أم باركتها السماء
زهير كحالة
الراوية : الإسلام أتحف الدنيا بنماذج من عظام الرجال .. وبهر الأبصار بما أخرج من عظام النساء .. والأم التي نستذكر سيرتها اليوم ، بمناسبة الاحتفال بيوم الأم ، هي إحدى هذه القمم الشامخة التي صنعها الإسلام ..
(يزاح الستار عن أم سليم وهي تضم طفلها أبا عمير إلى صدرها بحب وحنان) ..
أم سليم : شفال الله يا ولدي .. شفاك الله يا أبا عمير ..
أبوعمير : (يئن من المرض) أماه .. عرفت أني لن أعيش ..
أم سليم : حذار مما تقول يا ولدي .. الأعمار بيد الله يا أباعمير ..
أبوعمير : منذ أن مات فرخ العصفور أحسست بأني سأموت بعده .
أم سليم : لا تقل هذا يا أباعمير .. لا يموت أحد إلا أذا انتهى أجله .. لا السليم يبقى ، ولا السقيم يموت .. (تغيّر الموضوع) ها .. خبّرني يا ولدي .. كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءك مداعباً وقال يا أباعمير ، مافعل النغير (1)..
أبوعمير : لم أستطع أن أضحك لرسول الله ، من شدة حزني على موته ..
أم سليم : اطمئن يا ولدي .. غداً تشفى بإذن الله ، وأحضر لك عصفوراً خيراً من صَعوتك (2) التي ماتت ..
أبوعمير : (يشهق ثم يئن ويغلق عينيه) ..
أم سليم : (وهي تضع يدها على جبينه) رباه .. إن حرارته تزداد .. ألبث قليلاً يا ولدي ريثما أحضر لك الماء ..
(تضجعه وتمضي مسرعة)
أبوعمير : (بنفس متقطع) أمـ .. أمــ .. أمي ..
أم سليم : (تدخل مسرعة ومعها الماء) هاأنذا يا حبيبي ..
أبوعمير : (يلهث) إني .. إني ..
أم سليم : (تسقيه الماء وتبلل وجهه) قرَّ عينا يا أباعمير .. الآن تخف حرارتك ، ويرتاح جسمك .
(يدق الباب)
أم سليم : من الطارق ؟
أم حكيم : (من الباب) جارتك أم حكيم ..
أم سليم : أدخلي يا أختاه ..
أم حكيم : (تدخل) السلام عليكم ..
أم سليم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أم حكيم : جئت لأطمئن على ولدك أبي عمير ..
أم سليم :كما ترين يا ام حكيم . عاودته الحمّى ، وأحاول تخفيف حرارته بالماء ..
أم حكيم : (وهي تضع يدها على رأس الطفل) شفاك الله يا ولدي ..
أم سليم : (تدير وجهها لتمسح قطرة دمع تنسكب من عينيها) آمين ..
أم حكيم : أين أبوطلحة يا اختاه ؟
أم سليم : خرج لشأنه ..
أم حكيم : أما علم بمرض ابنه ؟
أم سليم : بلى يا أم حكيم ، ولكنه لم يستطع أن يدع عمله في حيطانه (3) ، فمضى مشغول البال على ولده ..
أم حكيم : لله درّ أبي طلحة .. إنه من عباد الله الصالحين .
أم سليم : نعم والحمد لله يا أم حكيم ..
أم حكيم : لا يبرح ذاكرتي أبداً ذلك اللقاء بينكما حين جاء يخطبك فاشترطت عليه مهراً لا أعظم ولا أكرم ..
أم سليم : (تبتسم) ما أحلاها من ساعة تلك التي تزوجت فيها أبا طلحة زيد بن سهل على ذلك المهر ..
أم حكيم : لله درك يا أم سليم .. لم تطلبي منه مالاً كسائر النساء ، ولم تشترطي عليه إلا شرطاً واحداً ـ أن يدخل في الإسلام كي تكوني له زوجة ، ويكون لك زوجاً ..
