عمرة

عمرة

بقلم : أحمد الجدع

أكرمني ذو الكرم فأديت العمرة عشرات المرات ، وكنت كلما قيل لي إن العمرة قبيل صلاة الفجر في المسجد الحرام لها طعم آخر أتردد في موافقتهم على هذا الرأي إلى أن جاء يوم الإثنين 11/12/2004 ويسر الله لي أن أعتمر الساعة الثانية ليلاً وأن أحضر صلاة الفجر في المسجد الحرام .

وصلت المكرَّمة قادماً من جدة الساعة الثانية ليلاً ، كان الهدوء مخيماً على مكة يعطي للمكان هيبة وجلالاً ، وعندما واجهنا المسجد الحرام وأخذت أنسامه في استقبالنا اهتزت له مشاعرنا ، وعندما سرنا بين أروقة الحرم قاصدين الكعبة المشرفة قفزت قلوبنا بين جوانحنا ، ورقصت كأنما هي مقبلة على عرس ملائكي .. وما العرس إلى جانب هذا المشهد الفذ الذي يستقبلنا بالحفاوة الإلأهية المباركة .

الله أكبر ..الله أكبر،هذا ما نطقت به قلوبنا ومشاعرنا وأبداننا ، ونحن نواجه الحجر الأسود مبتدئين بالطواف حول الكعبة أسبوعاً كما تقتضي مناسك العمرة ، وبين الدعاء والابتهال،ومع آيات الذكر الحكيم أتممنا طوافنا.

لم يكن الطائفون في زحام كما تعودت أن أراهم في نهار مكة ، بل كانوا في العدد أقل من ذلك بكثير مما أغرانا بمحاولة تقبيل الحجر الأسود ، فتقدمنا إلى الصف الممتد أمامنا في سكون وخشوع كل يريد هذا الحجر الذي شرف بالأيدي النبوية فحملته وبالشفاه النبوية فقبلته ، وبالجهد البسيط وصلنا إلى غايتنا وتشرفت شفاهنا بتقبيل ما قبله رسولنا صلوات الله عليه وسلامه .

وأكرمنا الله فصلينا ركعتين عند مقام إبراهيم ، وأخرتين في حجر إسماعيل ، على إبراهيم وعلى إسماعيل السلام ، ثم أكرمنا الباري بالتعلق بأستار الكعبة ندعوه ونبتهل إليه .

كنت وأنا أدعو أحاول أن لا أدع شخصاً أعرفه إلا دعوت له ، ولا أمراً من أمور الإسلام إلا دعوت أن ييسره الله ، ولا مجاهداً يجاهد في سبيل الله إلا أن يسدد الله رميه ويحقق سعيه وينصره نصراً عزيزاً .

اجتمعنا في باحة الحرم بالقرب من الركن اليماني ، قلت لهم : أحب أن أسمعكم أبياتاً للشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الدين الأميري قالها في موقف يشبه موقفنا هذا ، وقد قرأتها من قبل فأعجبت بها ، ولكن قراءتها الآن ونحن نتم الطواف ونحظى بتقبيل الحجر الأسود له طعم ومذاق آخر .

أرهفوا آذانهم واستحضروا مشاعرهم :

الـحـجـر  الأسـود قبلته
لا لاعـتـقـادي أنـه نافع
مـحـمـد  أطـهر iiأنفاسه
قـبـلـة والنور من iiوجهه
قـبـلـت مـا قـبله iiثغره




بـشـفـتي قلبي وكلي iiوله
بـل  لـهـيامي بالذي iiقبله
كـانت على صفحته iiمرسلة
يـرسـل آيات هدى iiمنزلة
الناطق بالوحي ابتغاء الصلة

كنت أقرأ هذه الأبيات وأعجب بها ، ولكني ما كنت أدرك روعة قوله : "بشفتي قلبي" إلا عندما مارست هذا الفعل فقبلت الحجر الأسود بهذه المشاعر الفياضة من الإيمان الذي يلامس شغاف القلب ، يهزها هزاً .

وأنا أجزم أن عمر الأميري استحضر كلمات سَمِيِّه عمر بن الخطاب وهو يقول بينما يقبل الحجر الأسود : "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله e يقبلك ما قبلتك" فقال الأميري : "لا لاعتقادي أنه نافع" .

