كلمة وفاء للشاعر الذي غاب، زوجة الشاعر الراحل عمر أبو ريشة تكتب في الفرسان

مرت الذكرى الأولى لوفاة الشاعر العربي، الكبير عمر أبو ريشة، في ظروف مشابهة لتلك التي رافقت رحيله.

لقد كان غياب أبو ريشة في ذروة أزمة الخليج، فلم تتح الفرصة المطلوبة لوداعه بالشكل الذي يليق بشاعريته الكبيرة.. وبعدما اقتصر التكريم على إصدار قصائد له وفيه، نشرتها بعض المجلات الثقافية والفكرية المتخصصة.

"الفرسان" التقت زوجته، السيدة سعاد مكربل، فخصتها بهذه الكلمة التي تعبر عن الأسى واللوعة والحب لمناسبة ذكرى الشاعر أبو ريشة.

هذه الأبيات هي ثروة اعتزازي، هي رواية فخري واعتدادي، هي قطرات مقدسة من روح عمر الطاهرة، تنعش أيامي الخاوية، وتنير ليالي المظلمة، هي أحرف من نور نحتت بخطه على سجل عمري إلى الأبد.. أما قصتي معه فليتني أملك براعة القدرة وزهوة الإبداع في تصويرها.. قصتي مع عمر أبو ريشة هي حكاية عمري كله.. حكاية مضممة بأنفاس قدسية اللهثات.. قصتي معه هي عباب يمّ من المشاعر المرهفة، هي أمواج أنسام من رقة الإحساس.. قصتي معه هي سلسبيل النغم العذب... وعبق البيلسان الزاهي.. قصتي معه هي وهج شعاع تألق في عتمة أيامي الباردة.. قصتي معه هي صورة جريئة الخطوط جريئة الألوان..

كيف أعرف يا أختاه عن قصتي مع عمر.. لا بل كيف أعرف عن قصتنا معاً.. ثلاث عشرة سنة من السعادة مرت كومضة برق، كانحدار نجم.. ثلاث عشرة سنة.. كانت ملحمة غنية القوافي ثائرة المعاني، خصبة العطاء.. بالأمس كانت مياسة راقصة.. واليوم أراها تتهادى ساكنة هادئة.. وللغد سوف تكون ذكرى جليلة خالدة تنقلها الأجيال للأجيال..

ماذا أروي عن عمر أبو ريشة وكيف لي أن أتحدث عنه وقد ضاقت السماء والأرض به.. في كل سفح له خطوة .. فوق كل منبر وقفة عز.. وعلى كل سجل له بصمة حضور.. ماذا أتكلم عن ذلك الرجل الرجل.. ذلك العملاق الذي كان ولا يزال عندي عالماً من رجال.. قصتي معه هي حلم غفت على ترفه بيض أيامي.. تمايلت في مجلاة عرائس شبابي.. تناغمت على أوتاره نزعات أنوثتي.. كم وكم حملتني أجنحة التمني إلى جنات المستحيل.. إلى مطاف الخيال الخصب.. خيال أغنى رؤيا بكنوز السعادة والبشر.

آه ثم آه تنطلق من مجاري أوردتي.. ومرتع خلايا جسدي لعلي بها أخفت بعض ما يتأجج في كياني من لهب الأسى الحزين.

رحل عمر أبو ريشة.. أجل رحل عمر لكنه لم ولن يغيب.. إن عمر أبو ريشة لن يكون سيفاً على جدار في متحف الآثار.. رحل عمر، حضوره ثابت فناً، عمر خالد خلود الكلمة الحرة الجريئة.. إن حضوره أبدي في صدر كل شاعر أنوف سيد.. لا لا لن يغيب عمر.. إن حضوره متجدد عبر العصور في قلوب النخبة المثقفة من الأجيال المقبلة على مر العصور.

إن قصتي مع عمر، لا بل قصتنا معاً، سوف تنشر، سأنشرها بناء على رغبته ووفاء لعهدي له.. سأنشرها لتكون شعلة مضاءة عبر السنين تنير درب كل عاشقة وعاشق ما دام الحب يزهر وما دامت هناك قلوب تخفق.

قصتي مع عمر أبو ريشة هي لعبة الأقدار.. أفي غفلة أم في يقظة من الأقدار حملتني تلك الرياح السماوية على أجنحة المجهول إلى تلك البقعة البعيدة في الأرض الواسعة.. هناك هناك التقيته وتوقف الزمن.. صغر العالم.. التقيت عمر لا أعرف كيف.. لا أعي كيف حطّ بي زورق المقدور على شاطئ الرؤيا الشفافة في عالم النعمى ومطاف الجمال..

هناك، بعيداً بعيداً، فوق هضبة في أعالي جبال رومانيا الرائعة جمعتني به، في تلك البقعة التائهة، وجدت نفسي تائهة أسرح الطرف باندهاش أبله في ما يحيطني من إبداع الخالق.. في تناغم المناظر الخلابة والصور الساحرة.. غمرتني نشوة الإبداع الإلهي في ما أبدع واستولت عليّ لحظات انهيار.. غبت عن نفسي، سكرى بعطر الغابات العذراء وعبق الأشجار المعمرة.