أم سليم : نعم يا أم حكيم .. أذكر الساعة حين جاء يخطبني فقلت له : يا أبا طلحة ، أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولاينفعك .. فنظر إليّ مشدوهاً يستعظم جرأتي على ربّه .. ولكني مضيت قائلة له : ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد إنما هو شجرة تنبت مكن الأرض ، وإنما نجّرها عبد من الحبشة ؟.. أما تستحي أن تسجد لخشبة تنبت من الأرض ولو شئت أن تشعلها لاحترقت ؟.. (تتنهد) لله ما أوسع صدرك يا أباطلحة .. ولله ما أطيب قلبك .. وما أكرم خلقك .. إنه بقي يتأمل فيما قلته له : إني لا أتزوجك إلا على الإسلام .. او أقول له : إني أسلمت فإن تابعتني تزوّجتك .. أو أقول له : إني أتزوجك ولا أريد منك صداقا غير الإسلام ..
أم حكيم : نضّر الله وجه أبي طلحة .. فما لبث أن جاءك وقال يا أم سليم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ..
أم سليم : (مبتسمة) نعم يا أختاه .. وكنت أسعد النساء بهذا المهر الذي تزوّجته عليه ..
أم حكيم : هنيئاً لك يا أم سليم .. فأنت تحظين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحظ به سائر النساء ..
أم سليم : الحمد لله .. وكفاني شرفاً أن يتفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيل (5) في بيتي .
(تمد يدها إلى صندوق قريب وتتناول قارورة صغيرة)
أم حكيم : ما هذا يا أم سليم ؟
أم سليم : (تأخذ نقطة من القارورة وتتطيب بها) احزري يا أم حكيم ..
أم حكيم : أليس هذا هو الطيب الذي تتطيّبين به ؟
أم سليم : بلى يا أم حكيم .. ولكنك لا تعلمين بمَ عجنت هذا الطيب ..
أم حكيم : بم يا أم سليم ؟
أم سليم : خلطته بالعرق الذي كان يسيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يُفيق من قيلولته .
أم حكيم : أحقاً تقولين يا أم سليم ؟
أم سليم : نعم يا أم حكيم .. أنتظره حتى يستيقظ ثم أمسح العرق من على النطع (6) الذي نام عليه ، فيسألني قائلاً : ماذا تصنعين ؟ فأقول له : آخذ هذا للبركة التي تخرج منك ..
أم حكيم : صلى الله عليك يا رسول الله .. أرجوك يا أختاه .. دعيني ألمس شيئاً منه لأتطيّب به .. وأحظى مثلك ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أم سليم : هاك يا أختاه ..
(تنقط نقطتين من القارورة على يدها)
أم حكيم : (وهي تتعطر بالنقطتين) لله ما أطيب رائحة هذا الطيب . كيف لا يطيب هذا السّكّ (7) العاطر وقد خالطع عرق النبي الطاهر ؟
أم سليم : أرى أبا عمير يغطّ في نومه . سأسجّيه (8) عسى أن يعرق وتزول عنه الحمى ..
(تمدده بهدوء على فراشه ثم ترقيه) (9)
بسم الله قرّت ، بسم الله مرّت ، بسم الله قلّت ..
أم حكيم : اطمئني يا أم سليم ، فإنه يتماثل للشفاء بإذن الله ..
(تنهض أم سليم وتحضر فم قربة مقطوعاً)
أم سليم : انظري يا أم حكيم ..
أم حكيم : ما هذا يا أختاه ؟
أم سليم : احزري ..
أم حكيم : إنه فم قربة مقطوع ..
(تقلب الفم بيدها)
أم سليم : صدقت يا أم حكيم . لقد قطعت فم قربتي واحتفظت به . أتدرين لماذا ؟
أم حكيم : لماذا يا أم سليم ؟
أم سليم : كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ........
أم حكيم : صلى الله عليه وسلم .
أم سليم : وكانت قربة الماء معلقة هنا (تشير إلى ناحية) فتناولها عليه الصلاة والسلام وشرب من فيها وهو قائم ، فانتظرت حتى روي عطشه ، ثم قمت فقطعت فم القربة وأمسكته ، فأنا محتفظة بفم قربة لامس شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أم حكيم : (بإعجاب) لله درّك يا أم سليم ، كم تحبين الله ورسوله .