إن استشعار المسلم وهو يقبل الحجر الأسود أنه يتواصل مع رسول الله الذي قبله لهو قمة الشعور الوجداني في هذا الموقف المهيب .

ومن الطواف إلى السعي بين المشعرين : الصفا والمروة .

وقفنا على الصفا نواجه الكعبة المشرفة ونكبر الله ، ونتلو قوله تعالى : "إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم" .

قلت لمن معي : اقرأوا بوعي ما يقوله المنعم على كل المخلوقات : "ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم".

نحن أيها الأخوة مَنْ علينا أن نشكر الله على هذه النعمة .. نعمة العمرة ، ولكن الله يعلمنا .. ويتصدق علينا،أي بركة تحل علينا والله يشكرنا .. نعم الله المنعم المتفضل الحقيق بالشكر والوفاء يشكر المسلم المطيع .. المسلم الحق الذي يأتمر بأمره ويذعن لحكمه .. أسأل الله أن يصيبني من هذا الشكر فيضاً عميماً .

وكان المسعى في هذا الوقت الذي وصلنا فيه شبه خال أو كما قلت لإخواني كأنه أفرغ لنا وحدنا ، وبين الصفا والمروة كانت لنا سبوحات روحية ودعوات قلبية ... وعندما أنهينا السعي وقصّرنا ، ومنا من حلق ، فاضت مشاعرنا واندفعت أشواقنا ، وهرعنا نحو زمزم ، فتضلعنا منها شرباً ، وأهرقنا على أجسامنا من مياهها فيضاً ، وتوضأنا بمائها نقاءاً وطهراً .

كان بيننا وبين صلاة الفجر ساعة أو نحو ساعة ، جلسنا نقابل الكعبة وندعو وندعو .. ثم التفت إلى إخواني وقلت : ألا نقوم حتى نملأ حساب الآخرة ؟

قالوا : وما حساب الآخرة .. قلت : أليس لكم في مصارف الدنيا حسابات جارية تملؤونها بالنقود ؟ وكذلك فإن لكل واحد منا أيضاً حساباً في الآخرة يملؤه بالحسنات، فهيعلا .. قالوا : كيف ؟ قلت : بالصلاة ، ألا تعرفون أن رسولنا يقول بأن الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة في غيره من المساجد .. هلموا إلى الصلاة .

قمنا نصلي ونصلي .. وما توقفنا حتى أذن الفجر .. ولأذان الفجر في مكة وأنت تنظر إلى الكعبة حالة من الوجد كأنك تشم رائحة الجنة .

أما أنا فقد صُور لي بلال رضي الله عنه وهو يصعد فوق الكعبة ويلقي أذانه لأول مرة .

أما هذا الإمام الذي صلى بنا صلاة الفجر وقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة فبارك الله له في خشوعه وفي نداوة صوته وفي جلال ركوعه وسجوده ..

قمنا إلى الكعبة فودعناها طوافاً ، وعدنا إلى مسكننا في جدة .. وهناك جلست أنشئ هذه الأبيات :

سـعـيت إلى مكة iiالمؤمنين
حذوت المناسك حذو الرسول
هنا  الرحمات بسوق iiالسماح
سـعيت وطفت بعقلي iiوقلبي



وقـدمت نفسي بأوصابها(1)
فـإن رسـولـي أوصى بها
وتـهدى  الهبات لطلابها(2)
وناجيت ربي لأحظى بها(3)

 السبت

25 ذو الحجة 1425هـ

الموافق 5/2/2005م

      

الهامش:

(1 )الأوصاب : مفردها وَصَب ، والوصب الوجع والتعب والفتور والإرهاق ، والمعنى هنا بكل ما أتعبها وأرهقها .

(2)السّماح : التساهل والتسامح ، وتأتي بمعنى الجود والكرم أيضاً .

    الهبات : مفردها هبة ، وهي العطية الخالية من الأعواض والأغراض .

(3)حظي بالشيء : نال حظاً منه فهو حظيّ .

    وفي البيتين الأول والثاني جناس كامل بين : أوصابها وأوصى بها .