نص كلمة الدكتورة ريما خلف
24 نيسان 2014 - بيروت
الأمينة العامة ل"إسكوا"، خلال حفل التوقيع
الدكتور كلوفيس مقصود،
أصحاب المعالي والسعادة،
الحضور الكريم،
سعادتي كبيرة بوجودي بينكم اليوم، مع الصديق الغالي، الدكتور كلوفيس مقصود لإشهار أحدث كتبه، "من زوايا الذاكرة: محطات رحلة في قطار العروبة".
رحلتي مع كلوفيس مقصود بدأت في سبعينيات القرن الماضي عندما كنت طالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت. حينذاك، كنت وزملائي نتجادل، كما اليوم، في أنجع الطرق لتحرير أمتنا من الغبن التاريخي الذي حل بها. في عمق هذا الهم، اكتشفت كلوفيس مقصود مفكراً كبيراً بمواقفه، وعربياً أصيلاً يتمسك بالحق ولا يعرف التزلّف.
رحلته معي لم تبدأ إلا في مطلع الألفية الثالثة كما يذكر في كتابه. عندما التقيته للمرة الأولى في الولايات المتحدة، وجدت فيه إنساناً أكبر من صورته وأعمق من قلمه. مشروعه القومي راسخ في فكر إنساني فسيح ومنبثق من أرفع المثل والقيم. فالعروبة عند كلوفيس مقصود لا تعني التعالي على الآخر ولا ادّعاء التفوق عليه. العروبة في نظره هي نقيضٌ لإقصاء الآخر، لا تكون إلا باحترام حقوق الإنسان للجميع، والاحتفاء بالتنوع في الوطن الواحد. والمشروع القومي العربي الذي يدعو له الدكتور مقصود ليس تعبئة للاعتداء والعدوان، بل هو شرط ضروري لحماية الذات. هو مشروع نهضةٍ وتحريرٍ وتحرر، وتمكينٍ للإنسان.
الزملاء الكرام،
كتاب الدكتور كلوفيس ليس سيرةً ذاتية تزعم لكاتبها عظمة ومجداً، يستحقهما . بل هو ملحمة أمة قصّرت في حق نفسها فحامت عليها أقبح خفافيش الكون.
ما إن يبدأ القارئ رحلته مع كلوفيس مقصود في قطار العروبة، حتى يرى نفسه أمام قطارين يتسابقان في اتجاهين متعاكسين. أحدهما يستقلّه صاحب المذكرات، والآخر يختطف أمته على غير هدى. أحدهما مستقيم المسار، والآخر يتعثر ويتشظى تحت فؤوس الآخرين وبعض الأهل والخلان.
على متن القطار الأول، نسير برفقة الكاتب منذ كان "صبي شقي بس مهيوب" يشدّ مدير المدرسة أذنه يوماً ليعلمه الانضباط، ونواصل الرحلة معه حتى اليوم، ثمانينيٌ مفعمٌ بحيوية الشباب، مستنير بالحكمة، يرى فيه صحبُه عينَاً للأمة لا تخطئ، وضميراً لا يسهو. في سن مبكرة يكتشف الطفل كلوفيس معنى العروبة في كلمتين لأمه، ماري حنا مقصود، "نحن عرب" تقول له. ولكن ما بدأ مجرد توصيف لهوية، تطور في ذهن الشاب إلى مشروع عربي قومي ينشد نهضةً شاملة تمكّن كل مواطن في بلاد العرب من العيش بحرية وكرامة.
عبر مسيرة الأعوام، يرى الدكتور كلوفيس أمتَه تتهاوى. وقد تلقت أقسى الصفعات عندما قامت دولة إسرائيل في عام 1948 على حساب شعب فلسطين. ومنذ ذلك الحين والأمة تُستباح وحقوقها الوطنية والإنسانية تُسلب وتُنتهك. يَسعَد كلوفيس لنيل الدول العربية استقلالها. لكن سعادته تتبدد عندما يكتشف أن بعضاً من هذه الدول يفضل الارتباط بمستعمر الأمس على ارتباطه بأبناء أمته. يقلقه التناحر المرعب الذي بات يفتُك بما تقسّم سابقاً من الوطن. لا يغفل عن المؤامرات التي تحاك ضد هذه الأمة، ولكنه لا ينكر مسؤولية أنظمة عربية سلطوية انتهجت القمع والإقصاء فعوقت مسيرة النهضة وأحبطت آمال شعوبها في الوحدة والنماء.
يلمح كلوفيس شعاع أمل في ثورات الحرية والكرامة التي اندلعت في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة. لكنّه يخاف عليها من فقدان المرجعية. كتابه، بما فيه من دروس وعبر ومواقف عرفناها عنه قبل أن نعرفها منه، يقدم أساساً صلباً لمرجعية قديمة متجددة. مرجعية عربية تمكن الأمة من الخروج من المأزق السياسي والإنساني والتنموي الذي انحدرت إليه.
يؤكد على صلابة هذه المرجعية تقريرٌ أصدرته الإسكوا في بداية هذا العام وشارك الدكتور مقصود في إعداده. يخلُص تقرير الإسكوا الذي يحمل عنوان "التكامل العربي سبيلاً لنهضة إنسانية"، إلى أن لا سبيل لنهوض هذه الأمة إلا بالتكامل العربي الفعّال، الذي يؤدي إلى إقامة منطقة المواطنة الحرة العربية. فبهذا التكامل فقط، يمكن للدول العربية أن تنجح في امتلاك جلّ مقومات النهضة من إرادة حرة، وعلم مبدع، وقدرة حقيقية لا وهمية، وحياة دائمة التجدد،
لا وجود حرٌ ومستقلٌ للإنسان بدونها.
كلي ثقة بأنّ كتابَ الدكتور مقصود سيساهم في السير بالأمة العربية إلى برّ الأمان. ويقيني أن خلاصة تجربة غنيّة في النضال تحلل أسباب الإخفاق قبل أن تتغنّى بالإنجاز، ستكون هادياً لأمة انتفضت لتضع حداً لاستباحتها واستعادة مكانتها ودورها التاريخي. وأتمنّى للدكتور كلوفيس مقصود المزيد من العطاء والألق الفكري. فربما قطار العروبة لم يجتز رحلة الغبن والهزيمة، لكنه لنّ يضلّ المحطة بوجود من يتقن إبقاء المسار صائباً وشعلة الأمل مضاءة.