أم سليم : وكيف لا أحبّ الله تبارك وتعالى وكيف لا أشغف (10) حباً برسوله الذي أخرجنا به من الظلمات إلى النور ، وهدانا على يديه إلى الصراط المستقيم ، ووعدنا باتباعه بأن نحشر تحت لوائه يوم الدين ، وأدنى مجالسنا إذا حسنت أخلاقنا من مقامه في جنات النعيم .. وهل يصح إيمان مسلم ما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين ؟.
(يدق الباب)
أم سليم : هذا دق ولدي انس يستأذن في الدخول ..
أم حكيم : ليتفضل ..
أم سليم : (ترفع صوتها) ادخل يا ولدي ..
أنس : (داخلاً) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أم سليم وأم حكيم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أنس : استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن أزورك يا أماه وأطمئن على أخي أبي عمير ..
أم سليم : إنه نائم يا ولدي ..
أنس : هل تحسنت صحته إن شاء الله ؟
أم سليم : أرجو الله ان يعافيه .
أنس : أتريدين أن أعينك أو أقضي لك بعض حوائجك يا أماه ؟
أم سليم : بل الله يكفيني ويعينني .. هيا يا ولدي .. عد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستأنف خدمته ..
أنس : فداه روحي .. إني لا أدع أمراً يحيه إلا وأفعله له . ولا أعلم شيئاً يكرهه إلا وأبعده عنه .
أم سليم : جزاك الله خيراً يا ولدي . إنك لنعم الخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فاحرص على رضاه واحذر من مخالفته ، وإياك إياك أن تغضبه .
أنس : منذ أن تشرّفت بخدمة الرسول يا أماه وأنا لا أسمع منه كلمة تقريع ، ولا يرميني بنظرة غضب . تالله لم تُظل السماء ولم تُقلّ الأرض رجلاً له مثل خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أم سليم : أتذكر يا أنس حين جاءني ذات يوم فقدمت له طعاماً شهياً من تمر وسمن فقال : أعيدوا سمنكم في سقائكم (11) وتمركم في وعائكم ، فإني صائم ..
أنس : نعم يا أماه . أذكر حين قام في ناحية البيت فصلى صلاة نافلة ثم دعا لنا دعاءه الجميل ..
أم سليم : يومها قلت : يا رسول الله ، إن لي حويصة (12) .. شيئاً يحصني .. قال : ما هي ؟ .. قلت : خادمك أنس .. فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لك به يا ولدي ..
أم حكيم : أتذكرين شيئاً من دعائه يا أختاه ؟
أم سليم : نعم يا أم حكيم .. كان مما دعا به لولدي أنس : " اللهم ارزقه مالاً وولداً وبارك له "
أم حكيم : (ببشاشة) هنيئاً لك يا انس بن مالك ، هنيئاً لك دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فوالله ليكونن لك مال وفير ، وولد كثير ، وعيش رغيد ، ببركة دعاء رسول الله لك .
أنس : أفديه بروحي .. وهل أملك أغلى من روحي أبذلها رخيصة في سبيله ؟.. بل إني لأسخو بعمري كله على أن لا يشاك (13) شوكة في رجله ..
أم سليم : بوركت يا أنس .. يا قرّة عين امك .. هيا يا ولدي .. عد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أنس : دعيني إذن أقبّل أخي أبا عمير قبل أن أستأذنك في الانصراف ..
أم سليم : إفعل يا ولدي .. وأنا أهييء لك مكتلاً (14) من التمر هدية تأخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
(يميل أنس على أخيه أبي عمير ويقبله من رأسه ، بينما تخرج أم سليم لإحضار وعاء التمر)
أم حكيم : بارك الله فيكم من آل بيت .. فمنذ أن ولدتك أمك يا أنس وهي لا تألو في رفع درجتك عند رب العالمين .. تصور يا ولدي .. كانت تقول لك وهي ترضعك : قل لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، وأبوك مالك الذي كان على دين قومه يعنفها ويقول لها : لاتفسدي عليّ ابني ، وهي لا تعيره سمعاً ولا تلقي إليه بالاً ، حتى إذا هلك وجاء من يخطبها بعده قالت : لا أتزوج حتى يكبر ولدي أنس ويتكلم في المجالس ..
