بوركت أستاذنا الكبير أبا أيمن ببلوغك التسعين
بوركت أستاذنا الكبير أبا أيمن
ببلوغك التسعين
عصام العطار
محمد فاروق البطل
أسعدني الأخ الحبيب الأستاذ عصام العطار حفظه الله تعالى ليلة الجمعة1/5/2014 مرتين :
ـ مرة أنه اتصل بي هاتفياً فسمعتُ صوته العذب، ولهجته الحانية، وعباراته الودودة، يسالني عن حالي، و يطمئن على أهلي وأولادي ، ويُزجي التحيات لإخواني ، وهذا من عادته حفظه الله تعالى ، فما يكاد يمر أسبوعان أو أكثر حتى يجري مثل هذا الاتصال ، وأحياناً أسهو فأقصر، ولا أتصل، فيبادرني بالاتصال قلقاً على صحتي وأخباري، وآخر مرة اتصل بي يوم أمس الجمعة 12/6/2014.
والأستاذ عصام حفظه الله تعالى نموذج فريد في وفائه لإخوانه وأحبابه وما أكثرهم!! يشهد بذلك كل من عرفه، وكانت لديه به علاقة أخوية ودعوية ، قال لي شاعر الإنسانية المؤمنة الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله تعالى : ما رأيت كالأستاذ عصام العطار وفاء لإخوانه وأحبابه يتفقدني أينما كنتُ، وحيثما حللتُ ، وأعجب كيف يعرف أماكن تواجدي على كثرة أسفاري وترحالي ؟! ثم قال لي الأستاذ أبو براء: كنت في البحرين، فاتصل بي بعد الفجر، يسألني عن حالي ، ويستفسر عن صحتي...
- من وفائه وعطفه على شخصي أنني حين قدمت إلى دمشق غريباً للدراسة في كلية الشريعة جامعة دمشق عام 1955-1956حضرت محاضرة في مركز الاخوان بالشهداء، ولا أذكر أهي للأستاذ المبارك أو للشيخ علي الطنطاوي، ويبدو أن الأستاذ المبارك طلب من الأستاذ العطار أن يرشح له شاباً جامعياً لإدارة المكتب التنفيذي لأسبوع الجزائر، حيث كانت الجزائر تخوض ثورة الاستقلال ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت مهمة هذا المكتب دعم القضية الجزائرية سياسياً ومالياً وإعلامياً، وكان الأستاذ المبارك ـ المغربي الأصل ـ يومها هو الأمين العام للمكتب، يساعده عدد من الشخصيات السياسية والدعوية والحقوقية والإعلامية والمالية، وهي شخصيات وطنية سورية وعربية مرموقة، أتذكر منهم الدكتور سعيد رمضان المصري، ومستشار رئيس الجمهورية المحامي رياض العابد ، ورئيس الوزراء الدكتور معروف الدواليبي ، ووزير الأوقاف الأستاذ عبد الرحمن الطباع ، والأستاذ عصام عطار وغيرهم... رشحني الأستاذ العطار لأقوم بأعباء هذا المكتب، طبعاً بعمل مأجور، وما أحوجني إلى الأجر يومئذ!! قدِمت إلى دمشق للدراسة، وأنا فقير ووالدي موظف بسيط.
- وكان من وفائه أيضاً : أنني حين تعرضت لحادث السيارة الأليم على طريق دمشق حلب عام 1956 وعلى مشارف مدينة حمص، وأُصِبت بفقد ذراعي، ولله الحمد والمنة مع كامل الرضا بقضاء الله وقدره...قدَّر الأستاذ العطار بإنسانيته الفذة وعاطفته الجياشة، احتمالات هذا الحادث الأليم على نفسيتي ومستقبلي ، فبادر حفظه الله إلى تكليفي بتسيير الأعمال الإدارية لمركز الجماعة بالروضة بدمشق، براتب محدَّد.
وهنا فليسمح لي القارئ الكريم بطرح تساؤلين:
1 ـ هذان الموقفان الكريمان ما دلالتهما؟ أنا شاب غريب قادم من حلب ، لا تربطني بالأستاذ عصام قرابة ، أو صلة سابقة، أو عمل سابق ، أو معرفة سابقة ، بل ليست لي خبرة سابقة في الأعمال الإدارية... إلا أنها العاطفة الودودة ، والإنسانية الغامرة ، التي تتجاوز الحدود الجغرافية ، والصِلات الأسرية والعلاقات الاجتماعية، وإلا فقد كان له من أبناء دمشق، وأبناء تلاميذه وأحبابه، شباب كثيرون يستطيع أبو أيمن أن يختار أحدهم لهذا العمل أو ذاك، ولكنها رحمة الله لي وفضله عليَّ ، أن سخر لي هذا الرجل ليكون الأب الحنون الثاني، في دار غربتي ووقت محنتي، جزاه الله عني كل خير وأوفاه.