وأنا ما أنا عليه تراءت لي أيد تمتد من كوى الغيب تومئ لي، تناديني، تحييني، لست أدري.. وفي غمرة الذهول، علا صوت صدى، متناغماً مع ارتعاش النسمات وخرير المياه الرقراقة المتدفقة إلى المنحدر على مقربة مني.. كان صوت يردد: "إني هنا، إني هنا"..

وتسمّرت حيث أنا مرهفة السمع، يقظة الإحساس.. مأخوذة اللب.. اتطلع حولي متسائلة.. أين أنا؟؟ واعتراني شبه دوار بهرتني.. بهرتني الرؤيا حين عادت تسطع أمام عينيّ.. عادت أكف الخير تومئ لي وعاد صوت الصدى يعلو، يردد من غيهب الأبعاد "إني هنا".

لا أدري كيف امتدت فترة ذهولي.. لم أدرك ما الذي أعادني إلى ذاتي وشدني إلى أرض الواقع.. لربما ذاك الطيف الذي تراءى لي عن بعد أمتار معدودة.. أيقظ وجوده فضولي وبيّن لي أنني لست أنا وحدي في هذا المكان.. من يكون؟؟ وألحّ السؤال في خاطري يبغي الجواب.. دفعني فضول الخطوة الأولى والسير بحذر نحو من تراءى لي في ذاك المنعطف الوريف يسير وحيداً سابحاً في الأبعاد فوق مدى الظن وخلف حدود الرؤيا..

سرت نحوه وصور أحلامي الغابرة تتزاحم في رأسي.. اسأل النفس في حيرة.. أتراني أعرفه؟ وطالعتني صور شتى.. تسخر مني لتزيد في حيرتي.. وتبلبل خاطري.. طلة عملاقة أسرة، قامة مديدة أسرة.. خطوات ثابتة قادرة.. ظواهر يتميز بها العمالقة، تراقصت أمامي شتى الصور.. صور داعبت خيالي.. وأنا بين أقصائها وبدايتها، أسرع الخطى نحو الممر المزدهر الذي كان هذا الطيف الجليل يقطعه ذهاباً وإياباً، ثابت الخطى، شارد الفكر..

أقبلت عليه، وقفت على مقربة منه.. لم يعرني التفاتاً تابع السير إلى الطرف الآخر ابتعد، جللته خيوط شمس المساء.. ولفته بوشاح شعاعها الناري لحظات.. فبدا لي على بعد كأنه ساحر يسبح بالنور.. وما هي إلا لحظات حتى عاد يتقدم نحوي.. أخذت أنظر إليه برهبة وخشوع كرهبة وخشوع مؤمن، يقف للصلاة.. اقترب مني وتابعت خطاه، لم يلتفت نحوي.. كأنه لم يشعر بوجودي.. كان يسير محدقاً بأبعاد المدى يحرك يديه حيناً وشفتيه أحياناً.. وكأنه يكلم ويتحدث إلى من لا أراهم..

وعاد، اقترب مني.. لست أدري.. كيف تجرأت عليه التحية.. وقف أمامي.. لفني ظله.. أخذ يتأملني وفي نظراته موجة استغراب وشيء من الغموض المبهم.. وكأنه عائد من عالم آخر.. تأملني وأطال بي التأمل، اعتراني شعور إحراج خجول.. كانت نظراته تحرقني تلتهم كل ما يلف جسدي.. فما كان مني إلا أن رفعت صوتي وكررت التحية.

مرّ على شفتيه طيف ابتسامة وكأنه أدرك ما اعتراني.. رد التحية بمثلها.. ابتسمت أنا.. ابتسمت لحظتها وقلت والكلمات تسبق تمتمات شفاهي أنه هو.. أنه عمر أبو ريشة.. بكل عظمته وشاعريته يقف أمامي بعفوية وبساطة.. يحييني يحدثني.. رفعت نظري إليه وقلت وزهو الاعتزاز يداعب صوتي.. اسمح لي أن أقدم لك نفسي.. إنني امرأة عربية.. فازداد مني اقتراباً وأخذ يدي بين يديه برقة ومودة وهو يردد.. يا مرحبا يا مرحبا أهلاً وسهلاً يا حلوة..

كم تمنيت لحظتها أن تنصهر يدي في حرارة يديه وينتهي العالم.. في هذه اللحظة هبطت الملائكة على الأرض.. وابتدأت الأسطورة... شعرت أن يد الأزل أعادتني إلى أحشاء الغيب إلى رحم الحياة.. لأعود فأولد من جديد.. كي أعود وأحيا ألف مرة.. لأحب عمر أبو ريشة ألف ألف مرة.. "وردد الصدى إني إني هنا".. لحظة لقاء .. لحظات تعارف.. كان لها ما بعدها..

أبيات للشاعر أبو ريشة

وسوم: 641