أنس : الحمد لله الذي جعل لي أماً مثلها .. إني لأباهي بها سائر الأمهات لما عهدته منها في يومها ، وليكونن من شأنها في غدها ما يجعل كأس فخري تفيض مباهاة بها واعتزازاً بأمومتها.
أم حكيم : صدقت يا ولدي .. إنها لنعم الأم المسلمة المجاهدة .. الله أكبر .. ما أعظم أن تكون الأم من حملة العقيدة .. وأهل الإيمان .. إن أمك يا أنس لم ترض أن تتزوج أبا طلحة إلا إذا كان مهرها منه هو اعتناق الاسلام .. ولما وافقها على ذلك حظيت هي بأكرم زوج ، كما حظي هو بأعظم زوجة ، وحظيا معاً بولد يتشرف بخدمة سيد الرسل أجمعين .
أنس : (بلطف) شكراً يا خالة .
أم سليم : (داخلة وبيدها وعاء تمر) هاك يا ولدي أنس .. امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا المِكتل .. فإنه يحب أن يأكل من الرطب .. وأنا أحب أن أدخل السرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أنس : رسول الله كذلك يحب أن يدخل السرور على قلبك يا أماه ..
أم سليم : أرجو ان يزورنا عما قريب .. فأنا لا نكاد نودعه حتى نشتاق إليه ..
أنس : إن شاء الله .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
(يخرج أنس)
أم حكيم : طوبى لك يا أم سليم .. فإنك تحظين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم تحظ به النسوة في المدينة إلا أن يكنّ من أهل بيت النبي عليه السلام ..
أم سليم : وهل أرسله الله إلا رحمة للعالمين ؟..
أم حكيم : إنه عليه السلام يقدّر إيمانك وتضحيتك وبلاءك في سبيل الله ، ولا ينسى وقفتك في غزوة أحد وأنت تدافعين عن دين الله ، وتردّين بخنجرك عن رسول الله ..
أم سليم : روحي فداك يا رسول الله .. الله وحده يعلم ما سيحلّ بالمسلمين لو كنت متّ أو قتلت في أحد .. الحمد لله الذي غمرنا بفضله .. كل مصيبة بعد رسول الله هينة ..
(يدق الباب)
أم سليم : من الطارق ؟
أم أيوب : (من الخارج) أتأذنين لي بالدخول يا أم سليم ؟ أنا أم أيوب ..
أم سليم : ادخلي على الرحب والسعة ..
أم أيوب : (داخلة) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
أم سليم وأم حكيم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أم سليم : مالك ممتقعة (15) الوجه يا أم أيوب ؟
أم أيوب : زوجي يا أم سليم ..
أم سليم : خيراً إن شاء الله ..
أم أيوب : لا أطيق صبراً على عشرته .. لم أعد أطيق الحياة معه ..
أم سليم : ويحك يا أم أيوب .. أيكون للمرأة بعل (16) ولا تحمد الله على هذا الفضل ؟
أم أيوب : ماذا أفعل يا أختاه ؟.. إنه ..
أم سليم : لا تكملي .. أما يكفيك ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحسان رعاية الزوج وحسن التبعل (17) له ؟
أم أيوب : ولكنه يريد أن يتزوج عليّ .. وأنا لا أحيا مع ضرة ..
أم سليم : لعلك أنت التي دفعته ليتزوج عليك يا أم أيوب ..
أم أيوب : (باستنكار) أنا ؟..
أم سليم : نعم .. أليست الزوجة التي تعمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المرأة القادرة على الاحتفاظ بزوجها مدى الحياة ؟.. أرأيت رجلاً أنعم الله عليه بزوجة صالحة ، إذا نظر إليها سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا أقسم عليها أبرته (18) ، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله ، أترين مثل هذا الزوج يتخلّى عن زوجته ، أو يتزوج عليها ؟
أم أيوب : ولكن ..