بعدها تباعدت بنا الأيام قرابة خمسة وعشرين عاماً ، وتناءت بنا الديار ، فهو في ألمانيا مغترباً مهاجِراً ، وأنا في سورية ، ثم في الأردن، ثم في العراق ثم في السعودية مهاجراً كذلك، ويشاء الله سبحانه أن يذهب ولدي حسان إلى ألمانيا (آخن) لدراسة الطب أيضاً ، حيث يقيم الأستاذ أبو أيمن في دار هجرته، فلقي ولدي حسان بالأستاذ عصام أباً حنوناً، ومربياً ودوداً ، ومعلماً كبيراً ، ثم لحق به ولدي الثاني أسامة ليدرس الطب ، ولقي هو الآخر من الأستاذ عصام نفس معاملة أخيه أبوة ومحبة ومودة ، إنه الوفاء في أعلى صوره، وإنها الأخوة في أعلى درجاتها... وفي هذا السياق لا أنسى وفاء أخوين كريمين ودودين هما : أبو خلاد سويد ، وأبو مجاهد نشار حفظهما الله، وأجزل مثوبتهما ، فقد لقي ولداي من رعايتهما ومودتهما وخدمتهما، ما يعجز القلم والتعبير عن أداء حقهما وإزجاء الشكر لهما...
ـ وكان من مودة الأستاذ عصام و وفائه وتواضعه، أنني كلما زرتُ مدينة آخن كان يطلب إليَّ أن أنوب عنه في خطبة الجمعة ، وفي إحدى الخطب جعلت موضوعها يخصه شخصياً، مناشداً إياه أن يسعى إلى توحيد الحركة الإسلامية ، وجمع الصف ، وعودته إلى أحبابه، قائداً للجماعة في سورية ، ولما فرغتُ من الخطبة والصلاة، أقبل عليَّ مسلِماً ومشجعِاً وشاكِراً، وقال لي أود أن نلتقي معاً ، قلت له : هل آتي بأحد من الإخوة معي؟ قال لي : أريد أن ألتقيك وحدك، وأنا لن آتي بأحد، وهكذا التقينا في منزله العامر منفردَيْن.
وفي اللقاء حملتُ له تحيات الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى وأبلغتُه أن الشيخ الجليل قد اعتذر عن تجديد ولايته مراقباً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وانتهت المسؤولية إليَّ بصفتي رئيساً لمجلس شورى الجماعة يومها ، بعد أن عجز المجلس عن اختيار مراقب عام جديد ، وعدم حصول المرشحَين الاثنَيْن الأخوين الكريمين الدكتور حسن هويدي والأستاذ علي البيانوني على الأكثرية المطلوبة في الانتخاب حسب النظام الاساسي للجماعة.
ثم قلت له : أستاذنا الكريم أبا أيمن ! إلى متى يستمر بعدك عن اخوانك؟ وإلى متى يستمر انقسام الجماعة جماعتين: جماعة دمشق ، وجماعة حلب؟ والآن أنا أحمل مسؤولية قيادة الجماعة ، وأستطيع أن أتحرك في تحقيق هذا الأمل بإذن الله تعالى ومجلس الشورى مهيؤ لنخطو مثل هذه الخطوة المباركة.
قال لي معبِّراً عن سعادته أن المرشد العام الثالث الأستاذ حامد أبو النصر رحمه الله تعالى بادر بالسلام عليه حين قدم ألمانيا وقال له : هذا أول اتصال هاتفي لي في ألمانيا أتصله معك، أداء للواجب.
وأجابني بشأن توحيد الجماعة فقال : هذا اقتراح عظيم ، ونأمل أن نحققه ، لكنك تعلم يا أخ ابا عمار أن ثمة ذكريات مؤلمة بيننا، أخطأنا في حق إخواننا ، وإخواننا أخطؤوا في حقنا ، لابد من مرحلة التسامح أولاً ، ثم التنسيق ثانياً ، ثم تأتي عملية التوحد والدمج إن شاء الله ، قلت : أستاذنا الحبيب! هل أعتبر هذه الكلمات رسالة منك أبلغها للإخوة قال : نعم . وفرحتُ جداً بهذا التكليف، وسرعان ما حررتُ رسالة لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله تعالى بصفته شيخ الجماعة، ورسالة كذلك للدكتور حسن هويدي بصفته المراقب العام، كما حررتُ رسالة مثلها لفضيلة المرشد العام ، وكانوا مسرورين بالغ السرور بهذه الرسالة.
ـ قلت في مطلع هذه المقالة أن الأستاذ عصام أسعدني مرتين في اتصاله الهاتفي الأخير ، تحدثتُ فيما سبق عن سعادتي الأولى، وبقي أن أتحدث عن سعادتي الثانية وهي : أن الأستاذ عصام قال لي : أخ أبا عمار!! أنا بحمد الله تعالى قد بلغت التسعين من العمر... اللهم لك الحمد، ولك الشكر، ولك الثناء الجميل يا رب العالمين ، الخبر سعيد ولا شك ، ولكن اكتملت سعادتي بأن صوته هو ذاك الصوت الجهوري العذْب الذي نعرفه جميعاً، وأن ذاكرته هي تلك الذاكرة القوية التي تجعله يتابع هموم أمته وأهله في سورية ، ويتابع أخبار إخوانه، رغم بعدهم عنه ، ثم هذا الحضور الدعوي والقيادي والسياسي والإعلامي الذي يجعله يُطِلُّ على تلاميذه وأحبابه من خلال خطبه في مسجد آخن ، ومن خلال قنوات الاتصال والقنوات الفضائية.
