك والتفاؤل كفلسفة حياة هما وجهان لشخصية واحدة اسمها: محمد التطواني. ففي الأسبوع الماضي، خلال مداخلته، تفاءل محمد التطواني بالتطور الحاصل في المدينة والذي يذكره بما يجري في التقاليد الأدبية بهولندا ودول الغرب عموما وهو يرى جمعية للحرفيين التقليديين بالمدينة تقيم حفلا تكريميا لاسم آخر من حملة القلم بالمدينة، قائلا بأن الهوة بين التجارب الأدبية في الغرب وبين التجارب الأدبية في الوطن بدأت تتقارب مستشهدا بأن الأديب قي الغرب قد يكون"شاعرا خرازا" أو"روائيا جزارا" أو"مسرحيا إسكافيا". ولحبه لمدينته ولوطنه، فقد اعتبر النشاط الثقافي المنعقد أواخر الأسبوع الماضي ميلادا لهدا التقارب الحضاري...
أعجبتني الفكرة وأعجبني حماس صاحبها ووطنيته التي لا يجادل فيها أحد ولكنني احتفظت لنفسي برأيي المخالف. فجمعية الحرفيين التقليديين التي أقامت حفل التكريم الأسبوع الماضي قامت بالحفل بدافع الغيرة على الفتور الثقافي بالمدينة وليس بدافع رغبة أعضائها الشعراء في النشاط الأدبي. إن ما حرك جمعية الحرفيين التقليديين في اتجاه تكريم الأستاذ مصطفى الطريبق الأسبوع الماضي هو ذات الدافع الذي جعل الجمعية المغربية للصحافة والإعلام تحيي هدا الحفل التكريمي للأستاذ محمد التطواني هدا الاسبوع: إنه دافع ملء الفراغ الذي خلفه "فتور عمل الإطارات الجمعوية الأدبية في المدينة".
إن ما جرى يوم السبت الماضي وما يجري هدا السبت وربما سيجري السبت القادم أيضا، ليس أكثر من "لجوء أدبي" ، باستعارة لفظة "لجوء سياسي" الشائعة التداول. إن الأنشطة التي نحضرها في ضيافة جمعيات ذات اختصاص مختلف لأمر يستدعي أكثر من وقفة:
فلماذا لا تقوم الجمعيات الأدبية بتكريم الأدباء ما دام الأمر يتعلق بمجال من مجالات اشتغالها؟
أين التاطير الجمعوي الأدبي ما دام أغلب الكتاب المنشور لهم تخرجوا من خارج الإطارات الجمعوية بالمدينة؟...
أين موقع الجمعيات الأدبية من مِحْنَةِ كُتََابِ الإصدار الأول من أبناء المدينة الدين يلجؤون لإقامة حفل توقيع بأنفسهم ويوزعون الدعوات بأيديهم؟
لمن تترك الجمعيات الأدبية وظيفة التاطير وتاهيل المبدع والمثقف؟
هل تتركها للمدرسة؟
المدرسة، بأسلاكها السبعة من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي، لا تنتج سوى "المتمدرسين" الدين يراجعون ولا يناقشون، يطالعون ولا يقرؤون، مرجعياتهم مواد المقرر وليس كتب رفوف الدنيا...
لمن تترك الجمعيات الأدبية وظيفة التاطير وتاهيل المبدع والمثقف؟
أم أن الجمعيات تتنازل عن هدا الدور التاطيري لفائدة المعاهد ومراكز التكوين؟
المعاهد ومراكز التكوين تُخَرَِج ُ"الموظفين" الدين يتحركون في مجالات مختلفة: مجال الراتب والترقيات وسلم الأجور والرقم الاستدلالي...
إن الجمعية تبقى وحدها الإطار المنتج للمثقف الحر ما دامت الثقافة تعادل بالضرورة الحرية التي لا يمكن تصورها حاليا كأولوية في المدارس والجامعات والمعاهد ومراكز التكوين. وحدها الجمعية في حدود اختصاصها تنتج المثقف أو المبدع. وإذا شابت الجمعية الثقافية الشوائب، تَخَرََجَ المثقف أو المبدع من حيث لا أحد يدري لأنه يستحيل تصور وجود دون مبدع حر ودون مثقف حر. فالمبدع إما ينمو من داخل الجمعية الأدبية أو ينمو متوحشا كأي نبتة متوحشة في البراري لكنه قطعا لا ينمو في المدارس والجامعات والمعاهد ومراكز التكوين...
إن فكرة الأديب المزاول لحرفة تقليدية أعجبتني لكن مشاهدات صديقي محمد التطواني ل "الشاعر الخراز" و"الروائي الجزار" و"المسرحي الإسكافي" في بلاد الغرب تقابلها هنا في بلاد المغرب "المجاز الخراز" و"الدكتور الجزار" و"المهندس الإسكافي"... أما المفهوم الغربي ل "الشاعر الجزار" فلم يتكرر في تقاليد هده المدينة مند خمسمئة سنة على وفاة رائد الزجل المغربي الشاعر عبد الرحمان المجذوب الذي عمل بمدينة القصر الكبير جزارا بحي "الجزارين" بالمدينة القديمة.
جائزة محمد التطواني للقصة القصيرة:
وبالعودة إلى المشروع المفاجأة الذي تحدثت عنه في بداية هده الشهادة، يسعدني ، كصديق لمحمد التطواني، أن أكون قد وفقت في إقناعه بتغيير رأيه من تأسيس جريدة محلية تنهشها النميمة بكل أشكالها، النميمة السياسية و النميمة الثقافية و النميمة النقابية و النميمة الرياضية، إلى الإعلان عن جائزة محلية للإبداع المكتوب، وليكن هدا الإبداع سردا ما دام صاحب الجائزة كاتب قصة ورواية، بروايتين وأربع مجاميع قصصية ورقية منشورة.
وبهده المناسبة الكريمة ومن باب تواضعه المعهود، فقد طلب مني الصديق محمد التطواني أن أعلن، نيابة عنه، عن إطلاق جائزة للقصة القصيرة حصريا لفائدة الناشئة من الأقلام الموهوبة بمدينة القصر الكبير ممن لم يتعد عمرهم سن الخامسة والعشرين لحظة إعلان الفائزين بالجوائز. ولا اعتقد أن أحدا من الفاعلين الثقافيين بالمدينة يمانع في العمل ضمن أعضاء لجنة قراءة وفرز النصوص ما دام الهدف نبيلا وهو إسعاد الناشئة كما سعدنا في بداياتنا بأول نشر لأولى نصوصنا التي لا زلنا نذكرها وسنبقى دائما نذكرها بفخر كبير.
ختام:
في مرحلة الشباب، يحتاج المرء إلى الكثير من الخلافات لكي يتطور وينمو وينضج. لكنه حين يتقدم به العمر، فإنه لا يتذكر غير اللحظات السعيدة التي عاشها والذكريات الجميلة التي حضرها كمناسبتنا هده. فدامت لكم المسرات خزانا من البهجة يحفظكم من سواد الأحزان ودامت لكم السعادة خزانا من القوة يقيكم سواد الإحباط. والسلام عليكم.