أم سليم : حاسبي نفسك أولاً يا أم أيوب .. وستجدين أن الزوج لا يفلت من يد المرأة لنقصه أو عيبه ، بل لقصورها أو عيبها .
أم أيوب : وبم تنصحينني الآن يا أم سليم ؟
أم سليم : أذكري يا أختاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل حسن رعاية الزوج ، والحرص على مرضاته ، وإعانته على آخرته ، يعدل من المرأة درجة الجهاد عند الرجل .. أو لا ترغبين في أن تتسنّمي (19) ذروة سنام الإسلام يا أختاه ؟
أم حكيم : هل غاب عنك يا أم أيوب أن من حق الزوج أن تعظمه زوجته إلى درجة السجود له ، لولا أن الله نهى عن السجود لسواه ؟ أنسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها "؟
أم سليم : أذكري يا أختاه تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ، فإنما هو عندك دخيل يوشك ان يفارقك إلينا " .
أبو عمير : آ ... آ ....
أم سليم : هذا أبو عمير .. أرجو أن يكون قد برئ بإذن الله ..
(تميل على فراش الطفل)
أم حكيم : (تضع يدها على جبينه) يا رب .
أبو عمير : (يشخر ويهمد) ..
أم سليم : أبو عمير .. ولداه .. ولداه ..
أم أيوب : ما لولدك يا أختاه ؟
أم سليم : (وهي تضم الطفل إلى صدرها بشدة) أبا عمير .. أبا عمير .. رجوت أن تكون قد برئت من الحمى يا فلذة كبدي ..
أم حكيم : أم سليم ..
أم سليم : (وهي تلمس جبينه بشفتيها) إنه هامد الحركة .. بارد الجبين ..
أم حكيم : (تلمس جبين الطفل بيدها ثم بشفتيها ثم تتأمل وجهه ثم تقول) : أم سليم .. احتسبي (20) ولدك عند الله يا أختاه ..
أم سليم : (تبكي بهدوء وهي تهزّ طفلها على صدرها يمنة ويسرة) عارية (21) مستردّة .. عارية مستردة ..
أم حكيم : إنك مؤمنة يا أم سليم .. فدعي جانب الأم الصابرة يغلب فيك جانب الأم الوالهة (22).
أم سليم : رضيت بما قسم الله .. الحمد لله .. لله الأمر من قبل ومن بعد .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..
أم أيوب : سأذهب لأخبر زوجك أبا طلحة ..
أم سليم : لا تفعلي يا أم أيوب ..
أم حكيم : ماذا أنت فاعلة إذن يا أم سليم ؟
أم سليم : أنا التي أخبر أبا طلحة بموت ولده .. أرجوكنّ .. لا تخبرنه بشيء حتى أكون أنا التي أفعل ..
أم حكيم : والطفل .. ماذا تفعلين به الآن ؟
أم سليم : نغسله ونكفنه وندعه حتى يأتي أبوه ويلقي عليه النظرة الأخيرة ثم نواريه غداً إن شاء الله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون .
أم أيوب : كان الله في عونك يا أم سليم ..
أم سليم : اللهم أفرغ علينا صبرك الجميل .. (تبكي بصمت) اللهم أفرغ علينا صبرك الجميل .
(تخرج وطفلها راقد على ذراعيها وخلفها أم حكيم وأم أيوب تبكيان مثلها بهدوء)
(تطفأ الأنوار ثم تضاء وتظهر أم سليم وهي تعدّ المائدة ، وولدها مسجّى)
أبو طلحة : (داخلاً) السلام عليك يا أم سليم ..
أم سليم : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
أبو طلحة : إن بالي مشغول على ولدي .. طمئنيني عليه يا زوجة الخير ..
أم سليم : إنه أسكن مما كان ..
أبو طلحة : (ينظر إلى مرقد الطفل) هلا أيقظته ليتعشّى معي .
أم سليم : بل تعشّ أنت ، فقد فرغ ..
أبو طلحة : حسبي الله ونعم الوكيل .. إن عملي ليملأ وقتي .. ولو كنت أقدر على إرجائه لما تركت طفلي على حاله ..