اللهم بارك له في عمره ، وبارك لنا في صحته ، ومتعه اللهم بسمعه وبصره وقوته ما أحييته، وأدِم عطاءه وتوجيهه يا رب العالمين.
بعد هذا الحديث الشخصي أنتقل للحديث العام فأقول:
لم يكن الأستاذ عصام حفظه الله تعالى مجرد مراقب عام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا ، وإنما انتهت إليه قيادة التيار الإسلامي في سورية ، فقد أجمع العلماء وكافة العاملين في الحقل الإسلامي على محبته ، والتعاون معه ، بل إن الشعب السوري كان يتابع خطبه في مسجد جامعة دمشق، وكان يتابع تصريحاته ولا أبالغ إذا قلت أن الأستاذ عصام أضحى أهم الشخصيات المحركة للأحداث في سورية وأحد الوجهين للقرارات المتخذة رسمياً في الشأن السوري، وأشهد أنه أعطى الجماعة بعداً إعلامياً هاماً، كما أعطاها حضوراً كبيراً داخلياً وخارجياً محلياً وعربياً عالمياً ، فقد كان كلما مر حدث سياسي في سوريا، أو في العالمين العربي والإسلامي كان يكتب تصريحاً يعبر فيه عن موقف الجماعة في سوريا ويطلب مني أن أذهب إلى الحلبوني أو المرجة لانسخه على الآلة الكاتبة، ثم أطبعه، وأصوره نسخاً متعددة ، ثم أوزعه على كافة الصحف ووكالات الأنباء ، ويؤسفني أن الجماعة حتى ذلك الوقت، لم تكن تملك أدوات الطباعة والتصوير.
وأشهد أيضاً أن الأستاذ عصام في خطبه وتصريحاته ومواقفه كان صريحاً واضحاً في بيان الموقف الإسلامي الشجاع ، لم يكن يساوم، أو يهادن ، أو يجامل ، وإنه ليذكرني بكلمات الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى وقد كان يتمثل قوله الله سبحانه :[ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ] {البقرة:63} .
ويتردد في ذاكرتي التاريخية أن قادة الانفصال من ضباط الجيش طلبوا إليه أن يتسلم الحكم فرفض، كموقف مبدئي، هو أن ما يأتي بانقلاب يذهب بانقلاب، وأن العسكر لابدَّ أن يبتعدوا عن الحكم ويتركوا السياسة لأهلها.
ومن المواقف التي يُشهَد له بها، أنه رفض وباسم الجماعة أن يوقع على وثيقة الانفصال أوائل الستينات، انطلاقاً من مبدأ شرعي هو أن الوحدة التي كانت قائمة بين سوريا ومصر هي مطلب إسلامي قبل أن تكون مطلباً سياسياً ، هذا في الوقت الذي وقع على هذه الوثيقة المخزية معظم ساسة سورية، بما فيهم قادة التيار القومي والبعثي وكذا الوحدوي، نعم...إن تحقيق الوحدة بين العرب والمسلمين هي عقيدة ومبدأ، رغم عداوة جمال عبد الناصر للإسلام وللحركة الإسلامية ، ورغم الإعدامات التي نفذها في كبار دعاة وقادة الحركة الإسلامية في مصر .
ونظراً لجرأته وشجاعته وجهره بكلمة الحق حفظه الله تعالى تعرَّض لأكثر من محاولة اغتيال سواء من قبل المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر، أو من قبل المخابرات السورية في عهد حافظ أسد ، وقد كانت ضحية هذه المحاولات زوجته الكريمة السيدة بنان بنت الشيخ علي الطنطاوي رحمهما الله تعالى .
ويشاء الله سبحانه بمنه وكرمه أن يكتب العمر المديد لأستاذنا أبي أيمن ليبلغ التسعين بحمد الله تعالى مستمِراً في عطائه وجهاده وتوجيهه ووفائه لإخوانه وأحبابه ، وليعتبِر بهذا أولئك الذين يجبنون ويخافون من الجهر بكلمة الحق والصَدْع بأمر الله ، متناسين قول الصحابي الجليل سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول الذي قال وقد أدركته المنية وهو على فراش المرض: (لم يبق في جسمي موضع إلا وفيه طعنة سيف أو رمية سهم أو غرزة رمح ، ومع ذلك أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء).
أمد الله في عمرك أخانا الكبير أبا أيمن ومتعك بالصحة والعافية وأدام نفعك لأمتك وإخوانك ، وجمعنا وإياك في دار العزة والكرامة سورية الحبيبة.
المحب : محمد فاروق البطل