أم سليم : طفلك صالح يا أبا طلحة ، فانعم بالاً وأسعد حالاً .
أبو طلحة : ألا تتعشّين معي يا أم سليم .. غني لا أهنأ بالطعام حتى تأكلي معي ، وأكون انا الذي أرفع اللقمة الأولى إلى فمك يا خير زوجة ، ويا أعظم نعمة أنعمها الله عليّ بعد تقوى الله عزّ وجلّ ..
أم سليم : (بابتسام مصطنع) على رسلك (23) يا أبا طلحة .. تفضل يا خير زوج وأصب من رزقك ما تحب ..
(يجلس أبو طلحة ، وتجلس أم سليم إلى يساره ، فيتناول لقمة ويرفعها إلى فمها)
أبو طلحة : أأحدّثك عن همومي في العمل يا شريكة العمر ، أم تحدثينني أنت عن همومك في البيت يا زوجة الخير ؟
أم سليم : بل تحدثني أنت عما يهمك يا زوج الوفاء والنبل والفضل .
أبو طلحة : (وهو يتبادل اللقم مع زوجته) لا أكتمك يا صاحبتي إن الأمر يدعو إلى القلق .. فالشتاء قد تأخر ، والسماء لم تنهلّ (24) بالماء .. وأخشى أن يجف الزرع فتصيبنا سنة (25) ويشتدّ البلاء .
أم سليم : فوّض أمرك إلى من بيده الرزق يا زوج الخير .. ما يدريك يا أبا طلحة .. لعل الله رأى فينا قصوراً في الشكر ، فأراد أن يبتلينا ليسمع تضرّعنا ؟.. أليس هو القائل : " فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلّهم يضّرّعون " .
أبو طلحة : لا فضّ فوك (26) يا زوجة الخير .. إنك لتنطقين دوماً بالحق ، وتهدينني إلى سواء السبيل ..
أم سليم : إلى الله وحده نكِل (27) كل أمر .. ومنه وحده نطلب كشف كل ضرّ ..
أبو طلحة : (وهو يمسك يدها براحتيه) أم سليم .. أحببتك قبل أن اتزوجك لعقلك .. فكيف لا أحبك بعد ما تزوجتك لإيمانك .. (ينظر نحو الطفل ويبتسم) هل أمضي في مغازلتك أم أكف عن الكلام كيلا أوقظ طفلك الغارق في الأحلام ..
أم سليم : أمض فيما أنت فيه يا أبا طلحة .. فإنك لنعم الزوج الذي أوصى به الرسول الكريم .. ولا يهمني إلا رضاؤك بعد رضى الله عزّ وجلّ ..
أبو طلحة : (ينهض من مجلسه) والله لا أجد من الكلام ما يفيك حقك يا أم سليم .. يمين الله لو فقدت كل شيء وبقيت لي ما حفلت(28) بما فقدت ما دمت إلى جانبي تسعدينني بخلقك الكريم ، وتسعينني بقلبك الرحيم ..
(يضع يده على كتفها)
أم سليم : (بدلال) كيف وجدت عشاءك يا أبا طلحة ؟..
أبو طلحة : (ضاحكاً) وهل أجد أطيب مذاقاً من طعامك يا زوجة الهناء ؟. إن طعامك مثل كلامك .. يدخل الهناءة في القلب ، كما يسكب العافية في البدن .
أم سليم : (تتناول قارورة العطر وتتعطر منها) أيعجبك هذا الطيب يا أبا طلحة ؟
أبو طلحة : وكيف لا يا أم سليم ؟.. وهذا السكّ المعطر لا يدانيه طيب آخر بعد ان مسّته بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أم سليم : هاك السكّ فتطيّب منه إذن .. فإنه ينعش القلب ، ويحلّق بالروح ، ويجمّل الحياة .. ويكفيه قدراً أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب من الدنيا ثلاثة أحدها الطّيب .
أبو طلحة : (وهو يتطيب) صدقت يا أم سليم .. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله طيب يحب الطيب . نظيف يحب النظافة . كريم يحب الكرم . جواد يحب الجود " (تلوح منه التفاتة إلى ولده) أم سليم لم أعهد ولدك يغطّ في النوم من غير أن يتقلّب ذات اليمين وذات الشمال ..
أم سليم : أما قلت لك إنه أسكن مما كان ؟.. لقد بارحته الحمى . ولن يعاوده المرض ما دامت هذه مشيئة الله ..
أبو طلحة (متجهاً إلى مرقد ولده) سأصلح غطاءه ..
أم سليم : (محاولة صرف انتباهه عن ولده) ما رأيك يا أبا طلحة بما فعل جيراننا اليوم ؟
أبو طلحة : (يتوقف حالاً ويلتفت إلى زوجته) ماذا فعلوا يا أم سليم ؟
أم سليم : (تمسك بيده وتبعده عن فراش ولده) إجلس وأنا احدثك يا أبا طلحة .
(أبو طلحة يتمدد على الفراش ، وتجلس هي عند رأسه ، وتعبث بضفائر شعره)
أم سليم : زارتني أم حكيم وأم أيوب ..
أبو طلحة : نعمت الجارتان ، ونعمت الأختان ..
أم سليم : لقد طلبت مني أم أيوب أن أعينها في أمر ..
أبو طلحة : أعلم أنك لا تمنعين الماعون (29) عن أحد .. فعسى أن تكوني قد لبيت طلبها وقضيت حاجتها ..
أم سليم : نعم يا أبا طلحة .. أعنتها بما عندي ، ولكن ...
أبو طلحة : ولكن ماذا يا أم سليم ؟
أم سليم : لو ان جاراً استعار آنية جاره ، وبعد أن استعملها جاءه صاحبها وطلبها ، فهل يحق للمستعير أن يمنعها عن صاحبها ، ويحتفظ بها وكأنها ملكه الخاص ؟
أبو طلحة : معاذ الله .. لا ينبغي لأحد أن لا يردّ عاريةً إلى أهلها .. إن هذا لباطل .. إن هذا لظلم .. إن العارية مؤدّاة إلى اهلها .. وصاحب العارية أولى بها .. نعم والله .. إن المعير أحق بعاريته وأولى بها من المستعير ..
أم سليم : (تنهض واقفة) فاعلم إذن يا أبا طلحة ، أن ابنك عارية من الله ، وصاحب العارية قد استردّ عاريته ..
أبو طلحة : (يهبّ كالملسوع) ماذا تقولين يا أم سليم ؟..
(يسرع إلى الطفل الراقد)
أم سليم : نعم يا أبا طلحة .. فاحتسب ولدك عند الله ...
أبو طلحة : (يحملق في ولده بذهول) يا إلهي .. أبو عمير راقد رقدة الموت . وأنا .. أنا أبوه .. أطعم وأشرب واتطيّب .. وأنت تتجملين بالصبر كيلا تنغصّي عليّ مطعمي ومشربي .. رباه .. أية زوجة أنت من البشر حتى تتسامي إلى أفق الملائكة .. بل أي ملاك أنت حتى تحلّقي بخافقيك من الإيمان فوق البشر ..
(يفتح ذراعيه ويتجه إلى زوجته فترتمي في حضنه وتبكي بصمت) لا .. لا .. لا والله لا تغلبينني الليلة على الصبر ..(يضمها بشدة إلى صدره ويقبلها من رأسها عدة مرات) عليك الصلاة والرحمة يا أم سليم .. كما قال تعالى : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " ..
(يدعها برفق إلى ولده فينحني عليه ويقبله) أبا عمير .. أبا عمير .. (يبكي قليلاً) أحتسبك عند الله .. أحتسبك عند الله يا ولدي .. إنا لله وإنا إليه راجعون .
أم سليم : حبست دمعي لأجل زوجي .. وكتمت نحيبي لأجل ربي .. فالله نسأل أن يفرغ علينا الصبر .. وإياه ندعو أن يعوضنا عن فقده بخير .
أبو طلحة : (وهو منحن على ولده يبكي بهدوء) لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم .. إنا لله وإنا إليه راجعون .
أم سليم : (لنفسها) الآن أطلقي حزنك من عقاله (30) يا أم سليم .. فإن العين لتدمع .. وإن القلب ليحزن .. وإنا على فراقك يا أبا عمير لمحزونون .. ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا عزّ وجلّ ـ له الملك وله الحمد ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..
(تبكي بصمت بليغ مؤثر)
(يسمع صوت الديك)
أبو طلحة : لقد انتصف الليل ودنا الفجر ، وأوشك الله أن ينزل إلى السماء الدنيا ليقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟
أم سليم : نعم يا أبا طلحة .. وستشهد علينا ملائكة الليل كما شهدت علينا ملائكة النهار .. أننا أهل بيت فوّضنا أمرنا إلى الله ، ونزلنا على حكم الله ، ولا اعتراض لنا على مشيئة الله ..
أبو طلحة : (ينظر في وجه ولده ثم يرفع رأسه ثم يدعو) : اللهم اجعله لنا فرَطاً (31) .. اللهم اجعله لنا ذخراً وأجراً .. اللهم اجعله لنا شافعاً ومشفعاً ..
(يسمع الأذان)
أبو طلحة : هذا بلال يؤذن للفجر .. سأتوضأ وامضي إلى الصلاة .
أم سليم : (تتجه إلى الطفل الراقد وترفعه بين يديها) بعد قليل نواريك التراب يا أبا عمير ، وتبتعد عنا إلى الأبد .. حتى يجمعنا الله في مستقر رحمته ..
(تخرج وهو على يديها مرفوعة الرأس ثابتة الخطى منتصبة الهام)
الراوية : ومضى ابو طلحة إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي بخبر هذه الزوجة الفاضلة ، والأم الصابرة ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبارك الله لهما في ليلتهما . واستجاب الله لدعاء نبيه ، وعوّض هذين الزوجين الكريمين خيراً .. فرزقهما بغلام سماه الرسول عبدالله بن أبي طلحة .. وكبر الغلام ، وتزوج ، ورزقه الله سبعة بنين كلهم قد ختم القرآن الكريم ..
فسلام على هذه الأم الجليلة .. المؤمنة بحق .. المجاهدة بصدق ..
سلام على أم سليم .. التي باركها رسول رب العالمين ..
وسلام على كل زوجة وأم تحظى برضى الله إلى يوم الدين ..
شرح الكلمات :
(1) النغير : تصغير النغر وهو فرخ العصفور .
(2) صعوة : طائر أصغر من العصفور .
(3) حيطان : جمع حائط وهو البستان .
(4) الصّداق : المهر .
(5) يقيل : من قال أي نام وسط النهار .
(6) النطع : بساط من الجلد .
(7) السّك : نوع من المسك .
(8) أسجّه : أغطيه .
(9) ترقيه : تعوذه .
(10) أشغف به : أحبه وأولع به .
(11) السقاء : الوعاء من الجلد يحفظ فيه اللبن أو الماء .
(12) حويصة : تصغير خاصة ، أي شيئاً يخص صاحبه .
(13) يُشاك : تدخل في جسده شوكة .
(14) مكتل : قُفة .
(15) ممتقعة الوجه : تغير لونه من حزن أو مرض ..
(16) بعل : زوج .
(17) التبعل : القيام بحق الزوج .
(18) أبرّته : أمضت يمينه .
(19) تتسنمي : ترتفعي علي .
(20) احتسبي ولدك عند الله : أي اصبري على وفاته ولك عند الله أجر الصبر .
(21) عارية : ما يعار .
(22) الوالهة : التي اشتدّ حزنها حتى ذهب عقلها .
(23) على رسلك : لا تعجل .
(24) تنهل : تسقي .
(25) سنة : قحط .
(26) لا فضّ فوك : دعاء لمن اجاد في الكلام ، أي لا نثرت أسنانك ولا فرقت .
(27) نكل : نسلم .
(28) حفل : اهتم .
(29) الماعون : كل ما ينتفع به من أشياء البيت .
(30) عقال : رباطه .
(31) فرطاً : أي أجراً يتقدمنا حتى نرد عليه .